وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ
(34)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أَيْ: هَيَأَ لَكمْ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ مِمَّا تَسْأَلُونَهُ بِحالِكُمْ وقالِكُمْ، عَلَى حَسَب مَصَالِحكُمْ، وأَعْطاكم مِنْ كُلِّ شَيْءٍ لَمْ تُحْسِنُوا أَنْ تَسْأَلُوهُ، فَأَعْطاكُمْ بِرَحْمَتِهِ. وقِيلَ: الأَصْلُ وآتاكمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُموهُ ومَا لَمْ تَسْأَلُوهُ، فحُذِفَ الثاني لِدَلالَةِ مَا أُبْقيَ عَلَى مَا أُلْقيَ، وقيلَ: أَعْطاكمْ بَعْضَ جَميعِ مَا سَأَلْتُموهُ حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ مَشِيئَتُهُ التَّابِعَةُ للحِكْمَةِ والمَصْلَحَةِ كَقَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، في سورةِ الإسراءِ: {مَّنْ كَانَ يُرِيدُ العَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُّرِيدُ} الآية: 18، أَوْ آتَاكمْ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ مَا أنتمْ بحاجَةٍ إِلَيْهِ، وتَعَلَّقَ بِهِ انْتِظَامُ أَحْوالِكمْ عَلَى الوَجْهِ المُقَدَّرِ فَكَأَنَّكمْ سَأَلْتُمُوهُ، أَوْ أعطاكم كُلَّ مَا سأَلْتُموهُ بِلِسَانِ الاسْتِعْدادِ، أَوْ أعطاكم كُلَّ مَا طلَبْتُمُوهُ، عَلى أَنَّ "مِنْ" هُنَا هيَ للبَيَانِ، وكلمةُ "كلِّ" للتَكْثيرِ كَقَوْلِكَ: فُلانٌ يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ، وأَتَاهُ كُلُّ النَّاسِ، وعَلَيْهِ قَوْلُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {حَتَّى إِذا نَسُوا ما ذُكِّروا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} الآية: 44، مِنْ سُورَةِ الأَنْعامِ. ورَوَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: لَمْ تَسْأَلُوهُ بِكُلِّ الَّذي أَعْطاكم. بحرُ العلومِ للسمرقندي: (2/244). ورَوَىَ عبدُ الرزاقِ الصَنْعَانيُّ أَيضًا عَنْ مُعَمَّر بْنِ رَاشِدٍ الأَزْدِيِّ، والحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: آتاكُمْ مِنْ كُلِّ الذي سَأَلْتُموهُ. تفسير القرآنِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ: (3/388). وأَخْرَجَ الفريابيُّ عنْ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كُلِّ مَا سَأَلْتُموهُ، أَيْ: رَغِبْتُمْ إِلَيْهِ فِيهِ. إِرْشادُ السّاري لِشَرْحِ صَحيحِ البُخَارِيِّ للعَلَّامَةِ القَسْطَلانِيِّ: (7/87).
قولُهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى عَنْ عَجْزِ العِبادِ عَنْ تَعْدَادِ النِّعَمِ التي أَنْعَمَ بها عَلَيْهم والتي سَبقَ ذِكْرُ بعضٍ منها، فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِشُكْرِهَا، كَمَا قَالَ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ العَنَزِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ: إِنَّ حَقَّ اللهِ أَثْقَلُ مِنْ أَنْ يَقُومَ بِهِ الْعِبَادُ، وَإِنَّ نِعَمَ اللهِ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا العِبَادُ، وَلَكِنْ أَصْبَحُوا تَوَّابينَ وأَمْسوا تَوَّابِينَ. أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ الطَبَرِيُّ: (7/459، رَقَمْ: 20835)، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ. وذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ: (3/340)، وابْنُ كَثيرٍ في تفسيرِهِ: (2/540)، والسُّيُوطِيُّ في الدُرِّ المَنْثُورِ: (4/158). أَيْ: وإِنْ تُحاوِلوا عَدَّ نِعَمِ اللهِ تَعَالَى عَلَيْكمْ لَنْ تُطِيقُوا عَدَّهَا، وَلَا القِيامَ بِحَصْرِهَا لِكَثْرَتِهَا، كَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَتَقْوِيمِ الصُّوَرِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعَافِيَةِ وَالرِّزْقِ والنِّعَمِ الْمُعْتَادِ بِهَا الَّتِي يَنْسَى النَّاسُ أَنَّهَا مِنَ النِّعَمِ، كَنِعْمَةِ التَنَفُّسِ، وَنِعْمَةِ الْحَوَّاسِ الخَمْسِ، وَنِعْمَةِ هَضْمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَنِعْمَةِ الدَّوْرَةِ الدَّمَوِيَّةِ، وَنِعْمَةِ الصِّحَّةِ. وَكُلُّ هَذِهِ النِّعَمِ مِنْحَةٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى مَنَّ عَلَيْكم بِها تَكَرُّمًا منِهُ وتَفَضُّلًا، فَلِمَ تُبَدِّلُونَ نِعْمَةَ اللهِ كُفْرًا، بَدَلَ أَنْ تقابلوها بالشُّكرِ، وتَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى طَاعَتِهِ؟! وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لهم عَلَى أَنَّ مَا آتَاهُمُ اللهُ كَثِيرٌ، مِنْهُ ما هو مَعْلُومٌ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ لَا يُحِيطُونَ بِعِلْمِهِ شيْئًا، أَوْ لَا يَتَذَكَّرُونَهُ عِنْدَ إِرَادَةِ عَدِّ النِّعَمِ إذا ما أَرادُوا عَدَّها.
وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ: ((اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ غَيْرَ مَكْفِيٍّ وَلَا مُودَّعٍ وَلَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ رَبَّنَا)). أخرجه البخاري في الأطعمة باب 54، رقم: (5458)، مِنْ حَديثِ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيضًا: الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي مُسْنَدِهِ: (5/252، رقم: 22521)، والدّارِمِيُّ: (2023)، وأَبُو دَاودَ: (3849)، وابْنُ ماجَةَ: (3284)، والتِّرْمِذِيّ: (3456)، والنَّسَائيُّ في سُنَنِهِ الكُبْرَى: (6868)، وفي عَمَلِ اليَوْمِ واللّيْلَةِ: (283).
وَأَخْرَجَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَزَّارُ فِي مُسْنَدِهِ، بِسَنَدٍ ضعيفٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((يَخْرُجُ لِابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَلَاثَةُ دَوَاوِينَ: دِيوَانٌ فِيهِ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَدِيوَانٌ فِيهِ ذُنُوبُهُ، وَدِيوَانٌ فِيهِ النِّعَمُ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، فيَقولُ اللهُ تَعَالى لِأَصْغَرِ نِعَمِهِ ـ أَحْسَبَهُ قَالَ: فِي دِيوَانِ النِّعَمِ، خُذِي ثَمَنَكِ مِنْ عَمَلِهِ الصَّالِحِ فَتَسْتَوْعِبُ عَمَلَهُ الصَّالِحَ كُلَّهُ، ثُمَّ تَنَحَّى وَتَقُولُ: وَعِزَّتِكَ مَا اسْتَوْفَيْتُ، وَتَبْقَى الذُّنُوبُ وَالنِّعَمُ، فَإِذَا أَرَادَ اللهُ أَنْ يَرْحَمَهُ قَالَ: يَا عَبْدِي قَدْ ضَاعَفْتُ لَكَ حَسَنَاتَكَ وتَجَاوَزْتُ لَكَ عَنْ سَيِّئَاتِكَ)) أَحْسَبُهُ قَالَ: وَوَهَبْتُ لَكَ نِعَمِي)) مُسْنَدُ البَزَّارِ بِرَقم: (3444).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو المُزَنِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا قَالَ عَبْدٌ قَطُّ الْحَمْدُ للهِ، إِلَّا وَجَبَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ بِقَوْلِ الْحَمْدُ للهِ، فَقِيلَ: فَمَا جَزَاءُ تِلْكَ النِّعْمَةِ؟. قَالَ: جَزَاؤُها أَنْ يَقُولَ الْحَمْدُ للهِ، فَجَاءَتْ نِعْمَةٌ أُخْرَى، فَلَا تَنْفَدُ نِعَمُ اللهِ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ أَنَّهُ قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ، إِذا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ قَدْرَ مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْكَ، فَغَمِّضْ عَيْنَيْكَ.
