سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ
(50)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} السَّرابيلُ: جَمْعُ سِرْبالٍ وَهوَ ما يَلِي الجَسَدِ منَ الثيابِ، وَالْفِعْلُ تَسَرْبَلْتُ وَسَرْبَلْتُ غَيْرِي، قَالَ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ:
تَلْقَاكُمُ عَصَبٌ حَوْلَ النَّبِيِّ لَهُمْ ....... مِنْ نَسْجِ داودَ في الهَيْجا سَراويلُ
وسَرْبَلْتُه، أَيْ: أَلْبَسْتُهُ السِّرْبَالَ. قالَ الشاعِرُ الجَاهِلِيُّ عَمْرُو بْنُ مِلْقَطٍ الطائيُّ، وقيل: هو بِشْرُ بْنُ أَبي خازِمٍ: مِنَ السَّريعِ.
مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ؟ ....................... أَوْدَى بنَعْلَيَّ وسِرْباليَهْ
ويُطلقُ على ما يُحَصِّنُ في الحَرْبِ، مِنَ الدِّرْعِ وَشِبْهِهِ، قالَ تَعَالَى في سورةِ النَّحلِ: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} الآية: 81. وإِذا كانَتْ السرابيلُ مِنْ قَطرانٍ فَهَذا يَعْنِي أَنَّها سَوْداءُ اللّوْنِ، كَريهَةُ الرَّائحَةِ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ لِاشْتِعَالِ النَّارِ فِيهِمْ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حديثِ أَبي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ: ((إِذَا لَمْ تَتُبِ النَّائِحَةُ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)). أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (5/344 ، برقم: 22963)، ومُسْلِمٌ: (2/644، برقم: 934). وأَبُو يَعْلَى: (3/148، برقم: 1577). والطَبَرانِيُّ: (3/285، رقم 3425). وابْنُ حِبَّان: (7/412، بِرقم: 3143). وَهَذَا في مُقابِلِ مَا كانوا يُفاخِرونَ بِهِ في الحياةِ الدُنْيا مِنْ فارِهِ الثِيابِ، التَي كانَتْ هَمَّهُمُ الذي كانوا يَشْتَغِلونَ بِهَا فَتَحْجُبُهُمْ عَنِ اللهِ تَعَالَى. وَفي الْقَطِرَانِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: قَطْرَانٌ، وقِطْرانٌ، وَقَطِرانٌ، بِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الطَّاءِ وَبِفَتْحِ الْقَافِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، والقَطِران: ما يُسْتَخْرج مِنْ شجرٍ، فيُطبخ وتُطْلَى به الإِبلُ الجُرُبُ لِيَذْهَبَ جَرْبُها بِحِدَّته، وهو أفضلُ الأشياءِ للاشْتِعالِ بِهِ. وَالْقَطِرَانُ: دَهْنٌ مِنْ تَرْكِيبٍ كِيمْيَاوِيٍّ قَدِيمٍ عِنْدَ الْبَشَرِ يَصْنَعُونَهُ مِنْ إِغْلَاءِ شَجَرِ الْأَرْزِ وَشَجَرِ السَّرْوِ وَشَجَرِ الْأُبْهُلِ ـ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ وَبَيْنَهُمَا مُوَحَّدَةٌ سَاكِنَةٌ، وَهُوَ شَجَرٌ مِنْ فَصِيلَةِ الْعَرْعَرِ. وَمِنْ شَجَرِ الْعَرْعَرِ بِأَنْ تُقْطَعَ الْأَخْشَابُ وَتُجْعَلَ فِي قُبَّةٍ مَبْنِيَّةٍ عَلَى بَلَاطٍ سَوِيٍّ وَفِي الْقُبَّةِ قَنَاةٌ إِلَى خَارِجٍ. وَتُوقَدُ النَّارُ حَوْلَ تِلْكَ الْأَخْشَابِ فَتَصْعَدُ الْأَبْخِرَةُ مِنْهَا وَيَسْرِي مَاءُ الْبُخَارِ فِي الْقَنَاةِ فَتَصُبُّ فِي إِنَاءٍ آخَرَ مَوْضُوعٍ تَحْتَ الْقَنَاة فيتجمع منهما سائلٌ أَسْوَدُ يَعلوهُ زَبَدٌ خاثرٌ أَسْوَدُ. فَالْمَاءُ يُعْرَفُ بِالسَّائِلِ وَالزَّبَدُ يُعْرَفُ بِالْبَرْقِيِّ. وَيُتَّخَذُ لِلتَّدَاوِي مِنَ الْجَرَبِ لِلْإِبِلِ، وَلِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَوْصُوفٌ فِي كُتُبِ الطِّبِّ. وَيُطْلَى بِهِ الْإِبِلُ الْجَرِبُ فَيَحْرِقُ الْجَرَبَ بِحَرَارَتِهِ وَحِدَّتِهِ، وَقَدْ تَصِلُ حَرَارَتُهُ إِلَى دَاخِلِ الْجَوْفِ، وَمِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَتَسَارَعَ فِيهِ اشْتِعَالُ النَّارِ، وَهُوَ أَسْوَدُ اللَّوْنِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَتُطْلَى بِهِ جُلُودُ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى يَصِيرَ ذَلِكَ الطَّلْيُ كَالسَّرَابِيلِ، وَهِيَ الْقُمُصُ فَيَحْصُلُ لهم بِسَبَبِهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ: لَذْعُ الْقَطِرَانِ وَحُرْقَتُهُ، وَإِسْرَاعُ النَّارِ فِي جُلُودِهِمْ، وَاللَّوْنُ الْوَحْشُ، وَنَتْنُ الرِّيحِ، وَأَيْضًا التَّفَاوُتُ بَيْنَ قَطِرَانِ الْقِيَامَةِ وَقَطِرَانِ الدُّنْيَا كَالتَّفَاوُتِ بَيْنَ النَّارَيْنِ فيهِما. وَلكَنَّ نَارَ الآخرةِ لَا تَحرقُ ذَلِكَ الْقَطِرَانَ وَلَا تُفْنِيهِ كَمَا لَا تُهْلِكُ أَجْسَادَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي عَلَيْهِمْ.
