الموسوعة القرآنية فيضُ العليم ... سورة إبراهيم، الآية: 38
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: تَعْلَمُ جَمِيعَ مَا أُخْفِيهِ وَمَا أُعْلِنُهُ مِنَ الْوَجْدِ بِإِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ، حَيْثُ أُسْكِنَا بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ. ذكرهُ القُرطُبيُّ في تَفْسيرِهِ: (9/375). وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا فِي قَوْلِهِ: "رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي" مِنْ حُبِّ إِسْمَاعِيلَ وَأُمِّهِ، وَ "مَا نُعْلِنُ" قَالَ: وَمَا نُظْهِرُ مِنَ الْجَفَاءِ لَهُمَا. وقيلَ المعنى: رَبَّنا أَنْتَ تَعْلَمُ قَصْدِي فِي دُعَائِي، وَمَا دَعَوتُكَ لأَهْلِ هَذَا البَلَدِ، وَأَنَّهُ القَصْدُ إِلَى رِضَاكَ، وَالإِخْلاصُ لَكَ، فَأَنْتَ تَعْلَمُ الأَشْيَاءَ كُلَّهَا ظَاهِرَهَا وَبَاطِنَهَا، تَعْلَمُ سِرَّنا وَعَلَنَنا، وأَنْتَ أَعْلَمُ بِأَحْوالِنَا ومَصَالِحِنَا وَأَرْحَمُ بِنَا مِنَّا بِأَنْفُسِنَا، فَلَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَنْ نَسْأَلَكَ، لِكِنَّا نَدْعُوكَ إِظْهارًا لِعُبُودِيَّتِكَ، وافْتِقارًا إِلَى رَحْمَتِكَ، واسْتِعْجالًا لِنَيْلِ مَا عِنْدَكَ، فَمَنْ عَرَفَ هَذِهِ الحَقيقَةَ اسْتَراحَ مِنْ طَوَارِقِ الليلِ والنَّهار، واسْتَرْوَحَ قَلْبُهُ عَنْ تَرَجُّمِ الأَفْكارِ، وتَوَهُّمِ الأَكْدَارِ، وتوجُّسِ الأَقْدارِ، والتَّقَسُّمِ في كَوْنِ الحَوادِثِ مِنَ الأَغْيارِ. وَقِيلَ: أَرَادَ ـ عليهِ السَّلامُ، مَا نُخْفِي مِنْ وَجْدِ الفُرْقَةِ ومَا نُعْلِنُ مِنَ التَضَرُّعِ إِلَيْكَ والتَوَكُّلِ عَلَيْكَ. فَهُوَ عَامٌّ فِيما يُخْفُونَهُ ومَا يُعْلِنُونَهُ. وَقَدْ كَرَّرَ النِّداءَ مُبَالَغَةً في التَضَرُّعِ والدُعاءِ، وإِظْهارِ الالْتِجَاءِ إِلَيْهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى.
وتَقْديمُ "مَا نُخْفِي" عَلَى مَا نُعْلِنُ لِتَحْقيقِ المُسَاواةِ بَينَهُمَا في تَعَلُّقِ العِلْمِ بِهِمَا عَلَى أَبلَغِ وَجْهٍ فَكَأَنَّ تَعَلُّقَهُ بِمَا يُخْفَى أَقْدَمُ مِنهُ بِمَا يُعُلَنُ، أَوْ لأَنَّ مَرْتَبَةَ السِّرِّ والخَفَاءِ مُتَقَدِّمَةٌ عَلى مَرْتَبَةِ العَلَنِ إِذْ مَا مِنْ شَيْءٍ يُعْلَنُ إِلَّا وَقدْ خَفِيَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَتَعَلُّقُ عِلْمِهِ ـ سُبْحانَهُ بِحَالَتِهِ الأُوْلَى أَقْدَمُ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِحَالَتِهِ الثانِيَةِ، وَقَصْدُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنَّ إِظْهارَ هَذِهِ الحاجاتِ ومَا هوَ مِنْ مَبَادِيها وَتَتِمَّاتِها، لَيْسَ لِكَوْنِها غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَكَ، بَلْ إِنَّما هوَ لإِظْهارِ العُبُودِيَّةِ والتَخَشُّعِ لِعَظَمَتِكَ، والتَذَلُّلِ لِعِزَّتِكَ، وعَرْضِ الافْتِقارِ إِلَى مَا عِنْدَكَ، والاسْتِعْجالِ لِنَيْلِ أَيَاديكَ.
