وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: {وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَعَلُوا للهِ أَنْدادًا" قَالَ: أَشْرَكُوا بِاللهِ. و "أَنْدَادًا" أَمْثَالًا وأَشْباهًا للهِ تَعَالَى. أَيْ: وَاتَّخَذُوا أَوْثانًا شُرَكاَءَ للهِ في عِبَادَتِهم لَهُ، فيُحْتَمَلُ أَنَّهم كانوا يَعْبُدونَها كَمَا يُعْبَدُ اللهُ تَعَالَى، ويُحتَمَلُ أَنَّ ذلكَ كانَ في التَسْمِيَةِ، فيُسَمُّونَها آلِهَةً؛ كَمَا يُسَمَّى اللهُ تَعَالى، فقد جَعَلُوها أَنْدادًا لهُ في هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ، وهذا مِنْهمْ سَفَهٌ حَيْثُ جَعَلُوا مَا لا يَسْمَعُ، ولا يُبْصِرُ، ولا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ، ولا يَدْفَعُ، أَمْثالًا لَهُ ـ سُبْحانَهُ، وأَعْدالًا عَلَى عِلْمٍ مِنْهم أَنَّ اللهَ تعالى هوَ الذي خَلَقَهم، ورَزَقَهم، وأنْعَمَ عَلَيْهم، وهوَ الذي يَدْفَعُ عَنْهم الشِدَّةَ والكَرْبَ والبَلاءَ. ثمَّ إنَّهم دَعُوا النَّاسَ إِلَى عِبَادَةِ هَذِهِ الأوثانِ مَعَهم لِيَصْرِفُوهُمْ عَنِ سَبِيلِ اللهِ القَوِيمِ وصِراطِهِ المُسْتقيمِ.
قولُهُ: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي رَزينٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "قُلْ تمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ" قَالَ: تَمَتَّعُوا إِلَى أَجَلِكمْ. أَيْ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، لِهَؤلاَءِ المُشْرِكِينَ الذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةِ اللهِ كُفْرًا، وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا، وَصَدُّوا النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ دِينِهِ الحَنِيفِ قلْ لَهُمْ: اسْتَمْتِعُوا فِي الدُّنيا، قَدْرَ مَا تَسْتَطِيعُونَ الاسْتِمتاعَ بِهِ، وَافْعَلُوا ما تَشاؤونَ ومَا يُمْكِنُكُمْ فِعْلُهُ، فَإِنَّ أَعْمَالَكُمْ السيِّئةِ هَذِهِ سَتُورِدُكُمْ مَوَارِدَ الهَلاَكِ، وَسَيَكُونُ مَصِيرُكُمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ جَزَاءً وِفَاقًا لِمَا قدَّمْتُمُوهُ. وَالْمُرَادُ أَنَّ حَالَ الْكَافِرِ فِي الدُّنْيَا كَيْفَ كَانَتْ، فَإِنَّهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَيَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ الْعِقَابِ فِي حياتِهِ الْآخِرَةِ تَمَتُّعٌ وَنَعِيمٌ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَقْلِيلِ مَا هُمْ فِيهِ مِنْ مَلَاذِّ الدُّنْيَا إِذْ هُوَ مُنْقَطِعٌ. فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: "قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ" وَأَيْضًا فإِنَّ هَذَا الْخِطَابَ هو للَّذِينَ حَكَى اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ بَدَّلُوا نِعْمَتَهُ كُفْرًا، فَإنَّهم كَانُوا مُنَعَّمينَ فِي الدُّنْيَا، فَلَا جَرَمَ أَنْ يقَوْلَ لَهم: "تَمَتَّعُوا" وَفي هَذَا الْأَمْرِ تَهْديدٌ لهمْ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سورةِ فُصِّلَتْ: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} الآية: 40، وَقَوْلُهُ في الآيةِ: 8، مِنْ سورةِ الزُمَرِ: {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ}.
قولُهُ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا للهِ أَنْدَادًا} الوَاوُ: للعطْفِ، و "جَعَلُوا" فِعْلٌ مُاضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُكونِ في مَحَلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ {بَدَّلُوا} على كونِها صلةَ الاسْمِ المَوْصولِ "الذينَ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ فَهُي مِنْ جُمْلَةِ الصِلَةِ المُتَعَجَّبِ مِنْها. و "للهِ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلق بـ "أَنْدَادًا"، ولَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" اسْمٌ مَجْرورٌ بحرْفِ الجَرِّ. و "أَنْدَادًا" مَفْعُولٌ ثانٍ لِ "جعل"، أَمَّا مفعولُهُ الأَوَّلُ فهو مَحْذوفٌ، والتَقْديرُ: وَجَعَلُوا الأَصْنامَ أَنْدادًا للهِ.
