فيض العليم ... سورة إبراهيم، الآية: 14
وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} الْخِطَابُ لِلرُّسُلِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِمْ، فَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَسْكُنَ الرَّسُولُ بِأَرْضِ عَدُوِّهِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ لَهُ السُّلْطَانُ عَلَيْهَا وَأَنْ يَسْكُنَهَا الْمُؤْمِنُونَ، وإِسْكَانُهُمُ الْأَرْضَ: تَمْكِينُهُمْ مِنْهَا وَتَخْوِيلُهَا إِيَّاهُمْ، أَيْ مِنْ أَرْضِهم ودِيارِهم عُقوبَةً لَهمْ لِقَوْلِهم {لَنُخْرِجَنَّكم مِنْ أَرْضِنَا} الآية: 13، السابقة. كَقَوْلِهِ تَعَالى في الآيَةِ: 27، مِنْ سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ}. و "مِن بَعْدِهِمْ" أَيْ مِنْ بَعْدِ إِهْلاكِهم، وقدْ مَكَّنَ اللهُ تعالى لِرَسُولِهِ مَكَّةَ وَأَرْضَ الْحِجَازِ وَأَسْكَنَهَا الَّذِينَ آمَنُوا بَعْدَ فَتْحِهَا، وتقدَّمَ في الآيةِ السابقةِ قولُهُ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((نَحْنُ نَازِلُونَ غَدًا بِخَيْفِ بَنِي كِنَانَةَ، حَيْثُ تَقَاسَمُوا عَلَى الْكُفْرِ)).
أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي الْآيَة قَالَ: كَانَتِ الرُّسُلُ والمُؤْمِنُونَ يَسْتَضْعِفُهم قَومُهمْ، ويَقْهَرونَهم، ويُكَذِّبونَهم، ويَدْعونَهم إِلَى أَنْ يَعُودوا فِي مِلَّتِهم، فَأَبَى اللهُ لِرُسُلِهِ والمؤمنينَ أَنْ يَعودوا فِي مِلَّةِ الْكُفْرِ، وَأَمَرَهمْ أَنْ يَتَوَكَّلوا عَلى اللهِ، وَأَمَرَهمْ أَنْ يَسْتَفْتِحوا عَلى الْجَبَابِرَةِ، وَوَعَدَهُمْ أَنْ يُسْكِنَهُم الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهمْ، فأَنْجَزَ اللهُ لَهُم وَعْدَهم، واسْتَفْتَحُوا فسأَلوهُ الفتحَ والنَّصْرَ كَمَا أَمَرَهُمُ اللهُ أَنْ يَسْتَفْتِحوا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "ولَنُسْكِنَّنَكُمُ الأَرْضَ مِنْ بَعْدِهمْ" قَالَ: وَعَدَهمُ النَّصْرَ فِي الدُّنْيَا، وَالْجَنَّةَ فِي الْآخِرَةِ، فَبَيَّنَ اللهُ تَعَالَى مَنْ يُسْكِنُهَا مِنْ عِبَادِهِ فَقَالَ في سورةِ الرحمنِ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} الآيَة: 46، وَإِنَّ للهِ مَقَامًا هُوَ قائمُهُ، وَإِنَّ أَهْلَ الإِيمانِ خَافُوا ذَلِك الْمَقَامَ فَنَصِبُوا، وَدَأَبوا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ.
قولُهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} الإِشَارَةٌ بـ "ذَلِكَ" إِلَى الْإِهْلَاكِ وَالْإِسْكَانِ الْمَذْكُورِيْنِ الْمَأْخُوذَيْنِ مِنْ قولِهِ في الآيةِ: 13: "لَنُهْلِكَنَّ"، وقولِهِ في الآيةِ: 14: "لَنُسْكِنَنَّكُمُ". فإنَّ اسْمَ الإشارةِ "ذلكَ" عَائدٌ إِلَيْهِمَا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وهو كَقَوْلِهِ تَعَالى في سُورَةِ الفُرْقانِ: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثامًا} الْآية: 68. وَاللَّامُ هنا في "لمن" هي لِلْمِلْكِ، أَيْ ذَلِكَ عَطَاءٌ وَتَمْلِيكٌ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي، وهو كَما قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 8، مِنِ سورةِ البيِّنَةِ: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. وَالْمَعْنَى: ذَلِكَ الْوَعْدُ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي، أَيْ ذَلِكَ لَكُمْ لِأَنَّكُمْ خِفْتُمْ مَقَامِي، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْخطابِ إِلَى (لِمَنْ) خافَ مَقامِي لِدَلَالَةِ الْمَوْصُولِ عَلَى الْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ الصِّلَةَ عِلَّةٌ فِي حُصُولِ تِلْكَ الْعَطِيَّةِ. و "خافَ مقامي" أَيْ خافَ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأُضِيفَ الْمَصْدَرُ إِلَى الْفَاعِلِ. وَالْمَقَامُ مَصْدَرٌ كَالْقِيَامِ، يُقَالُ: قَامَ قِيَامًا وَمَقَامًا، وَأَضَافَ ذَلِكَ إِلَيْهِ تعالى لاخْتِصاصِهِ بِهِ. و "مَقام" (بِفَتْحِ المِيمِ): مَكانُ الإقامَةِ، وَ "مُقام" بِضَمِّها: فِعْلُ الْإِقَامَةِ، وَ "ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي" أَيْ هذا الجزاءُ لمنْ خافَ قِيَامِي عَلَيْهِ، وَمُرَاقَبَتِي لَهُ، كما قَالَ اللهُ تَعَالَى في الآيةِ: 33، مِنْ سورةِ الرعْدِ: {أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ}. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: "ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي" أَيْ خافَ عَذَابِي، و "وَخافَ وَعِيدِ" أَيِ الْقُرْآنَ وَزَوَاجِرَهُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ العَذابُ. والوَعِيدُ: هو الاسْمُ مِنَ الوَعْدِ.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ} الواوُ: عاطِفَةٌ. واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "نُسْكِنَنَّكُمُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكِيدِ الثَّقيلَةِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلى اللهِ تَعَالَى، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أَوَّل، والمِيمُ علامةُ جَمْعِ المُذكَّرِ. و "الْأَرْضَ" مفعولٌ بِهِ ثانٍ مَنْصوبٌ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُسْكِنَنَّكم"، و "بَعْدِهِمْ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ علامةُ جَمْعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه جوابُ القَسَمِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "لَنُهْلِكَنَّ" عَلَى كَوْنِها مَقُولًا لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ كما تقدَّمَ في محلِّهِ.
قولُهُ: {ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} ذَلِكَ: ذا: اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، والإشارَةُ إِلَى النَّصْرِ وإِيراثِ الأَرْضِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخطابِ. و "لِمَنْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخبرِ المبتدَأِ و "مَنْ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجُملةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولٌ لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ. و "خَافَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ" و "مَقامي" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ منعَ مِنْ ظهورِها انشِغالُ المَحَلِّ بالحركةِ المناسبةِ لياءِ المتكلِّمِ، وهو مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ "مَنْ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، و "وَخَافَ" الواوُ: للعَطْفِ، و "خَافَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "مَنْ". و "وَعِيدِ" مَفْعولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ، وعَلامَةْ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلى مَا قَبْلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفَةِ اجْتِزاءً عَنْها بالكَسْرَةِ المَمْنُوعَةِ بِسُكونِ الوَقْفِ، والجملةُ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، عَطْفًا عَلى جُمْلَةِ "خَافَ" الأَوْل على أنَّها صلةُ "مَنْ" الموصولة.
قرأَ العامَّةُ: "وَعِيْد" هنا وفي سورةِ (ق) عندَ قولِهِ: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} الآية: 14، بحذفِ الياءِ وَصْلًا ووقْفًا، وأَثْبَتَها ورشُ عنْ نَافعٍ في المَوْضِعَيْنِ وَصْلًا، وحَذَفَها وَقْفًا.