وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ( قولُهُ ـ جَلَّ وَعَزَّ: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} وقالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ بني إِسْرائيلَ: إِنْ تَجْحَدُوا نِعَمَ اللهِ ولا تَشْكُروها بالإيمانِ والطاعَةِ، أَنْتُمْ وجَميعُ مَنْ في الأَرْضِ، فإِنَّ ذَلِكَ لَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئًا، لأَنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْ شُكْرِ الشَّاكِرينَ، مُسْتَوْجِبَ الحَمْدِ بِذَاتِهِ، وإِنْ لَمْ يَحْمَدْهُ أَحَدٌ. وإِعَادَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ لِتَوْجِيهِ الاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ وَالتَنْوِيهِ بِهَا حَتَّى تَبْرُزَ مُسْتَقِلَّةً وَحَتَّى يُصْغِيَ إِلَيْهَا السَّامِعُونَ لِلْقُرْآنِ. لأَنَّ أَكْثَرَ الْكُفَّارِ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ إِلَى اللهِ بِإِيمَانِهِمْ، وَأَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ حِينَ يُلِحُّونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَانِ إِنَّمَا يَبْتَغُونَ بِذَلِكَ تَعْزِيزَ جَانِبِهِمْ والحِرْصَ عَلَى مَصْلحَتِهم. فَلَمَّا وَعَدَهُمْ الزِّيَادَةِ عَلَى الشُّكْرِ وَأَوْعَدَهُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى الْكُفْرِ خَشِيَ أَنْ يَحْسَبُوا ذَلِكَ لِانْتِقَامِ الْمُثِيبِ بِمَا أَثَابَ عَلَيْهِ، وَلِتَضَرُّرِهِ مِمَّا عَاقَبَ عَلَيْهِ، فَنَبَّهَهُمْ إِلَى هَذَا الْخَاطِرِ الشَّيْطَانِيِّ حَتَّى لَا يَسْرِيَ إِلَى نُفُوسِهِمْ فَيُكْسِبَهُمْ إِدْلَالًا بِالْإِيمَانِ وَالشُّكْرِ وَالْإِقْلَاعِ عَنِ الْكُفْرِ. وأَكَّدَ "مَنْ فِي الْأَرْضِ" بِـ "جَميعًا" لِلتَّنْصِيصِ عَلَى الْعُمُومِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} غَنِيُّ: عَنْ خَلْقِهِ وَعَنْ شُكْرِ العِبادِ جميعًا، ولَا حَاجَةَ لَهُ فِي شَيْءٍ، فَدَخَلَ فِي عُمُومِ غِنَاهُ أَنَّهُ غَنِيٌّ عَنِ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِهِ. وَ "حَمِيدٌ" أَيْ: مُسْتَحِقٌّ للحَمْدِ فِي أَفْعَالِهِ لأَنَّهُ مُتَفَضِّلٌ بِفِعْلِهِ أَوْ عادِلٌ فيه، وهوَ سُبْحانَهُ مُسْتَغْنٍ عَنْ حَمْدِكُمْ، فإِنَّهُمْ ولَوْ كَفَرُوا بِهِ فهم حَامِدِونَ لَهُ كَرْهًا بِلِسَانِ حَالِهِمْ، فَإِنَّ كُلَّ نِعْمَةٍ تَنَالُهُمْ فَيَحْمَدُونَهَا فَإِنَّمَا يَحْمَدُونَ اللهَ تَعَالَى، كَما قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 15، مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا}.
وقد وَرَدَ بِهَذَا المَعْنَى حَديثٌ قُدْسِيٌّ عنْ أبي ذرٍّ الغفاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ سيِّدِنا رَسولِ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيما يَرْويهِ عَنْ رَبِّهِ: ((يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ واحد مِنْكُمْ، مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وجِنَّكم كانوا عَلَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنْكُمْ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلُكمْ وآخِرَكمْ وإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَسَأَلُونِي، فَأَعْطَيْتُ كُلَّ إِنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ، مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِي شَيْئًا إِلَّا كَمَا يَنْقُصُ المِخْيَطُ إِذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يَا عِبَادِي، إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا، فَلْيَحْمَدِ اللهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ، فَلاَ يَلُومَنَّ إِلاَّ نَفْسَهُ)). أَخرجهُ الإمامُ أَحْمَدُ في (5/160) مِنْ مُسْنَدِهِ، والإمامُ مُسْلِمٌ في: البِرِّ والصِلَةِ، تَحْريمُ الظُلْمِ: (8/17 (2577) (55) مِنْ صَحيحِهِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا} الوَاوُ: للاسْتِئْنافِ ويجوزُ أنْ تكونَ للعَطْفِ، و "قَالَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، و "مُوسَى" فاعِلٌ مَرْفُوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهورِها عَلى الأِلِفِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. و "إِنْ" شَرْطِيَّةٌ جازِمَةٌ، و "تَكْفُرُوا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "إِنْ" الشرطيَّةِ، وعلامةُ جَزْمِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، والواوُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ. و "أَنْتُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ لِتَأْكِيدِ ضَميرِ الفاعِلِ؛ لِيُعْطَفَ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ. و "وَمَنْ" الواوُ حرفُ عَطْفٍ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلى فَاعِلِ "تَكْفُرُوا". و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بمحذوفٍ هُوَ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ، و "الْأَرْضِ" مَجْرورٌ بحرْفِ الجرِّ. و "جَمِيعًا" منصوبٌ على الحالِ مُؤَكِّدٌ لِكُلٍّ مِنَ المَعْطوفِ والمَعْطُوفِ عِلَيْهِ.
قولُهُ: {فَإِنَّ اللهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ، و "إِنَّ حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُ "إنَّ" منصوبٌ بها. و "لَغَنِيٌّ" اللامُ: هي المزحلقةُ للتوكيدِ أَوْ (حَرْفُ ابْتِداءٍ)، و "غَنِيٌّ" خبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ بها. و "حَمِيدٌ" صِفَةٌ لـ "غَنِيٌّ"، أَوْ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنَّ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِها جَوَابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَرْطِيَّةِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قَالَ".