قولُهُ: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} تَغشَى: تُغَطِّي النارُ وُجوهَهُم وتُهَيْمِنُ عَلَيْها. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى في سُورَةِ الزُمَر: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} الآيةَ: 24، وَقَوْلُهُ في سُورَةِ القَمَرِ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ} الْآية: 48. وَلأَنَّ مَوْضِعَ الْمَعْرِفَةِ وَالنَّكِرَةِ، وَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ، هُوَ الْقَلْبُ، وَمَوْضِعَ الْفِكْرِ وَالْوَهْمِ وَالْخَيَالِ هُوَ الرَّأْسُ. وَأَثَرُ هَذِهِ الْأَحْوَالِ إِنَّمَا يَظْهَرُ فِي الوَجْهِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ خَصَّ اللهُ تَعَالَى هَذَيْنِ الْعُضْوَيْنِ بِظُهُورِ آثَارِ الْعِقَابِ فِيهِمَا فَقَالَ فِي الْقَلْبِ: نارُ اللهِ الْمُوقَدَة *ُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} الآيتان: (6 و 7) منْ سورةِ الْهُمَزَةِ، وَقَالَ فِي الوجْهِ: "وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ" بِمَعْنَى تَتَغَشَّى.
قولُهُ تَعَالَى: {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ} سَرَابِيلُهُمْ: مَرْفوعٌ بالابتداءِ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرِ المُبْتَدَأِ، و "قَطِرَانٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وهذهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ الضَميرِ في قولِهِ: {مُقَرَّنِينَ} مِنَ الجُمْلَةِ التي قبلَها، أَوْ مِنْ {الْمُجْرِمِينَ}، أَوْ مِنْ {مُقَرَّنِينَ}. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، وهوَ الظاهِرُ.
قولُهُ: {وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "تَغْشَى" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِهِ، لتعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، و "وُجُوهَهُمُ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "النَّارُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى الجُمْلَةِ التي قَبْلَها.
قَرَأَ العامَّةُ: {مِنْ قَطِرانٍ}، وَقَرَأَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ، وعَلِيُّ بْنُ أَبي طالِبٍ، والحَسَنُ، بِخِلافٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وأَبُو هُرَيْرَةَ وعَلقَمَةُ، وسِنَانُ بْنُ سَلَمَةَ، وعِكْرِمَةُ، وابْنُ سِيرينَ، وابْنُ جُبَيْرٍ، والكَلْبِيُّ، وقَتَادَةُ، وعَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ، ويَعْقوبُ: "مِنْ قِطْرٍ آنٍ" عَلَى كَلِمَتَيْنِ مُنَوَّنَتَيْنِ، وَالْقِطْرُ: هوَ القصديرُ أَوِ النُّحَاسُ أَوِ الصُّفْرُ الْمُذَابُ، ورُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ بالقَطِرَانِ ولَكِنَّهُ النُّحاسُ يَسُرُّ بِلَوْنِهِ. وَالْآنِي: هُوَ الْمُتَنَاهِي فِي ارْتِفَاعِ دَرَجَةِ حَرارَتِهِ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ "قَطْرَانٍ" بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَسْكِينِ الطَّاءِ. وَفِيهِ قِرَاءَةٌ ثَالِثَةٌ: "قِطْران" كَسْرُ الْقَافِ وَجَزْمُ الطَّاءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ:
جَوْنٌ كَأَنَّ الْعَرَقَ الْمَنْتُوحَا .................... لَبَّسَهُ الْقِطْرَانَ وَالْمُسُوحَا
وقرئ: "وتَغَشَّى" بِتَشْديدِ الشِّينِ، أَيْ: وتَتَغَشَّى، فَحَذَفَ إِحْدَى التّاءَيْنِ.
وقُرِئ بِرَفْعِ "وجوهُهُم" ونَصْبِ "النَّارِ" عَلى سَبيلِ المَجَازِ، جَعَلَ وُرُودَ الوُجُوهِ النَّارَ غِشْيانًا.