قولُهُ: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ كَلامِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ويَجُوزُ أَنْ يَكونَ مِنْ كَلامِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، تَصْدِيقًا لِقَوْلِهِ: "إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ"، وارِدٌ بِطَريقِ الاعْتِراضِ لِتَصْدِيقِهِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَقَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ، في الآيةِ: 34، مِنْ سُورَةِ النَّمْلِ: {وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وَمِنْ هُنَا للاسْتِغْراقِ عَلَى الوَجْهَيْنِ. فإنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ ولا في السَّمَاءِ، لأَنَّهُ العَالِمُ بِعِلْمٍ ذَاتيٍّ يَسْتَوِي نِسْبَتُهُ إِلى كُلِّ مَعْلومٍ. فَمَا مِنْ أَمْرٍ يَدْخُلُ تَحْتَ الوُجُودِ، كائِنًا مَا كانَ، في زَمَانٍ مِنَ الأَزْمانِ، إِلَّا وَوُجُودُهُ في ذاتِهِ عِلْمٌ بالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى.
وتَقْديمُ الأَرْضِ عَلَى السَّمَاءِ مَعَ تَوْسيطِ "لا" بَيْنَهُما باعْتِبَارِ القُرْبِ والبُعْدِ مِنَّا المُسْتَدْعِيَيْنِ للتَفَاوُتِ بِالْنِسْبَةِ إِلَى عُلُومِنَا. والالْتِفَاتُ مِنَ الخِطابِ إِلَى اسْمِ الذَّاتِ المُسْتَجْمِعَةِ للصِّفاتِ لِتَرْبِيَةِ المَهَابَةِ، والإشعارِ بِعِلَّةِ الحُكْمِ عَلَى نَهْجِ قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ المُلْكِ: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفَ الخَبيرُ} الآية: 14، لأَنَّهُ لَيْسَ بِشَأْنٍ يُخْتَصُّ بِهِ أَوْ بِمَنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ بَلْ شامِلٌ لِجَميعِ الأَشْيَاءِ، فالمُنَاسِبُ ذِكْرُهُ ـ تَعَالَى، بِعُنْوانٍ مُصَحِّحٍ لِمَبْدَأِ الكُلِّ.
قولُهُ تَعَالى: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} رَبَّنَا: مُنَادَى مُضافٌ مَنْصوبٌ وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ "قَالَ". و "إِنَّكَ" إنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "تَعْلَمُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، و "مَا" إمَّا موصولةٌ أوْ نَكِرةٌ موصوفةٌ، مبنيَّةٌ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولُ "تَعْلَمُ"؛ لأَنَّهُ بِمَعْنَى "عَرَفَ". وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في محلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ" عَلَى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ. و "نُخْفِي" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المُقَدَّرةُ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ، وفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ "نحنُ" يَعودُ عَلَى "إِبْراهيمَ" وسائرِ العِبَادِ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةٌ لِـ "مَا"، فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ والتَقْديرُ: مَا نُخْفِيهِ. و "وَمَا نُعْلِنُ" مَعْطوفٌ عَلَى "مَا نُخْفِي" ولهُ مِنَ الإعرابِ ما لَهُ.
قولُهُ: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} الواوُ: اعْتِراضِيَّةٌ، أَوْ عاطِفَةٌ. و "مَا" نَافِيَةٌ لا عَمَلَ لَها. و "يَخْفَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمَ، وعلامةُ رَفْعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، ولفظُ الجلالةِ " اللهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ زائدٌ، و "شَيْءٍ" مجرورٌ لفظًا بحرفِ الجرِّ الزائدِ، مرفوعٌ مَحَلًا فاعلُ "يَخْفَى". و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِـ "يخفى" أَوْ بِصِفَةٍ لِـ "شَيْءٍ"، و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "وَلَا فِي السَّمَاءِ" معطوفٌ عَلى "فِي الْأَرْضِ". والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرابِ إِنْ قُلْنَا: إِنَّها مِنْ كلامِ اللهِ تعالى لاعْتِراضِها بَيْنَ كَلامَيْ إِبْراهيمَ ـ عليهِ السّلامُ، أَوْ هيَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى مَا قَبْلَها عَلَى كَوْنِها مَقول "قَالَ" إِنْ قُلْنَا: إِنَّها مِنْ كَلامِ إِبْراهيمَ، وقد تقدَّمَ بيانُ ذلكَ في التفسيرِ.
الشاعر عبد القادر الأسود