الموسوعة القرآنية فيض العليم .. سورة إبراهيم، الآية:
وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} بَيَانٌ لاسْتِحْقاقِهم كلَّ مَا فُعِلَ بِهِمْ، وقد نَسَبَ المكرَ إليهم لفَظَاعَتَهِ وشِدَّةِ خَطَرِهِ، والْمَكْرُ: تَبْيِيتُ فِعْلِ السُّوءِ بِالْغَيْرِ وَإِضْمَارُهُ. أَيْ: وَقَدْ مَكَرُوا بِأَنْ أَشْرَكوا بِاللهِ وعَبَدوا معَهُ غيرَهُ وَكَذَّبوا رَسُولَهُ وَناصَبوهُ العداءَ وكانوا لهُ مُعَانِدينَ، وراحوا يحيكونَ المؤامراتِ عليه ليقتلوهُ، ويَبْتَكِرُونَ الدَّسَائِسَ لِطَمْسِ نُورِ اللهِ الذي أَنْزَلَهُ عَلَيْهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَإِن كَانَ مَكْرهمْ" يَقُولُ: شِرْكُهُمْ، وهو كَقَوْلِهِ تعالى مِنْ سورةِ مريم: {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} الآية: 90.
قولُهُ: {وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ} أَيْ: فإنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى، المُطَّلِعُ عَلَى أَسْرارِهم، العَالِمُ بِمَكْرهِمْ، وَعِنْدَهُ جَزَاءُ مَكْرِهِمْ وعاقبتُهُ، فَهُوَ وَعِيدٌ للماكرين، وَتَهْديدٌ لهم بِأنَّهُ سوفَ يُؤَاخِذُهم بِسُوءِ فِعْلِهِمْ ويعاقبهم، ويُفشلُ مكرهم، وينكُثُ غزلَهم، فالعِنْدِيَّةُ عنديَّةُ عِلْمٍ وإحاطةٍ ومُحاسَبَةٍ وَمُؤَاخَذَةِ وجَزاءٍ.
قولُهُ: {وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ} إِنْ: هُنَا نافِيَةٌ بِمَعْنى (ما)، لِمَا أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ" يَقُولُ: مَا كَانَ مَكْرُهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجبَالُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي الْمَصَاحِفِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَرْبَعَةُ أَحْرُفٍ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ: "وَإِن كَانَ مَكْرَهمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجبَالُ" أَي: مَا كَانَ مَكْرُهُمْ. وَقَوْلُهُ: {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ} الآية: 17، مِنْ سُورَةِ: الأَنْبِياءِ، أَيْ: مَا كُنَّا فاعِلِينَ. وَقَوْلُهُ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} الآية: 81، مِنْ سورةِ الزُخْرُف، أَيْ: مَا كَانَ للرَّحْمَنِ مِنْ وَلَدٍ. وَقَولُهُ: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} الآية: 26، مِنْ سُورَةِ الأَحْقافِ. أَيْ: مَا مَكَنَّاكمْ فِيهِ.
وَقِيلَ المَعْنَى: إِنَّ مَكْرَهُمْ لَا يُزِيلُ أَمْرَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّذِي هُوَ ثَابِتٌ كَثُبُوتِ الْجِبَالِ. أَوْ: إِنَّ مَكْرَهُمْ وَإِنْ عَظُمَ حَتَّى بَلَغَ مَحَلًّا يُزِيلُ الْجِبَالَ لَمْ يَقْدِرُوا على إِزالةِ أَمْرِ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَن الْحَسَنَ البَصْريَّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، كانَ يقولُ: (المَعْنَى: وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ تَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ، يَصِفُهمْ بِذَلِكَ. وقال قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، معناهُ: وَإِنْ كَانَ شِرْكُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ. وهوَ كَمَا قالَ تعالى في سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} الآيات: 88 ـ 90. أَخْرَجَهُ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
قولُهُ تَعَالى: {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ. و "قَدْ" حَرْفُ تَحْقيقٍ. و "مَكَرُوا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ لاتِّصَالِهِ بِوَاوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفٍعِ فاعِلُهُ و "مَكْرَهُمْ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ} الوَاوُ: حاليَّةٌ، و "عِنْدَ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَرْفِيَّةِ المَكَانِيَّةِ متعلِّقُ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ للمُبْتَدَأِ، وهو مُضَافٌ، وَلَفْظُ الجَلالَةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإضَافَةِ إِلَيْهِ، و "مَكْرُهُمْ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليه، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ الفاعِلِ في الفعلِ "مَكَرُوا".
