الموسوعة القرآنية فَيْضُ العَليمِ ... سورة الحِجر، الآية21
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ} عامَّةُ المُفَسِّرينَ عَلى أَنَّ المُرادَ بِـ "شَيْءٍ" هنا المَطَرُ، لأَنَّهُ سَبَبُ الرِّزْقِ لبَني آدَمَ جميعًا ولغَيْرِهم أَيضًا مِنَ الدَوَابِّ والوُحوشِ والطُيُورِ، فقد ذَكَرَ ـ سُبْحانَهُ، في الآيَةِ التي قَبْلَها أَنَّهُ جَعَلَ لهم مَعَايِشَ، فَبَيَّنَ في هذِهِ الآيَةِ أَنِّ خَزائنَ المَطَرِ مَوْجودَةٌ عِنْدَهُ، أَي: فِي أَمْرِهِ وتَحْتَ سَيْطَرَتِهِ وتَدْبِيرِهِ وحُكْمِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ في تفسيرِهِ (جامعِ البيانِ ط هجر): (14/40)، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ" قَالَ: الْمَطَر خاصّةً. وأَخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، نحوَهُ. وقِيلَ الْمُرَادُ بِـ (الشَّيْءِ) مَا هُوَ نَافِعٌ لِلنَّاسِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ في الآيةِ التي قبلَها "وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ". وَفِي الْكَلَامِ حَذْفُ الصِّفَةِ كَما قَالَ تَعَالَى في الآية: 79، مِنْ سُورةِ الكهفِ: {يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}، أَيْ سَفِينَةٍ صَالِحَةٍ. والخَزَائنُ جَمْعُ خِزانَةٍ، وهِيَ اسْمٌ للمَكانِ الذي تُخَزَّنُ الأَشْيَاءُ فِيهِ وتُحْفَظُ، وتُطْلَقُ الخِزانَةُ أَيْضًا ويُرَادُ بِهَا عَمَلُ الخَازِنِ، يُقالُ خَزَنَ الشَيْءَ يَخْزِنُهُ خَزْنًا إِذا أَحْرَزَهُ في خِزَانةٍ، فهوَ خازنٌ وعَمَلُهُ الخِزانَةُ. وَقد مُثِّلَ بها لِصُلُوحِيَّةِ الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ على تَكْوِينِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ. فشُبِّهَتْ هَيْئَةُ إِيجَادِ الْأَشْيَاءِ النَّافِعَةِ بِهَيْئَةِ إِخْرَاجِ الْمَخْزُونَاتِ مِنَ الْخَزَائِنِ، وذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ الْمَكْنِيَّةِ، وَرُمِزَ إِلَى الْهَيْئَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا بِمَا هُوَ مِنْ لَوَازِمِهَا وَهُوَ الْخَزَائِنُ. وَشَمَلَ ذَلِكَ الْأَشْيَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ فِي الْعَالَمِ الَّتِي تَصِلُ إِلَى النَّاسِ بِدَوَافِعَ وَأَسْبَابٍ تَسْتَتِبُّ فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ، أَوْ بِتَرْكِيبِ شَيْءٍ مَعَ شَيْءٍ مِثْلَ نُزُولِ الْبَرْدِ مِنَ السَّحَابِ، وَانْفِجَارِ الْعُيُونِ مِنَ الْأَرْضِ. فقدْ أَخْرَجَ الْبَزَّارُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ ــ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَزَائِنُ اللهِ الْكَلَامُ، فَإِذا أَرَادَ شَيْئًا قَالَ لَهُ (كُنْ) فَكَانَ)). وأخرجَهُ أَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ: (2/488 ـ بِرَقَم: 155)، والدَيْلَمِيِّ: (2/194، رقم: 2965).
