الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ
(39)
قولُهُ ـ جلَّ وعَزَّ: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} عَلَى: قيلَ هي عَلى بابِها مِنَ الاسْتِعْلاءِ المَجازيِّ. وقيلَ: إِنَّها بِمَعْنَى (مَعَ) كما هي في قولِ الإمام سفيان الثوريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، يمتدحُ كِبَرَهُ وهرَمهُ، فهو مُجَرِّبٌ عالِمٌ بالأُمور مُتَيَقِّظٌ لها رَغْمَ تَقَدُّمِهِ في العُمُرِ، مَعَ أَنَّ الغالِبَ عَلَى مَنْ تقدَّمَ في العُمُرِ أَنْ يَفقدَ وعْيُهُ ويُصَابَ بالخَرَفِ:
إنِّي عَلى ما تَرَيْنَ مِنَ كِبَري .................... أَعْلَمُ مِنْ تُؤْكَلُ الكَتِفَ
هَذَا البيتُ مِنَ المُنْسَرِحِ، و (أعلمُ مِنْ أينَ تؤكَلُ الكَتِفُ) مَثَلٌ يُضْرَبُ للمُجَرِّبِ المُتَفَطِّنِ للأُمورِ. يُقالُ أَنَّ الكَتِفَ تُؤْكَلُ مِنْ أَسْفَلِهَا وَيَشُقُّ أَكْلُها مِنْ أَعْلاها، وقوْلُ سيِّدِنَا إِبراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ، عَلَى الكِبَرِ أَيْ: مَعَ الْكِبَرِ الَّذِي لَا تَحْصُلُ مَعَهُ الْوِلَادَةُ. وَكَانَ عُمْرُ إِبْرَاهِيمَ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْمَاعِيلُ ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، سِتًّا وَثَمَانِينَ سَنَةً. وَعُمْرُهُ حِينَ وُلِدَ لَهُ إِسْحَاقُ ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، مِئَةَ سَنَةٍ. وَكَانَ مِنْ قَبْلُ لَا يُولَدُ لَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ" قَالَ: هَذَا بَعَدَ ذَاك بِحِينٍ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما: وُلِدَ إِسْمَاعِيلُ لِإِبْرَاهِيمَ وَهُوَ ابْنُ تِسْعٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، وَوُلِدَ إِسْحَاقُ وَهُوَ ابْنُ مِئَةٍ وَاثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً. وَأَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، قَالَ: بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بَعْدَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَمِئَةِ سَنَةٍ. وقد جاءَ ذِكرُ دعاءِ سَيِّدِنَا إبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، في غيرِ موضِعٍ منَ القرآنِ الكريمِ، فذكرَ بشارتَهُ لهُ بإسماعيلَ ـ عليهِ السلامُ، في سُورَةِ الصَّافات فقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ * فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} الآيات: (99 ـ 101). ثمَّ ذكرَ بشارتَهُ لهُ بإسحاقَ في الآيةِ: 112، مِنَ السُورَةِ ذاتِها فقالَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ}.
قولُهُ: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} أَكَّدَ خَلِيلُ الرَّحْمنِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، شُكْرَهُ النِّعْمَةَ بثلاثِ مؤكِّداتٍ، أَوَّلُها: الجُمْلَةُ الإسْمِيَّةُ، وثانيها "إنَّ"، وثالُها: اللامُ المُزَحْلَقَةُ، وقد جاءتْ هَذِهِ الجُمْلَةُ التَعْلِيليَّةُ مُؤَكِّدةً أيضًا لِجُمْلَةِ "وَهَبَ"، أَيْ وَهَبَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ. والدُعاءُ هُنَا هوَ الضَّرَاعَةُ إِلى اللهِ تَعَالَى، وَطَلَبُهُ مِنْهُ الوَلَدَ، ويَشْمَلُ أَيْضًا سماعُهُ تعالى لكلِّ دُعاءٍ. و "سَمِيعُ الدُّعَاءِ" وَصْفٌ ذَاتِيٌّ للهِ تَعَالَى، وقد صِيغَ "سَمِيعُ" بِمِثَالِ الْمُبَالَغَةِ، أَوِ الصِّفَةِ الْمُشَبَّهَةِ لِيَدُلَّ عَلَى كَثْرَةِ وُقوعِ ذَلِكَ مِنْهُ ـ سُبْحانَهُ، وَأَنَّ ذَلِكَ شَأْنُهُ. وإسنادُ سَمَاعِ الدُعاءِ إلى اللهِ تَعَالى مَجازٌ فَالسَّمِيعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ كِنَايَةً. وفيهِ إِشْعارٌ بِأَنَّهُ دَعَا رَبَّهُ وسَأَلَهُ الوَلَدَ، فَأَجَابَهُ ووَهَبَهُ ما سَأَلَ حِينَ مَا يَئِسَ مِنَ الولَدِ لِيَكُونَ ذلك مِنْ أَجَلِّ النِّعَمِ وأَجْلاهَا.