قولُهُ: {لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ} اللامُ: لامُ (كَيْ) حَرْفُ جَرٍّ وتَعْليلٍ، أَيِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْوَثَنَ كَيْ يُضِلُّوا غَيْرَهُمْ، ويُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ لامَ العاقِبةِ لِأَنَّ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ سَبَبٌ يُؤَدِّي إِلَى الضَّلَالِ، هذا إِذا قُرِئَ "يُضِلُّوا" بِضَمِّ الياءِ، أَمَّا إِذَا قُرِئَ بِنَصْبِها فَلَا يَحْتَمِلُ إِلَّا لَامَ الْعَاقِبَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُرِيدُوا ضَلَالَ أَنْفُسِهِمْ. وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِي لَامِ الْعَاقِبَةِ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الشَّيْءِ لَا يَحْصُلُ إِلَّا فِي آخِرِ الْمَرَاتِبِ كَمَا قِيلَ أَوَّلُ الْفِكْرِ آخِرُ الْعَمَلِ. وَكُلُّ مَا حَصَلَ فِي الْعَاقِبَةِ كَانَ شَبِيهًا بِالْأَمْرِ الْمَقْصُودِ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَالْمُشَابَهَةُ أَحَدُ الْأُمُورِ الْمُصَحِّحَةِ لِحُسْنِ الْمَجَازِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ ذِكْرُ اللَّامِ فِي الْعَاقِبَةِ. و "يُضِلُّوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بعدَ لامِ التعليلِ، وعلامةُ نَصْبِهِ حذْفُ النونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُكونِ في مَحَلِّ الرَفْعِ فاعِلُهُ، والأَلِفُ الفارِقَةُ. و "عَنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُضِلُّوا"، و "سَبِيلِهِ" اسْمٌ مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ، والجُمْلَةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللِّامِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلُوا"، والتَقْديرُ: وجَعَلُوا للهِ أَنْدادًا لإضْلالِهِمُ النَّاسَ عَنْ سَبيلِهِ.
قولُهُ: {قُلْ تَمَتَّعُوا} قُلْ: فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السُكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "تَمَتَّعُوا" فِعْلُ أمْرٍ مبنيٌّ على حذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ، لأنَّ مُضارِعَهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ فارقةٌ، وهذه الجُمْلَةُ الفعليَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ القَوْلِ لِـ "قُلْ".
قولُهُ: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ} الفاءُ: تَعْلِيلِيَّةٌ، و "إنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ. و "مَصِيرَكُمْ" اسْمُها منصوبٌ بها، مُضافٌ، و "المَصيرُ" مَصْدَرٌ لِـ "صارَ" التامَّةِ، أَيْ: فإنَّ مَرْجِعَكمْ كائنٌ إِلى النَّارِ. والكافُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، والميمُ للجمعِ المُذَكَّرِ. و "إِلَى" حرفُ جرٍّ متَعلِّقٌ بِخِبَرِ "إنَّ"، وأَجازَ الحُوفيُّ أَنْ يَتَعَلَّقَ "إلى" بِـ "مصيرَكم". وقدْ رَدَّ هَذا بعضُهم بِأَنَّهُ لَوْ جَعَلْنا "مصيرَكم" مَصْدرًا صارَ بِمَعْنَى (انْتَقَلَ)، و "إلى" مُتَعَلِّقٌ بِهِ، بَقِيَتْ "إنَّ" بِلا خَبَرٍ، لا يُقالُ: خبرُها حِينَئِذٍ محذوفٌ؛ لأَنَّ حَذْفَهُ في مثلِ هذا يَقِلُّ، وإنَّما يَكْثُرُ حَذْفُهُ إذا كان الاسْمُ نَكِرَةً: والخَبَرُ ظَرْفًا أَوْ جارًّا كَقَوْلِ الأعشى:
إنَّ مَحَلًّا وإِنْ مُرْتَحَلًا ................... وإنَّ في السَّفْرِ ما مَضَى مَهَلًا
أَيْ إِنَّ لَنَا في الدُنْيا حُلولًا ولَنَا عَنْها مُرْتَحَلًا، إِذْ لَا يَصِحُّ وقوعُ بَقِيَّةِ البَيْتِ خَبَرًا عَنْ (إنَّ) الأُولى. و "النَّارِ" اسْمٌ مجرورٌ بحرْفِ الجَرِّ، وجُمْلَةُ "إنَّ" معَ اسْمِها وخَبَرِها في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ القولِ لِـ "قُلْ" وهي مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَها.
قَرَأَ الْجُمْهورُ: {يُضِلُّوا} بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَضَلَّ غَيْرَهُ يُضِلُّ، عَلَى مَعْنَى لِيُضِلُّوا النَّاسَ عَنْ سَبِيلِهِ، وقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "لِيَضِلُّوا" بِفَتْحِ الْيَاءِ مِنْ ضَلَّ يَضِلُّ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُمْ هُمْ يَضِلُّونَ عَنْ سَبيلِ اللهِ عَلَى اللُّزومِ، أَيْ" عاقِبَتُكُمْ إِلَى الضَّلَالِ وَالْإِضْلَالِ.