قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ
(11)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} جَوَابٌ بِطَرِيقِ الْقَوْلِ بِالْمُوجَبِ فِي عِلْمِ آدَابِ الْبَحْثِ، وَهُوَ تَسْلِيمُ الدَّلِيلِ مَعَ بَقَاء النِّزاعِ بِبَيَانِ مَحَلِّ الِاسْتِدْلَالِ غَيْر تَامِّ الْإِنْتَاجِ، وَفِيهِ إِطْمَاعٌ فِي الْمُوَافَقَةِ. ثُمَّ بيَّنَ خَطَأَهم في اسْتِدْلَالِهِمُ وأَبْطَلهُ.
وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْقَوَادِحِ فِي عِلْمِ الْجَدَلِ شَدِيدُ الْوَقْعِ عَلَى الْمُنَاظِرِ، فَلَيْسَ قَوْلُ الرُّسُلِ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ تَقْرِيرًا لِلدَّلِيلِ وَلَكِنَّهُ تَمْهِيدٌ لِبَيَانِ غَلَطِ الْمُسْتَدِلِّ فِي الِاسْتِنْتَاجِ مِنْ دَلِيلِهِ. وَمَحَلُّ الْبَيَانِ هُوَ الِاسْتِدْرَاكُ فِي قَوْلِهِ: "وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ"، لأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ فِي الْبَشَرِيَّةِ لَا تَقْتَضِي الْمُمَاثَلَةَ فِي زَائِدٍ عَلَيْهَا، فَالْبَشَرُ كُلُّهُمْ عِبَادُ اللهِ وَاللهُ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ بِنِعَمٍ لَمْ يُعْطِهَا غَيْرَهُمْ.
ولمَّا كانَتْ هَذِهِ الْمَقَالَةُ خَاصَّةً بِالْمُكَذِّبِينَ قالَ: "قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ" إِذْ هُوَ جَوَابٌ عَنْ كَلَامٍ صَدَرَ مِنْهُمْ، بَيْنَمَا قالَ في الآيَةِ التي سَبَقَتْها: {قالت رُسُلُهم أَفِي اللهِ شَكٌّ} دُونَ "لهم" لأَنَّ الأنْبِياءَ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، يَقُولُونَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ، لِلْمُصَدِّقِينَ وَللْمُكَذِّبِينَ. فإِنَّ وُجُودَ اللهِ تعالى أَمْرٌ نَظَرِيٌّ، وخِطَابُ المُرْسَلينَ فِي شَأْنِهِ خطابٌ عامٌّ يَتَوَجَّهونِ في إلى عُمُومِ قَوْمِهِم، بينَما بَعْثَةُ المُرْسَلينَ أَمْرٌ ضَرُورِيٌّ ظَاهِرٌ لَا يَحْتَاجُ إِلَى نَظَرٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَا قَالُوا هَذَا إِلَّا لِلْمُكَذِّبِينَ لِغَبَاوَتِهِمْ وَجَهْلِهِمْ لَا لِغَيْرِهِمْ. وزِيَادَةَ "لَهُمْ" دَليلٌ عَلَى تَوَجُّهِ الرُّسُلِ إِلَى قَوْمِهِمْ بِالْجَوَابِ، لِمَا فِي الْجَوَابِ عَنْ كَلَامِهِمْ مِنَ الدِّقَّةِ الْمُحْتَاجَةِ إِلَى الِاهْتِمَامِ بِالْجَوَابِ بِالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمْ، إِذِ اللَّامُ الدَّاخِلَةُ بَعْدَ فِعْلِ الْقَوْلِ فِي نَحْوِ: أَقُولُ لَكَ، لَامُ تَعْلِيلٍ، أَيْ أَقُولُ قَوْلِي لِأَجْلِكَ.
قولُهُ: {وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أَيْ: والفَرْقُ بَيْنَنَا أَنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ، مَنَّ عَلَيْنَا بِتَعْريفِهِ، واسْتَخْلَصَنَا بِمَا أَفْرَدَنا بِهِ مِنْ تَشْريفِهِ بالنبوَّةِ والرسالةِ. وَقِيلَ: بِالتَّوْفِيقِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْهِدَايَةِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللهِ التَسْتُريُّ: بِتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَفَهْمِ مَا فِيهِ. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ، وَقَدْ خَرَّجَ الطَّبَرِيُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قُلْتُ لِأَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يَا عَمِّ أَوْصِنِي، قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا سَأَلْتَنِي، فَقَالَ: ((مَا مِنْ يَوْمٍ وَلَا لَيْلَةٍ وَلَا سَاعَةٍ إِلَّا وَللهِ فِيهِ صَدَقَةٌ يَمُنُّ بِهَا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَمَا مَنَّ اللهُ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ بِمِثْلِ أَنْ يُلْهِمَهُمْ ذِكْرَهُ)) ورَواهُ ابْنُ أَبي الدُنْيا في "الليالي والأَيَّامِ" ص: 15 (4)، وابْنُ أَبي عَاصِمٍ في "الآحادِ والمثاني": (2/231 رقم: 987)، ورَوَاهُ البَزَّارُ كَما في "كشف الأستار": (1/334 برقم: 694).
