فيض العليم .... سورة إبراهيم، الآية: 3
الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} ضُمِّنَ يَسْتَحِبُّونَ مَعْنَى يُؤْثِرُونَ، فَهَؤُلاَءِ الكَافِرُونَ الذِينَ يُهَدِّدُهُمُ اللهُ تَعَالَى بِالوَيْلِ، يَوْمَ القِيَامَةِ، هُمُ الذِينَ يُفَضِّلُونَ الحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَيُؤْثِرُونَهَا عَلَى الآخِرَةِ، وَيَعْمَلُونَ لِلْدُّنْيا، وَيَنْسَوْنَ الآخِرَةَ، وَيَتْرُكُونَهَا وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ ذلك لأنَّهم رَضُوا بِهَذِهِ الحياةِ الدُنْيا وَاطْمَأَنُّوا فِيهَا، كما قالَ تعالى في سُورةِ يُونُس: {وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا} الآية: 7. والسِينُ والتاءُ عَلامتا الطلبِ، فاسْتَحَبُّوا أَيْ طلَبُوا حُبَّ التَمَتُّعِ بالدنيا وشهوتها وأَوغَلوا في حُبِّهِمْ ذاكَ.
قولُهُ: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} الصَّدُّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ: مَنْعُ الدَّاخِلِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنَ الدُّخُولِ فِيهِ. شَبَّهَ ذَلِكَ بِمَنْ يَمْنَعُ الْمَارَّ مِنْ سُلُوكِ الطَّرِيقِ. وَجُعِلَ الطَّرِيقُ طَرِيقَ اللهِ لِأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَى مَرْضَاتِهِ فَكَأَنَّهُ مُوَصِّلٌ إِلَيْهِ تعالى، ولم يَكْتَفوا بِضَلالِهم، بَلْ يُحاولونَ إِضْلالَ غيرِهم ويَصُدونَهم عَنِ الهِدايةِ، وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنِ اتِّبَاعِ الرُّسُلِ، وهَكَذَا فإنَّ مَنِ اهْتَدَى إلى طريقٍ تَمَنَّى الهِدَايَةَ للنَّاسِ كُلِّهم، وسَعَى في هِدَايَتِهِم إلى هذا الطريق لِدَعْمِ مَوْقِفِهِ وتَقْوِيَةِ صَفِّهِ، ومَنْ ضَلَّ فَعَلَ الأَمْرَ ذَاتَهُ أَيضًا للأَسْبَابِ ذَاتِها. ويَدْخُلُ في ذَلِكَ الذينَ يَصُدُّونَ أَنْفُسَهم ويَمْنَعُونَها عَنْ طاعَةِ رَبِّها وَسُلُوكِ سُبُلِ هِدَايَتِهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى.
قولُهُ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} وَيُحِبُّونَ أَنْ تَكُونَ سَبِيلُ اللهِ مُعْوَجَّةً، غَيْرَ مُسْتَقِيمَةٍ، لِكَي يَنْفِرَ النَّاسُ مِنْهَا. وَبِمَا أَنَّ سَبِيلَ اللهِ مُسْتَقِيمَةٌ فِي ذَاتِهَا فَلاَ يَضُرُّهَا مَنْ خَالَفَها، وَلاَ مَنْ صَدَّ عَنْهَا. أَيْ: يَبْغُونَ أنْ تكونَ شَريعَةُ اللهِ مُعْوَجَّةً لِتُحَقِّقَ لَهُمْ نَزَواتِهم. وهَكَذا نَجِدَ ثلاثَ مَراتبِ للضَّلالِ، اسْتِحْبابَ الحياةِ الدُنْيا عَلَى الآخِرَةِ؛ والصَّدَ عَنْ سَبيلِ اللهِ؛ وتَشْويهَ المِنْهَجِ كَيْ يُكَرِّهُوا النَّاسَ فِيهِ. وهذا يدلُّ عَلى أَنَّ الآيَةَ فِي الرُّؤساءِ والقادَةِ والزعماءِ الذين يَصُدُّونَ النَّاسَ عَنْ سَبيلِ اللهِ ويَطْعَنونَ في دِينِهِ؛ ويُزَيِّنُونَ للنَّاسِ سُبُلًا أُخرى غيرَ سَبيلِهِ تَعَالَى.
