وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ
(45)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} أَصْلُ الفِعْلِ "سَكَن" مِنَ السُّكونِ الذي هوَ اللُّبْثُ والمُكوثُ، والأَصْلُ فِيهِ أَنْ يَتَعَدَّى بِـ "في" كَمَا في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ، وكَمَا تَقُولُ: أَقامَ فُلان في الدَّارِ، وقَرَّ فِيها، وغَنِي فِيها، ولَكِنَّهُ لَمَّا نُقِلَ إِلَى سُكُونٍ خَاصٍّ تَصَرَّفَ فِيهِ، فَقِيلَ: سَكَنَ الدَّارَ، وأَوْطَنَ الدَّارَ، وتَبَوَّأَهَا. قَالَ تَعَالَى في الآية: 9، مِنْ سُورةِ الحَشْرِ: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ}. ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُشْتقًّا مِنَ السُّكونِ، أَيْ: قَرُّوا واطْمَأَنُّوا فيها. والْمُرَادُ بِالسُّكْنَى: الْحُلُولُ، وَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِـ "فِي" الظَّرْفِيَّةِ، وذَلِكَ خِلَافًا لِأَصْلِ فِعْلِهِ الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ. وَقد كَانَ الْعَرَبُ يَمُرُّونَ عَلَى الحِجْرِ دِيَارِ ثَمُودَ فِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الشَّامِ، ويَحُطُّونَ فيها الرِّحالَ، وَفِي رِحْلَتِهِمْ إِلَى الْيَمَنِ كانوا يَمُرُّونَ عَلَى مَدْيَنَ دِيَارِ عَادٍ، ويَنْزِلونَ فيها كذلكَ. فالْخِطَابُ إذًا لأهلِ الشِرْكِ مِنْ قريشٍ، وإنْ كانَ يَعُمُّ جَمِيعَ الأُمَمِ مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ عَدَا الْأُمَّةِ الْأُولَى مِنْهُمْ. وَهَذَا مِنْ تَخْصِيصِ الْعُمُومِ بِالْعَقْلِ إِذْ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ الْأُمَّةُ الْأُولَى مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَمْ تَسْكُنْ فِي مَسَاكِنِ مُشْرِكِينَ.
قولُهُ: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} وَتَبَيُّنُ لكم حالُهم وخبَرُهم وهلاكُهم، ومَا فَعَلَ اللهُ بِهِمْ مِنَ الْعِقَابِ وأشَدِّ العَذابِ، وهذا التَبيُّنُ حَاصِلٌ لهم مِنْ مُشَاهَدَةِ آثَارِ الْعَذَابِ مِنْ خَسْفٍ وَفَنَاءِ اسْتِئْصَالٍ لِشَأْفَتِهم. وَالْوَاجِبُ عَلَى مَنْ عَرَفَ هَذَا أَنْ يَكُونَ خَائِفًا وَجِلًا دائمًا، فَيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لَهُ.
قولُهُ: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ بِأَقْوَالِ الْمَوَاعِظِ عَلَى أَلْسِنَةِ الرُّسُلِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَوَصْفِ الْأَحْوَالِ الْخَفِيَّةِ. وَقَدْ جَمَعَ لَهُمْ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ بَيْنَ دَلَائِلِ الْآثَارِ وَالْمُشَاهَدَةِ وَدَلَائِل الموعظة.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، بِسَنَدٍ حَسَنٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهم" قَالَ: سَكَنَ النَّاسُ فِي مَسَاكِنِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وقُرونَ بَيْن ذَلِك كَثِيرَةٍ مِمَّنْ هَلَكَ مِنَ الْأُمَمِ: "وَتَبَيَّنَ لَكمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ" قَالَ: قدْ وَاللهِ بَعَثَ اللهُ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ، وَضَرَبَ لَكُمُ الْأَمْثَالَ، فَلَا يَصُمُّ فِيهَا إِلَّا الأَصَمُّ، وَلَا يَخَيبُ إِلَّا الخَائبُ، فاعْقِلُوا عَنِ اللهِ أَمْرَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنَ الَّذينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهم" قَالَ: عَمِلْتُمْ بِمِثْلِ أَعْمَالِهمْ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: يُريدُ الأَمْثَالَ التي في القُرْآنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ" قَالَ: الْأَشْبَاهَ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ} وَسَكَنْتُمْ: الواوُ: للعَطْفِ، و "سَكَنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ تَاءُ الفَاعِلِ، وَهِيَ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، والجُملةُ في محلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جملةِ "أَقْسَمْتُمْ" مِنَ الآيةِ التي قبلَها، على كونِها خبرَ "تكونوا". و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَكَنْتُمْ"، و "مَسَاكِنِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهو مُضافٌ، و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "ظَلَمُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعلُهُ، والألِفُ الفارقةُ، و "أَنْفُسَهُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ: علامةُ جمع المُذكَّرِ، والجملةُ صِلَةُ الاسْمِ الموصولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الأعرابِ.
قولُهُ: {وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "تَبَيَّنَ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفَاعِلُهُ مَحْذوفٌ مَعْلومٌ مِمَّا بَعْدَهُ تَقْديرُهُ: فَعَلْنَا بِهِمْ، والجُمْلَةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {أَقْسَمْتُمْ}، ولا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ "كَيْفَ فَعَلْنَا" فاعِلًا لِـ "تَبَيَّنَ"؛ لأَنَّ الاسْتِفْهامَ لَهُ الصَدَّارَةُ، وَقالَ بَعْضُ الكُوفِيِّينَ: إِنَّ جُمْلَةَ "كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ" هُيَ الفاعِلُ، وهمْ يُجيزونَ أَنْ تَكونَ الجُمْلَةُ فاعِلًا. و "لَكُمُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والمِيمُ علامةُ جمعِ المذكَّرِ. و "كَيْفَ" اسْمٌ اسْتِفْهامٍ وتَعْجيبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى التَشْبيهِ بالمَفْعُولِ بِهِ لِـ "فَعَلْنَا". و "فَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجَماعةِ، و "نا" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ. و "بِهِمْ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ إِنْشائيَّةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} الوَاوُ: للاسْتِئنافِ، و "ضَرَبْنَا" مثل "فَعَلْنا". و "لَكُمُ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ، في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ. و "الْأَمْثَالَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجُملَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {تَبَيَّنَ} فِعْلًا ماضِيًا. وقرأ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رضيَ اللهُ عنه، وأبو عَبْدِ الرَّحمنِ السُّلَمِيُّ ـ في روايةٍ عنْهُ: "ونُبَيِّنُ" بِضَمِّ النُّونِ الأُولى والثانيةِ، مُضارع "بَيَّن"، أي: ونحنُ نُبيِّن. وقرأ السُّلَميُّ ـ فيما نقل عنهُ المهدويُّ، كذلك إلاَّ أنَّه سَكَّن النُّونَ الثانيةَ للجَزْمِ نَسَقًا على "تكونوا"، فيكونُ داخلًا في حيِّز التَقْديرِ. وقُرِئَ و "بُيِّنَ".