قولُهُ: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} جَوابٌ لِقَوْلِهم: {فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ} الآية: 10، السابقة لهذهِ، وبْيانُ أَنَّ مَا سَأَلَهُ الْقَوْمُ المكذِّبونَ مِنَ الْإِتْيَانِ بِـ "سُلْطَانٍ مُبِينٍ" أَيْ: بِخَوارِقَ ومُعْجِزَاتٍ لَيْستْ في مُكْنَتِهم، وليسَ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ ولا في أَيْديهم، وَلَكِنَّهُ بِمَشِيئَةِ اللهِ ـ سُبْحانهُ وتعالى، وحْدَهُ، وَلَيْسَ اللهُ بِمُكْرَهٍ عَلَى إِجَابَةِ مَنْ يَتَحَدَّاهُ، وإنَّما هو سبحانَهُ الذي يختارُ مِنَ الآياتِ والبَراهينِ ما يؤيِّدُ بهِ رُسُلَهُ. فَلَفْظُهُ لَفْظُ الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّفْيُ، لِأَنَّهُ لَا يُحْظَرُ عَلَى أَحَدٍ مَا لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ.
قولُهُ: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} أَمْرٌ لِمَنْ آمَنَ باللهِ تعالى بِأَن يتوَكَّلوا عَلَى اللهِ، وَقد قَصَدَ الرُسُلُ بِهِ أَنْفُسَهُمْ قَصْدًا أَوَّلِيًّا لِأَنَّهُمْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ: {وَما لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنا} الآية: 12، مِنْ هذه السورةِ الكريمة.
قولُهُ تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ} قَالَتْ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفَتْحِ والتاءُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ. و "لَهُمْ" اللامُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "رُسُلُهُمْ" فاعلُهُ مرفوعٌ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} إنْ: نافيَةٌ مُهْمَلَةٌ بمعنى (لا). و "نَحْنُ" ضميرُ منفصلٌ مبنيٌّ على الضمِّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ (أداةُ حَصْرٍ). و "بَشَرٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ. و "مِثْلُكُمْ" صِفَةٌ لِـ "بَشَرٌ" مرفوعَةٌ مثلُهُ، وهي مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لـ "قَالَتْ".
قولُهُ: {وَلَكِنَّ اللهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} الواوُ: للعَطفِ، و "لَكِنَّ" حَرْفُ نَصْبٍ واسْتِدْراكٍ مُشَبَّهٌ بالفعلِ. واسْمُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُها منصوبٌ بها. و "يَمُنُّ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "اللهَ" تعالى. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ متعلق به، و "مَنْ" اسْمٌ موصولٌ بمعنى "الذي" مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "لكنَّ"، وجُمْلَةُ "لَكِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ في محلِّ النَّصبِ بالقولِ لـ "قَالَتْ" عطْفًا عَلى الجُمْلَةِ التي قَبْلَها. و "يَشَاءُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) على يَعودُ عَلى "اللهَ" تعالى، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ "مَنْ" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ محذوفٌ تَقديرُهُ: عَلَى مَنْ يَشاؤُهُ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ ضَميرِ الفاعلِ المَحْذوفِ في "يشاءُ"، و "عِبادِهِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهْ.
قولُهُ: {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ} الواو: عاطفةٌ. و "ما" نافِيَةٌ لا عَمَلَ لها. و "كَانَ" فعلٌ مَاضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ. و "لَنَا" اللامُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "كَانَ" المُقَدَّمِ عَلى اسْمِها، وضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ "نا" متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "أَنْ" حرفٌ ناصبٌ، و "نَأْتِيَكُمْ" فعلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بها، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "نحن" يعودُ عَلَى الرُّسُلِ ـ عليهِمُ السَّلامُ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "بِسُلْطَانٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نأتي"، و "سُلْطَانٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذه في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفوعٍ عَلى كَوْنِهِ اسْمًا لـ "كَانَ" والتقديرُ: وَمَا كانَ الإِتْيانُ إِيَّاكمْ بِسُلْطانٍ كائنًا لَنَا، وجُمْلَةُ "كَانَ" في محلِّ النَّصبِ بـ "قالتْ" عَطْفًا عَلى مَا قَبْلَها. و "إِلَّا" أَداةُ اسْتِثْناءٍ مُفَرَّغٍ (أداةُ حَصْرٍ). و "بِإِذْنِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "نَأْتِيَكُمْ" والتقديرُ: ومَا كانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا حالَةَ كَوْنِنا مُلْتَبِسينَ بإذْنِ اللهِ. و "إذنِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، ولفظُ اسْمِ الجَلالَةِ "اللهِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} الواو: حرفُ عطفٍ، و "على" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَا بَعْدَهُ، ولفظُ اسْمِ الجلالةِ مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "فَلْيَتَوَكَّلِ" الفاءُ: زائدَةٌ، أَوْ هي الفصيحةُ؛ لأَنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابٍ شَرْط مُقَدَّرٍ والتَقديرُ: إِذا عَرَفْتُمْ ما قُلْنَا لكم، وأَرَدْتُمْ بَيَانَ مَا هوَ الأَصْلَحُ لكم. فَنَقولُ لَكُمْ: "ليَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ"، و "اللام" لامُ الأَمْرِ. و "يتوكَّلْ" فِعْلُ أَمرٍ مَجْزومٌ بِ لامِ الأَمْرِ وعلامةُ جَزْمِهِ السكونِ على آخِرِهِ، و " المؤمنون" فاعلُهُ مرفوعٌ بهِ وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلَّ النَّصبِ مَقولٌ لِجَوابِ إذَا المُقدَّرَةِ، وجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ "قَالَتْ".