قولُهُ: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} الْإِشَارَةُ هنا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحْرِيَاءُ بِمَا وُصِفُوا بِهِ مِنَ الضَّلَالِ بِسَبَبِ صَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ الْحَقِّ وَابْتِغَائِهِمْ سَبِيلَ الْبَاطِلِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ فِي اخْتِيَارِهِمْ حُبُّ الدُّنيا العَاجِلَةِ، وَفِي صَدِّهِمْ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ دِينِ الإِسْلاَمِ، وَفِي ابْتِغَائِهِمْ أَنْ تَكُونَ سَبِيلَ اللهِ مُعْوَجَّةً. إِنَّمَا هُمْ فِي جَهْلٍ وَضَلاَلٍ، وَبُعْدٍ عَنِ الحَقِّ، وَلاَ يُرْجَى لَهُمْ صَلاحٌ، والضَّلالُ: حِيرةٌ وَتِيهٌ وهَلاكٌ لا نَجَاةَ فِيهِ. وَوَصْفُ الضَّالِ بِالْبَعِيدِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَإِنَّمَا الْبَعِيدُ هُوَ الضَّالُّ، أَيْ ضَلَالًا بَعُدُوا بِهِ عَنِ الْحَقِّ فَأُسْنِدَ الْبُعْدُ إِلَى سَبَبِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَصْفُهُ بِالْبُعْدِ عَلَى تَشْبِيهِهِ بِالطَّرِيقِ الشَّاسِعَةِ الَّتِي يَتَعَذَّرُ رُجُوعُ سَالِكِهَا، أَيْ ضَلَالٍ قَوِيٍّ يَعْسُرُ إِقْلَاعُ صَاحِبِهِ عَنْهُ. فَفِيهِ اسْتِبْعَادٌ
قولُهُ تَعَالى: {الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصُولٌ للجَمْعِ المُذُكِّرِ، مَبْنِيٌّ على الفتحِ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً "لِلْكَافِرِينَ" أَوْ عطفَ بيانٍ لهم، أو بدلًا منهم، أَوْ في مَحَلِّ النَصْبِ على الاخْتِصاصِ بِإِضْمَارِ (أَخُصُّ) أو (أَعْني)، أَوْ في مَوْضِعِ الرَّفْعِ على أنَّهُ خبرٌ بِإضْمَارِ (هم). ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ "أولئك وَمَا بَعْدَهُ. و "يَسْتَحِبُّونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأسماءِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلُهُ، وقد ضُمِّنَ "يستحبُّونَ" معنى "يُأْثِرون"، ولِذَلِكَ تَعَدَّى بِـ "على". و "الْحَيَاةَ" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ، و "الدُّنْيَا" صِفَةٌ لِـ "الْحَيَاةَ" منصوبةٌ مثلها وعلامةُ نَصْبِها الفتحةُ المُقدَّرةُ على آخرِهِ لتَعَذُّر ظهورِها على الألِفِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسْتَحِبُّونَ" و "الْآخِرَةِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و الجملةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} وَيَصُدُّونَ: معْطوفٌ على "يَسْتَحِبُّونَ" وله مثلُ إعرابِهِ. "عَنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "سَبِيلِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قولُهُ: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "يَبْغُونَها" يَبْغُونَ: مَعْطوفٌ عَلَى "يَصُدُّونَ" وله ما لَهُ مِنَ الإعَرابِ، والهاءُ: ضَميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفعولٌ بِهِ. و "عِوَجًا" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنْ الضَميرِ في المَفْعولِ بِهِ.
قولُهُ: {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} أُولَئِكَ: "أُولاءِ" اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على الكسْرِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، والكافُ للخِطابِ. و " فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخبرهِ المحذوفِ، و "ضَلَالٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "بَعِيدٍ" صِفَةٌ لِـ "ضَلَالٍ" مجرورةٌ مثلُها، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.
قرأَ العامَّةُ: {ويَصُدُّونَ} من: (صَدَّ) وقرأَ الحَسَنُ: "ويُصِدُّونَ" مِنْ (أَصَدَّ)، وأَصَدَّ مَنْقولٌ مِنْ صَدَّ اللازمِ، والمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ، أَيْ: غَيْرَهم، أو أنفسَهم.