وَأخرج ابْن أبي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيّ عَن وهب بن مُنَبّه ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: عبَدَ اللهَ عَابِدٌ خَمْسِينَ عَامًا فَأَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَا تَغْفِرُ لي، وَلم أُذْنِبْ؟. فَأَذِنَ اللهُ تَعَالَى لِعِرْقٍ فِي عُنُقِهِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَنَمْ، وَلَمْ يُصَلِّ، ثمَّ سَكَنَ، فَنَامَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، فَشَكَا إِلَيْهِ، فَقَالَ: مَا لَقِيتُ مِنْ ضَرْبَانِ الْعِرْقِ، قَالَ الْمَلَكُ: إِنَّ رَبَّكَ يَقُولُ: إِنَّ عِبَادَتَكَ خَمْسينَ سَنَةً تَعْدِلُ سُكُونُ ذَلِكَ الْعِرْقِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَنْ لَمْ يَعْرِفْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْهِ إِلَّا فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ، فَقَدْ قَلَّ عَمَلُهُ وَحَضَرَ عَذَابُهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ عَنْ سُلَيْمَانَ التَّمِيمِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ اللهَ أَنْعَمَ عَلَى الْعِبَادِ عَلَى قَدْرِهِ، وكَلَّفَهُمُ الشُّكْرُ عَلَى قَدْرِهمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا أَنْعَمَ اللهُ عَلَى الْعِبَادِ نِعْمَةً أَعْظَمَ مِنْ أَنْ عَرَّفَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ كَالْمَاءِ فِي الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ للهَ عَلَى أَهْلِ النَّارِ مِنَّةٌ فَلَوْ شَاءَ أَنْ يُعَذِّبَهم بِأَشَدَّ مِنَ النَّارِ لَعَذَّبَهم.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ صَالحٍ قَالَ: كَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِذا تَلَا قولَهُ تَعَالَى: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوها" قَالَ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ مِنْ مَعْرِفَةِ نِعَمِهِ إِلَّا الْمَعَرْفَةَ بالتَقْصيرِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا كَمَا لَمْ يَجْعَلْ فِي أَحَدٍ مِنْ إِدْراكِهِ أَكْثَرَ مِنَ الْعِلْمِ أَنَّهُ لَا يُدْرِكُهُ فَجَعَلَ مَعْرِفَةَ نِعَمِهِ بالتَقْصيرِ عَنْ مَعْرِفَتِهَا شُكْرًا، كَمَا شُكْرُ عِلْمِ الْعَالِمينَ، أَنَّهُمْ لَا يُدْرِكُونَهُ، فَجَعَلَهُ إِيمَانًا، عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ الْعِبَادَ لَا يُجَاوِزونَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبِي أَيُّوبٍ الْقُرَشِيِّ مَوْلَى بَنِي هَاشِمٍ، قَالَ: قَالَ دَاوُدُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: يُقْصَدُ أَنْ تَعْرِفُ قِيمَةَ نِعْمةٍ واحِدَةٍ هِيَ نِعْمَةُ البَصَرِ.
وَأَخْرَجَا أَيْضًا عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ دَاوُدُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: رَبِّ أَخْبِرْنِي مَا أَدْنَى نِعْمَتِكَ عَلَيَّ فَأَوْحَى اللهُ: يَا دَاوُدُ تَنَفَّسْ، فَتَنَفَّسَ، فَقَالَ: هَذَا أَدْنَى نِعْمَتِي عَلَيْكَ. وَرُوِيَ أَيْضًا فِي الْأَثَرِ أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: يَا رَبِّ كَيْفَ أَشْكُرُكَ وَشُكْرِي لَكَ نِعْمَةٌ مِنْكَ عَلَيَّ؟ فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: الْآنَ شَكَرْتَنِي يَا دَاوُدُ. أَيْ حِينَ اعْتَرَفْتَ بِالتَّقْصِيرِ عَنْ أَدَاءِ شُكْرِ المُنْعِمِ.
وقالَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَا يُؤَدَّى شُكْرُ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِهِ إِلَّا بِنِعْمَةٍ حادِثَةٍ تُوجِبُ عَلَى مُؤَدِّيها شُكْرَهُ بِهَا، وَقَالَ الْقَائِلُ فِي ذَلِكَ:
لَوْ كُلُّ جَارِحَةٍ مِنِّي لَهَا لُغَةٌ ............ تُثْنِي عَلَيكَ بِمَا أَوْلَيتَ مِنْ حَسَنِ
لَكَانَ مَا زَادَ شُكْرِي إِذْ شَكَرْتُ بِهِ ............. إِلَيْكَ أَبْلُغَ فِي الإحسان
وَالْإِحْصَاءُ: ضَبْطُ الْعَدَدِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْحَصَا اسْمًا لِلْعَدَدِ، وَهُوَ مَنْقُولٌ مِنَ الْحَصَى، وَهُوَ صِغَارُ الْحِجَارَةِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعُدُونَ الْأَعْدَادَ الْكَثِيرَةَ بِالْحَصَى تَجَنُّبًا لِلْغَلَطِ.
قولُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ الْمُسْتَعْمَلِ فِي تَحْقِيقِ تَبْدِيلِ النِّعْمَةِ كُفْرًا، فَلِذَلِكَ فُصِّلَتْ عَنْهَا. وَالْمُرَادُ بِـ "الْإِنْسانَ" صِنْفٌ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَتَأْكِيدِهَا، فَـ "الْإِنْسَانُ" هنا هُوَ الْمُشْرِكُ، كالَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى في سُورةِ مَرْيَمَ: {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} الآيَةِ: 66، وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ. وَصِيغَتَا الْمُبَالغَةِ فِي "لَظَلُومٌ كَفَّارٌ" اقْتَضَاهُمَا كَثْرَةُ النِّعَمِ الْمُفَادُ مِنْ قَوْلِهِ: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوها"، إِذْ بِمِقْدَارِ كَثْرَةِ النِّعَمِ يَكْثُرُ كُفْرُ الْكَافِرِينَ بِهَا إِذْ أَعْرَضُوا عَنْ عِبَادَةِ الْمُنْعِمِ وَعَبَدُوا مَا لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَلَا يَجْحَدُونَ نِعَمَ اللهِ وَلَا يعْبدُونَ غَيْرَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي ظُلْمِي وكُفْرِي. قَالَ قَائِلٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ هَذَا الظُّلْمُ، فَمَا بَالُ الْكُفْرِ؟. قَالَ: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ". و "الْإِنْسَان" لَفْظُ جِنْسٍ وَأَرَادَ بِهِ الْخُصُوصَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَرَادَ أَبَا جَهْلٍ. وقِيلَ: أَرادَ جَميعَ الكُفَّارِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "آتَاكُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ المُقدِّرِ على آخرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهُ". وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ أَوَّل، والمَفْعولُ الثاني مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: وآتَاكمْ شَيْئًا مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ. والمِيمُ للجَمْعِ المُذكَّرِ. والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ {خَلَقَ} مِنَ الآيةِ: 32، السابِقةِ على كونِها صِلةَ الموصولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ وتَبْعيضٍ، أَوْ زَائدٌ في المَفْعُولِ الثاني. مُتَعَلِّقٌ بِـ "آتاكم"، و "كُلِّ" مَجْرورٌ بِحرفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ مَبْنِيَّةٌ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ "مَا" مَصْدَرِيَّةً، فالضَمِيرُ الغائبُ يَعودُ عَلَى المَوْصُولِ. و "سَأَلْتُمُوهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَمِّ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وتاءُ الفاعِلِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، والواوُ: لإشباعِ حركةِ الميمِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، وهذا الضَّميرُ عائدٌ إِلَى اللهِ تَعالى، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" الموصولةِ فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا إنْ كانتْ نَكِرَةً مَوْصوفةً في مَحَلِّ الجَرِّ، والعائدُ أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: مَا سَأَلْتُمُوهُ تَعَالَى إِيَّاهُ، والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنَ الفِعْلِ عَلَى كَوْنِ "ما" مَصْدَرِيَّةً هوَ المَفْعُولُ الثاني لِـ "آتاكم" تَقْديرُهُ: وآتَاكُمْ مَسْؤُولَكمْ.
قولُهُ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا} الوَاوُ: للاسْتِئْنافِ، و "إِنْ" شَرطْيَّةٌ جازِمَةٌ، و "تَعُدُّوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزومٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلُ الشَّرْطِ، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلٌ، والألِفُ: الفارِقَةُ. و "نِعْمَةَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "تُحْصُوهَا" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ على أنَّهُ جَوابُ الشَّرْطِ، وعلامةُ جزمِهِ حذفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ، وجُمْلَةُ الشَّرْطِ مُسْتَأْنَفَةٌ فليس لها مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، و "الْإِنْسَانَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "لَظَلُومٌ" اللامُ: المزحلقةُ للتوكيدِ أوْ حَرْفُ ابْتِداءٍ، و "ظَلُومٌ: خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ. و "كَفَّارٌ" صِفَتُهُ مرفوعةٌ مثلُهُ، أَوْ خَبَرٌ ثانٍ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَة.
قَرَأَ العَامَّةُ: {مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمْ}، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، والحَسَنُ، والضَحَّاكُ، وعَمْرُو بْنُ فائدٍ، وقَتَادَةُ، وسَلامٌ، ويَعْقوب، ونافِعٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنهمْ جميعًا، في رِوَايَةٍ: "مِّن كُلٍّ" مُنَوَّنَةً. وفي "ما" عَلَى هَذِهِ القِراءَةِ وَجْهانِ، أَحَدُهُما: أَنَّهَا نَافِيَةٌ، ومَحَلُّهُ النَّصْبُ عَلَى الحَالِ، أَيْ: آتَاكمْ مِنْ جَميعِ ذَلِكَ غَيْرَ سائِليهِ، ويَكُونُ المَفْعُولُ الثاني هُوَ الجَارُّ مِنْ قَوْلِهِ "مِنْ كُلٍّ"، كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} الآية: 23. وثانيهما: أَنَّها مَوْصُولَةٌ بِمَعْنَى الذي، هِيَ المَفْعولُ الثاني لـ "آتاكم" وهَوَ الأَفْضَلُ، لأَنَّ فِي الأَوَّلِ مُنَافَاةً فِي الظاهِرِ لِقِرَاءَةِ العَامَّةِ.