قولُهُ: {وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "إنْ" نَافِيَةٌ بمعنى (ما). و "كَانَ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على الفتحِ، و "مَكْرُهُمْ" اسْمُ "كان" مرفوعٌ مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذكَّر. و "لِتَزُولَ" اللامُ: حَرْفُ جَرِّ وجُحُودٍ. و "تَزُولَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ الجُحُودِ. و "مِنْهُ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "الْجِبَالُ: فاعِلٌ مَرْفوعٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه صِلَةُ "أَنْ" المُضْمَرَةِ بعدَ لامِ الجُحُودِ، و "أنْ" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بلامِ الجحودِ والتقديرُ: وإنْ كانَ مَكرُهم لِزَوالِ الجِبالِ مِنْهُ، والجارُّ والمَجْرورُ مُتَعَلِّقٌ بخبَرِ "كَانَ" المحذوفِ والتقديرُ: وإِنْ كانَ مَكْرُهم صالحًا لِزَوالِ الجِبالِ مِنْهُ، وجُمْلَةُ "كَانَ" مُستَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ قولَهُ: {لِتَزُولَ} بِكَسْرِ اللامِ، وفيها ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُها: أَنَّها نافيَةٌ للجُحُودِ؛ لأَّنَّها جاءتْ بَعدَ كوْنٍ مَنْفيٍّ، وَفي "كان" حِينَئِذٍ قَوْلانِ، أَحَدُهُما: أَنَّها تَامَّةٌ، والمَعْنَى: تَحْقِيرُ مَكْرِهم، أَنَّهُ مَا كانَ لِتَزُولَ مِنْهُ الشَّرائعُ التي كالجِبَالِ في ثُبُوتِها وَقُوَّتِها. ويُؤَيِّدُ كوْنَها نَافِيَةً قِراءَةُ عَبْدِ اللهِ بْنِ مسعودٍ ـ رضي اللهُ عَنْهُ: وما كانَ مَكْرُهم. القولُ الثاني: أَنَّها ناقصةٌ، وفي خبرِها القولانِ المَشْهورانِ بَيْنَ البَصْرِيِّينَ والكُوفيِّين: هَلْ هوَ مَحذوفٌ واللامُ مُتَعَلِّقةٌ بِهِ، وإِليْهِ ذَهَب البَصْريون، أَوْ هَذِهِ اللامُ ومَا جَرَّتْه، كما هوَ مَذْهَبُ الكُوفيِّينَ. الوَجْهُ الثاني: أَنْ تَكونَ المُخَفَّفَةَ مِنَ الثَّقيلَةِ. قالَ الزَمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ عَظُمَ مَكْرُهمْ وتَبَالَغَ في الشِّدَّةِ، فَضَرَبَ زَوَالَ الجِبَالِ مِنْهُ مَثَلًا لِشِدَّتِهِ، أَيْ: وَإنْ كانَ مَكْرُهمْ مُعَدًّا لِذَلِكَ. وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنْ يَكونَ مَعْنَى هَذِهِ القِراءَةِ: تَعْظيمَ مَكْرِهم، أَيْ: وَإِنْ كانَ شَديدًا، إِنَّمَا يُفْعَلُ لِتَذْهَبَ بِهِ عِظَامُ الأُمُورِ، فَمَفْهومُ هَذَيْنِ الكَلامَيْنِ أَنَّها مُخَفَّفَةٌ لأَنَّهُ إِثْباتٌ. والثالثُ: أَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَجَوابُها مَحْذوفٌ، أَيْ: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ مُعَدًّا لإِزالَةِ أَشْبَاهِ الجِبَالِ الرَّواسِي، وَهِيَ المُعْجِزاتُ والآياتُ، فاللهُ مُجازِيْهم بِمَكْرٍ هوَ أَعَظَمُ مِنْهُ. وَقَدْ رَجَحَ الوَجْهانِ الأَخِيرانِ عَلَى الأَوَّلِ وهوَ أَنَّها نَافِيَةٌ؛ لأَنَّ فِيه مُعارَضَةً لِقِراءَةِ الكِسائيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ قِراءَتَهُ تُؤْذِنُ بالإِثباتِ، وقراءَةُ غَيْرِهِ تُؤْذِنُ بالنَّفْيِ. وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِأَنَّ الحَالَ فِي قِراءَةِ الكِسائيِّ مُشارٌ بِها إِلى أُمُورٍ عِظامٍ غَيْرِ الإِسْلامِ ومُعْجِزاتِه كَمَكْرِهم صَلاحِيَةَ إِزالَتِها، وفي قراءةِ الجَمَاعَةِ مُشارُ بِها إِلَى مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الدِّينِ الحَقِّ، فَلا تَعَارُضَ، إِذْ لَمْ يَتَوَارَدَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ نَفْيًا وإِثْبَاتًا. وقَرَأَ الكِسائيُّ "لَتَزول" بِفَتْحِها فَفِي "إنْ" وَجْهَانِ: مَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ، أَنَّها المُخَفَّفَةُ واللامُ فَارِقَةٌ، ومَذْهَبُ الكُوفِيِّينَ: أَنَّها نَافِيَةٌ واللامُ بِمَعْنَى "إلا". وقَرَأَ عُمَرُ، وَعَلِيٌّ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعودٍ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وأَبُو سَلَمَةَ، وجَمَاعَةٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم: "وإِنْ كادَ مَكْرُهُمْ لَتَزُول" كَقِراءَةِ الكِسَائيِّ إِلَّا أَنَّهم جَعَلُوا مَكانَ نُونِ "كان" دالًا فصارَتْ فعْلًا مِنْ أَفْعالِ المُقارَبَةِ، وتخريجُها كَمَا تَقَدَّمَ، ولكنَّ الزَّوالَ غَيْرُ وَاقِعٍ. وقُرِءَ: "لَتَزُوْلَ" بِفَتْحِ اللَامَيْنِ. وتَخْريجُهُما عَلى أَنَّها جاءَتْ عَلَى لُغَةِ مَنْ يَفْتَحُ لامَ "كي".