قولُهُ: {وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} أَي: أَنَّهُ ـ سُبحانَهُ، ينزِّلُ المَطَرَ بالقَدْرِ الذي يَكْفِي خَلْقَهُ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ: "وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" قَالَ: الْمَطَر. وأخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَكِنَّ اللهَ يُصَرِّفُهُ بَيْنَ عِبَادِهِ، وَقَرَأَ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} الآية: 50، مِنْ سُورَةِ الفُرْقانِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَمْطَرَ مِنْ عَامٍ، وَلَكِنَّ اللهَ يَصْرِفُهُ حَيْثُ يَشَاءُ، ثُمَّ قَرَأَ: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ". وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْهُ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (العَظَمَةِ) عَنِ الحَكَمِ بْنِ عُتَيْبَةَ الكِنْدِيُّ الكوفيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" قَالَ: مَا مِنْ عَامٍ بِأَكْثَرَ مَطَرًا مِنْ عَامٍ وَلَا أَقَلَّ ولكِنَّهُ يُمْطَرُ قَوْمٌ وَيُحْرَمُ آخَرُونَ، وَرُبَّمَا كَانَ فِي الْبَحْرِ. أيْ: ربَّما كان المطرُ في البحر. وقَالَ الحَكَمُ أيضًا: وبَلَغَنَا أَنَّهُ يَنْزِلُ مَعَ الْقَطْرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ وَلَدِ إِبْلِيسَ وَوَلَدِ آدَمَ، يُحْصُونَ كُلَّ قَطْرَةٍ حَيْثُ تَقَعُ وَمَا تُنْبِتُ، وَمَنْ يُرْزَقُ ذَلِكَ النَّبَاتَ. و "قَدَرٍ" بِوَزْنِ (فَعَلَ) بِفَتْحَتَيْنِ، اسْمٌ لِمَا يُقَدِّرُهُ اللهُ تعالى، وتَعَلُّقُ الإرادةِ فِي أَوْقاتِهَا. وَالْمُرَادُ بـ "مَعْلُومٍ" أَنَّهُ مَعْلُومُ تَقْدِيرِهِ عِنْدَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى. وَفي قَوْلِهِ: "وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ" إِطْلاقٌ للْإِنْزَالِ عَلَى تَمْكِينِ النَّاسِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي خَلَقَهَا اللهُ لِنَفْعِهِمْ، كما أَنَّ قَولَهُ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الآية: 29، مِنْ سُورةِ البقرةِ إِطْلَاقٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّ مَا خَلَقَهُ اللهُ لَمَّا كَانَ مِنْ أَثَرِ أَمْرِ التَّكْوِينِ الْإِلَهِيِّ شَبَّهَ تَمْكِينَ النَّاسِ مِنْهُ بِإِنْزَالِ شَيْءٍ مِنْ عُلُوٍّ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ مِنَ الْعَالَمِ اللَّدُنِّيِّ، وَهُوَ عُلُوٌّ مَعْنَوِيٌّ، أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنَّ تَصَارِيفَ الْأُمُورِ كَائِنٌ فِي الْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآيةِ السادسةِ مِنْ سُورَةِ الزُّمُر: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ}، وَقَوْلِهِ تَعَالَى في الآية: 12، مِنْ سُورَةِ الطَّلَاقِ: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "إنْ" نَافِيَةٌ بِمَعْنَى (ما). و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ زائدٍ، و "شَيْءٍ" مَجرورٌ لَفْظًا بِحَرفِ الجرِّ الزائدِ، مرفوعٌ محلًّا بالابْتِداءِ، وسَوَّغَ الابْتِداءَ بالنَّكِرَةِ وقوعُهُ في سِياقِ النَّفْيِ، و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ، (أَداةُ حصْرٍ). و "عِنْدَنَا" منصوبٌ على الظَرْفِيَّةِ متعلِّقٌ بِمحذوفِ خَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وهو مُضافٌ، وضميرُ التعظِيمِ "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "خَزَائِنُهُ" مُبْتَدَأٌ ثانٍ مُؤَخَّرٌ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثاني وخَبَرِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ للمُبْتَدَأِ الأَوَّلِ، والجُمْلةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الأَوَّلِ وَخَبَرِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} الواوُ: عاطِفَةٌ، و "ما" نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. و "نُنَزِّلُهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفْعُولٌ بِهِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ، و "بِقَدَرٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُنَزِّلُ"، ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حَالٌ مِنَ المَفْعُولِ، أَيْ: إِلَّا مُلْتَبِسًا بقَدَرٍ، و "قَدَرٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، و "مَعْلُومٍ" صِفَةٌ لِـ "قَدَرٍ"، مجرورةٍ مثله، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ السابِقَةِ.