وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ
(33)
قولُهُ ـ تَعَالى جَدُّهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} التَّسْخيرُ: هُوَ مَنْعُ الاخْتِيارِ، وحَقِيقَتُهُ التَّذْلِيلُ وَالتَّطْوِيعُ، وَهُوَ مَجَازٌ فِي جَعْلِ الشَّيْءِ قَابِلًا لِتَصَرُّفِ غَيْرِهِ فِيهِ، وإذا مَا سَخَّرَ اللهُ شَيْئًا فَهُوَ مُنْضَبِطٌ مُطيعٌ، لا خَلَلَ فِيهِ ولا اخْتِلالٌ، أمَّا غَيْرُ المُسَخَّرِ فقد يَتَأَتَّى مِنْهِ اخْتِلافٌ واختلالٌ؛ فقَدْ يَسيرُ على جَادَّةِ الصَّوابِ، وقَدْ يُخْطِئُ. وَأَيْضًا فتَسْخِيرُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ يَعْني خَلْقُهُمَا بِأَحْوَالٍ نَاسَبَتِ انْتِفَاعَ الْبَشَرِ بِضِيَائِهِمَا، وَضَبْطِ أَوْقَاتِهِمْ بِسَيْرِهِمَا. فالشَمْسُ آيَةٌ نَهَارِيَّةٌ؛ والقَمَرُ آيَةٌ لَيْلِيَّةٌ، تسيرانِ في مسارهما لا تَفْتُرانٍ لَيْلًا وَلَا نَهَارًا، قالَ تعالى في سورةِ يس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} الآية: 40، وقال في الآيةِ: 54، مِنْ سورة الأعرافِ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ}.
وَأَخْرَجَ الطبريُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ" قَالَ: دُؤُوبُهُما فِي طَاعَةِ اللهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، فِي كِتابِ العَظَمَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: الشَّمْسُ بِمَنْزِلَةِ السَّاقِيَةِ تَجْرِي بِالنَّهَارِ فِي السَّمَاءِ فِي فَلَكِها فَإِذا غَرَبَتِ جَرَتِ اللَّيْلَ فِي فَلَكِهَا تَحْتَ الأَرْضِ حَتَّى تَطْلُعَ مِنْ مَشْرِقِها وَكَذَلِكَ الْقَمَرُ.
و "دائِبَيْنِ" مُداوِمَيْنِ مُسْتَمِرَّيْنِ يَجْرِيَانِ فِيمَا يَعُودُ إِلَى مَصَالِحِ الْعِبَادِ وَلَا يَفْتُرَانِ، وظاهِرُ الآيَةِ أَنَّ مَعْنَاهُ: دَائبَيْنِ في الطُلوعِ والغُروبِ، وما بَيْنَهُما مِنَ المَنَافِعِ للنَّاسِ التي لا تُحْصَى كَثْرَةً، يؤدِّيانِ عَمَلَهِما بِدِقَّةٍ وانْتِظامٍ دُونَ تَوَقُّفٍ أَوِ انْقِطاعٍ أوْ تَلَكُّئٍ أَوْ تَرَدُّدٍ أَوْ اخْتِلالٍ. وهو مِنَ الدَّأْبِ، والدُّؤوبِ، وهوِ مُرورُ الشَّيْءِ في عَمَلٍ رَتيبٍ، كَمَا قالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِصَاحِبِ الجَمَلِ الذي بَكَى وأَجْهَشَ إِلَيْهِ شاكيًا لهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ظُلْمَ صَاحِبِهِ لَهُ: ((إِنَّ هَذَا الجمَلَ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ)). فقدْ أَخرجَ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَعْفَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: أَرْدَفَنِي رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُخْبِرُ بِهِ أَحَدًا أَبَدًا، وَكَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ فِي حَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِطًا مِنْ حِيطَانِ الْأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ قَدْ أَتَاهُ فَجَرْجَرَ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، قَالَ بَهْزٌ وَعَفَّانُ فَلَمَّا رَأَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ فَمَسَحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ، فَسَكَنَ، فَقَالَ: ((مَنْ صَاحِبُ الْجَمَلِ؟. فَجَاءَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ هُوَ لِي يَا رَسُولَ اللهِ. فَقَالَ: أَمَا تَتَّقِي اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِي مَلَّكَكَهَا اللهُ، إِنَّهُ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ)). مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَد: (1/204، 1745). و : (1/205، 1754) والدارِمِي: (663) و (755) ومُسْلِمٌ: (1/184، 700). و: (7/132، 6351) وأبو داود: (2549). وابنُ ماجة: (340). وابْنُ خُزَيْمَةَ: (53). وأَبو يَعْلى المَوْصِلِيِّ في مُسْنَدِه: (14/28). والحاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ على الصحيحين: (6/92)، وقال: هَذَا حَديثٌ صَحيحُ الإسْنَادِ ولَمْ يُخَرِّجَاهُ. وتُدْئِبُهُ: تجعلُهُ مستمِرًّا في العمَلِ ملازِمًا له دونَ انقطاعٍ. وأَدْأَبَهُ: أَجْهَدَهُ بِمُلازَمَةِ العَمَلِ والإِكْثارِ مِنْهُ،، وهوَ مَأْخُوذٌ مِنْ دَأَبَ عَلَى العَمَلِ إِذا لَزِمَهُ.
قولُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، رَاحَةً لأَبْدانِكم، وَالنَّهارَ لِتَسْعَوْا فِيهِ فَتَنْتَفِعُوا بِمَعاشِكمْ، كَمَا قَالَ تعالى في الآية: 73، مِنْ سورةِ القَصَصِ: {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ}. يَتَعَاقَبَانِ فِي الضِّيَاءِ وَالظُّلْمَةِ، وَالنُّقْصَانِ وَالزِّيَادَةِ. فَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ يَتَعَاقَبَانِ، وَاللَّيْلُ والنَّهارُ يَتَعارضانِ، فَتَارَةً يَأْخُذُ هَذَا مِنْ هَذَا فَيَطُولُ، وتارةً يَأْخُذُ الْآخَرُ مِنَ الأوَّلِ فَيَقْصُرُ، قالَ تَعَالَى في سُورَةِ فاطِر: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} الآيَة: 13.
وَفي هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ لَفْتَ اللهُ تعالى الأنظارَ إِلَى شَأْنِ هَذَيْنِ الجُرْمَيْنِ العَظِيمَيْنِ (الشَّمْس والقَمَر) ونَبَّهَ عَلَى رِفْعَةِ مَكانِها، ونَصَّ عَلى كَوَنَ كَلٍّ مِنْهُما نِعْمَةً جَليلَةً مُسْتَوْجِبَةً للشُكْرِ. وفيها أَيْضًا مِنَ الدَّلالةِ عَلى عِظَمِ السُّلْطانِ وشِدَّةِ المُحَالِ ما لا يَخْفَى.
قولُهُ تَعَالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} وَسَخَّرَ: حرفُ عَطْفٍ، وفِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "الله" تعالى. و "لَكُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَخَّرَ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. و "الشَّمْسَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وَ "والْقَمَرَ" حرفُ عطْفٍ ومعطوفٌ على "الشَّمْسِ" مَنْصوبٌ مثله. و "دَائِبَيْنِ" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ". والجملةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جملةِ {خَلَقَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَها، على كونِها صِلةَ الموصولِ.
قولُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} مثلُ قولِهِ: "وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ" معطوفٌ عليهِ.