قولُهُ تَعَالى: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} الْحَمْدُ: مرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "للهِ" حرفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِخَبَرِ المُبتدَأِ، ولفظُ الجلالةِ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمُلةُ في مَحَلِّ النَّصبِ مقولُ "قَالَ". و "الَّذِي" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لاسْمِ الجَلالةِ. و "وَهَبَ" فِعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى "الله" تَعالى، والجُملةُ صِلَةُ المَوصولِ. و "لِيَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "وَهَبَ" والياءُ: ضميرُ المُتَكَلِّمِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ بحالٍ مِنْ ياءِ المُتَكَلِّمِ، و " اَلكِبَرِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، و "عَلَى" هنا بمعنى: "مع"، والتقديرُ: وَهَبَ لي حالَ كَوني مُصاحَبًا بالكِبَرِ. و "إِسْمَاعِيلَ" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ لِـ "وَهَبَ". وَ "إِسْحَاقَ" مَعْطوفٌ عَلَيْهِ منصوبٌ مثلهُ.
قولُهُ: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيد. و "رَبِّي" اسْمُه منصوبٌ بِهِ وعلامَةُ النَّصْبِ الفَتْحَةُ المُقدَّرَةُ على ما قبلِ الياءِ لانشغالِهِ بالحركةِ المناسِبَةِ للياءِ، وهو مضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ. و "لَسَمِيعُ" اللامُ: المُزَحْلَقَةُ للتوكيدِ، (حرف ابتداء)، و "سميعُ" خبَرُ "إنَّ" مرفوعٌ بِهِ مضافٌ، و "الدُّعَاء" مجرورٌ بالإضافةِ إليه، ، وجُملةُ "إنَّ" في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ "قَالَ".
وفي "سميع" أَوْجُهُ، أَحَدُها: أَنْ يَكونَ "فَعيل" مِثالَ مُبَالَغَةٍ مُضافاً إلى مَفْعُولِهِ، وإِضافَتُهُ مِنْ نَصْبٍ، وَهَذَا دَليلٌ لِسِيبَوَيْهِ عَلى أَنَّ "فَعِيلًا" يَعْملُ عَمَلَ اسْمِ الفاعِلِ، وإِنْ كانَ قَدْ خَالَفَ جُمْهورَ البَصْريِّينَ والكُوفِيِّينَ. الثاني: أَنَّ الإِضافةَ لَيْسَتْ مِنْ نَصْبٍ، وإِنَّما هوَ كَقَوْلِكَ: هَذا ضاربُ زَيْدٍ أَمْسِ. الثالثُ: أَنَّ "سميع" مُضافٌ لِمَرْفوعِهِ، ويُجْعَلُ دُعاءُ اللهِ سَمِيعًا عَلى المَجَازِ، والمُرادُ سَمَاعُ اللهِ، قالَهُ الزَمَخْشَرِيُّ. قالَ أبو حيَّانٍ الأنْدلُسِيُّ: وهوَ بعيدٌ لاسْتِلزامِهِ أَنْ يَكونَ مِنَ الصِّفَةِ المُشَبَّهَةِ، والصِفَةُ مُتَعَدِّيَةٌ، وهَذَا إِنَّما يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ الفارِسِيِّ فإِنَّهُ يُجيزُ أَنْ تَكونَ الصِفَةُ المُشَبَّهَةُ مِنَ الفِعْلِ المُتَعَدِّي بِشَرْطِ أَمْنِ اللَّبْسِ نَحْوَ: زَيْدٌ ظَالِمُ العَبيدِ إِذا عُلِمَ أَنَّ لَهُ عَبيدًا ظَالِمِينَ، وأَمَّا هُنا فَاللَّبْسُ حاصِلٌ؛ إذِ الظاهرُ أَنَّهُ مِنْ إِضافةِ المِثالِ للمَفعْولِ لا للفَاعِلِ. قالَ السَّمينُ الحلَبيُّ: واللَّبْسُ أَيْضًا هُنَا مُنْتَفٍ لأَنَّ المَعْنَى عَلَى الإِسْنَادِ المَجَازِيِّ كَمَا تَقَرَّرَ فانْتَفى اللَّبْسُ.