لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ
(13)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} يُوضِحُ اللهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، أَنَّ قُلوبَ الكَفَرَةِ لا تَلِينُ بالإيمانِ؛ ولا تُحْسِنُ اسْتِقْبالَ القُرْآنِ الكَريمِ، ذَلِكَ أَنَّ قُلوبَهُمْ مُمْتَلِئَةٌ بالكُفْرِ، تَمامًا كَمَا كانَ حالُ الأَقْوامِ السَّابِقَةِ، فَتِلْكَ هي سُنَّةُ مَنْ سَبَقُوهم "لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ" أَيْ: لا يُؤْمِنُونَ بِهَذَا القُرْآنِ، والسُّنَّةُ هِيَ الطَريقةُ، وقالَ بَعْضُ أَهْلِ التَأْويلِ: "لَا يُؤمِنُونَ بِه" أَيْ: لا يُصَدِّقونَ بالعَذَابِ. و "وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ" وَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ اللهِ بإهْلاكِ الكُفَّارِ، فَمَا أَقْرَبَ هؤلاءِ مِنَ الهَلاكِ والدَّمارِ؟ ويَحْتَمِلُ قولُهُ: "وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ" أَيْ: بتَكْذيبِ رُسُلِ اللهِ، والرَّدِّ في أفواهِهم، ومُعانَدَتِهم، والكِبْرِ والمُكابَرَةِ، بَعْدَ قِيامِ الحِجَجِ والآياتِ والبراهينِ الواضِحَةِ الجَليَّةِ. فهَؤُلَاءِ يَسْتَنُّونَ بِسُنَةِ أُلائكَ. ويَحْتَمِلُ: "وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ" أيْ: بالهَلاكِ والاسْتِئْصالِ عِنْدَ مُكابَرَةِ حُجَجِ اللهِ، ومُعَانَدَتِها. وَقيلَ: "وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ" أَيْ: قَدْ عُلِمَ مَا فَعَلَ تَعَالَى بِمَنْ كَذَّبَ رُسُلَهُ مِنَ الْهَلَاكِ وَالدَّمَارِ، وَكَيْفَ أَنْجَى اللهُ تَعَالى الْأَنْبِيَاءَ وَأَتْبَاعَهُمْ فِي الدُنْيا وسينجيهم في الآخِرَةِ. وَقَدْ مَضَتْ وَقَائِعُ اللهِ تَعَالَى بِالْإِهْلَاكِ فِيمَنْ كَذَّبَ الرُّسُلَ مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، وفي تَخْويفُ لأَهْلِ مَكَّةَ وتهديدٌ لهم بأَنَّهم سَيَجْري عَلَيْهم ما جَرَى عَلَى الكافرينَ مِنَ الأُمَمِ السَّالِفَةِ قبلَهم.
وَأَخرجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لَا يُؤمنُونَ بِهِ} قَالَ: إِذا كذَّبُوا سَلَكَ اللهُ فِي قُلُوبِهم أَنْ لَا يُؤْمِنُوا بِهِ و "وَقدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلينَ" قَالَ: وَقائعُ اللهِ فِيمَنْ خَلا مِنَ الْأُمَمِ.
وبعدُ فإنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ مُقَرِّرَةٌ لِمَا قَبْلَهَا، لأَنَّهُ إِذا كانَ البَاطِلُ قَدْ دَخَلَ فِي قُلوبِهم دُخُولُ الخَيْطِ فِي المِخْيَطِ، فإِنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَجْتَمِعَ والحَقُّ فِي قَلْبٍ واحِدٍ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُؤْمِنُوا بالذِّكْرِ الحَكِيمِ، وَقَدْ مَضَتْ طريقَةُ الأَوَّلِينَ. وفيها إِشارَةٌ إِلَى اسْتِمْكانِ الكُفْرِ والضَّلالِ في نُفُوسَهم، وقَرارِهِ فِيهِمَا، وَأَنَّهُ لَا رَجَاءَ لِمَنْ كانَتْ هَذِهِ حالَهُ، وإِلى مآلِ أُولئكَ الماضِينَ مِنْ الهلاك، فَلا تَظُنَنَّ أَيُّها الرَّسُولُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، أَنَّ كُفْرَهم لِنَقْصٍ في المُعْجِزَةِ التي جِئْتَهم بِها، إِنَّما ذَلِكَ لأَنَّهم صَدُّوا عَنِ الحَقِّ، فَلَوْ جِئْتَ بِالمُعْجِزاتِ التي لَا يُجادِلُ فِيها العُقَلاءُ لجادلُوا فيها. وهو كما قالَ اللهُ تعالى في الآيتينِ: (14 و (15) مِنْ هَذِهِ السُورةِ: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ}.
قولُهُ تَعَالَى: {لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} لَا: نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يُؤْمِنُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ. و "بِهِ" الباءُ: سَبَبِيَّةٌ وهي حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤْمِنُونَ"، ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفِ حالٍ مِنْ فاعِلِ "يُؤْمِنونَ" المَنْفِي، أَيْ: مُسْتَهْزِئينَ بِهِ. قالَهُ أَبُو البَقاءِ العُكْبُريُّ. وقالَ السَّمينُ الحَلَبيُّ: كأَنَّهُ جَعَلَ "بهِ" مُتَعَلِّقًا بالحَالِ المَحْذوفَةِ قائمًا مَقامَها، وهوَ مَرْدودٌ؛ لأَنَّ الجارَّ إِذا وَقعَ حالًا أَوْ نَعْتًا أَوْ صِلَةً أَوْ خَبَرًا، تَعَلَّقَ بِكَوْنٍ مُطْلَقٍ لا خَاصٍ، وَكَذَا الظَّرْفُ. والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرْفِ الجرِّ بحرفِ الجرِّ وهذا الضميرُ عائدٌ عَلَى الإِشَارَةِ، ويجوز عَوْدُها على ما تقدَّم مِنَ الثَلاثَةِ، ويَكونُ تَأْويلُ عَوْدِها عَلَى الاسْتِهْزاءِ والشِّرْكِ، أَيْ: لا يُؤْمنونَ بِسَبِبِهِ. وقيلَ: يعودُ للرَّسُولِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وقِيلَ: يعودُ للقُرْآنِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ قولِهِ: {الْمُجْرِمِينَ} منَ الجملةِ السابقةِ، أَوْ هِيَ جُمْلَةٌ مُستأنَفةٌ اسْتِئْنافًا بَيَانِيًّا أوْ تَفَسيريًّا لِقَوْلِهِ {نَسْلُكُهُ} مِنَ الجملةِ السابقةِ، وعَلَى كِلا الحالينِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ، و "قد" حَرْفُ تَحْقِيقٍ، و "خَلَتْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقَدَّرِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفَةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، والتاءُ: للتَأنْيثِ الفاعِلِ، و "سُنَّةُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ وهو مُضافٌ، و "الْأَوَّلِينَ" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالِمُ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.