فيض العليم ... سورة إبراهيم، الآية: 5
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} لَمَّا كَانَتِ الْآيَاتُ السَّابِقَةُ مَسُوقَةً لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ أَنْكَرُوا أَنَّ الْقُرْآنَ مُنَزَّلٌ مِنَ اللهِ تعالى، أَعْقَبَ الرَّدَّ بِالتَّمْثِيلِ بِالنَّظِيرِ، وَهُوَ إِرْسَالُ نبيِّهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى قَوْمِهِ بِمِثْلِ مَا أُرْسِلَ بِهِ نبيُّنا مُحَمَّدٌ ـ عليه الصَلاةُ وَالسَلامُ، وَبِمِثْلِ الْغَايَةِ الَّتِي أُرْسِلَ لَهَا، أَي: لِيُخْرِجَ قَوْمَهُ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ.
وَتَأْكِيدُ الْإِخْبَارِ عَنْ إِرْسَالِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِلَامِ الْقَسَمِ وَحَرْفِ التَّحْقِيقِ لِتَنْزِيلِ الْمُنْكِرِينَ رِسَالَةَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ رِسَالَةَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِأَنَّ حَالَهُمْ فِي التَّكْذِيبِ بِرِسَالَةِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقْتَضِي ذَلِكَ التَّنْزِيلَ، فَمَا جَازَ عَلَى الْمِثْلِ جُازَ عَلَى الْمُمَاثِلِ لَهُ. عَلَى أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: مَا أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعن عَطَاء، وَعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَقَد أرسلنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا" قَالَ: بِالْبَيِّنَاتِ التِسْع التي هي: الطُّوفانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، والضَفَادِعُ، وَالدَّمُ، والعَصَا، وَيَدُهُ، والسِّنينُ، وَنَقْصٌ مِنَ الثَمَرَاتِ.
قولُهُ: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وأَنْ تَفْسِيرِيَّةٌ، فَسَّرَ الْإِرْسَالَ بِجُمْلَةِ "أَخْرِجْ قَوْمَكَ" والظُّلُماتِ مُسْتَعَارٌ لِلشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي، والنُّورِ مُسْتَعَارٌ لِلْإِيمَانِ الْحَقِّ وَالتَّقْوَى، وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فِي مِصْرَ بَعْدَ وَفَاةِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سَرَى إِلَيْهِمُ الشِّرْكُ وَاتَّبَعُوا دِينَ الْقِبْطِ، فَكَانَتْ رِسَالَةُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِإِصْلَاحِ اعْتِقَادِهِمْ مَعَ دَعْوَةِ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ لِلْإِيمَانِ بِاللهِ الْوَاحِدِ، وَكَانَتْ آيِلَةً إِلَى إِخْرَاجِ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الشِّرْكِ وَالْفَسَادِ وَإِدْخَالِهِمْ فِي حَظِيرَةِ الْإِيمَانِ وَالصَّلَاحِ منْ جديدٍ.
قولُهُ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} أَيْ: ذكِّرهم بأَيَّامِ ظُهُورِ بَطْشِهِ وَغَلْبِهِ مَنْ عَصَوْا أَمْرَهُ، وَتَأْيِيدِهِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَدُوِّهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ عِزَّةِ اللهِ تَعَالَى. وَأَخَرَجَ النَّسَائِيُّ، وَعبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حنبلٍ فِي زَوَائِد الْمُسْنَدِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ أُبيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ ـ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: "وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ" قَالَ: بِنِعَمِ اللهِ وآلائِهِ. وَأَخرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ" قَالَ: نِعَمِ اللهِ. وَأَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَذَكِّرْهُمْ بأَيَّامِ اللهِ" قَالَ: بِالنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِم: أَنْجاهُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وفَلَقَ لَهُمُ الْبَحْرَ، وظَلَّلَ عَلَيْهِم الْغَمَامَ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمُ الْمَنَّ والسَّلْوَى. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ "وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ" قَالَ: وَعِظْهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَوِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَخْطُبُنَا فَيُذَكِّرُنَا بِأَيَّامِ اللهِ، حَتَّى نَعْرِفَ ذَلِكَ فِي وَجْهِهِ، وَكَأَنَّهُ نَذِيرُ قَوْمٍ يُصَبِّحُهُمُ الأَمْرُ غُدْوَةً، وَكَانَ إِذَا كَانَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِجِبْرِيلَ ، لَمْ يَتَبَسَّمْ ضَاحِكًا، حَتَّى يَرْتَفِعَ عَنْهُ. وأخرجَهُ الإمامُ أَحمدُ في مُسندِهِ: (1/167 رقم: 1437)، وَرِجَالُهُ ثِقَاتٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَذَكِّرْهُمْ بأَيَّامِ اللهِ" قَالَ: بِوَقائعِ اللهِ فِي الْقُرُونِ الأُولى.
وَالتَّذْكِيرُ: إِزَالَةُ نِسْيَانِ شَيْءٍ. وَيُسْتَعْمَلُ فِي تَعْلِيمِ مَجْهُولٍ كَانَ شَأْنُهُ أَنْ يُعْلَمَ. وَلَمَّا ضُمِّنَ التَّذْكِيرُ مَعْنَى الْإِنْذَارِ وَالْوَعْظِ عُدِّيَ بِالْبَاءِ، أَيْ ذَكِّرْهُمْ تَذْكِيرَ عِظَةٍ بأَيَّامِ اللهِ. وَشَاعَ إِطْلَاقُ اسْمِ الْيَوْمِ مُضَافًا إِلَى اسْمِ شَخْصٍ أَوْ قَبِيلَةٍ عَلَى يَوْمٍ انْتَصَرَ فِيهِ مُسَمَّى الْمُضَافِ إِلَيْهِ عَلَى عَدُوِّهِ، يُقَالُ: أَيَّامُ تَمِيمٍ، أَيْ أَيَّامُ انْتِصَارِهِمْ، فَأَيَّامُ اللهِ أَيَّامُ ظُهُورِ قُدْرَتِهِ وَإِهْلَاكِهِ الْكَافِرِينَ بِهِ وَنَصْرِهِ أَوْلِيَاءَهُ وَالْمُطِيعِينَ لَهُ. و "أَيَّامُ اللهِ" أَيْضًا نِعَمَهُ، ومِنْهُ قولُ الشاعرِ عَمْرو بْنِ كُلثومٍ:
وأَيامٍ لنا غُرٍّ طِوالٍ ......................... عَصَيْنا المَلْكَ فيها أن نَدِينا
أَوْ نِقَمُهُ، كَما في قَوْلِ الشاعرِ السَّموْأَلِ، أَوْ الحارِثيِّ فقد نُسِبَ هذا البيتُ إليهِ أيضًا:
وَأَيَّامُنَا مَشْهُورَةٌ فِي عَدُوِّنَا ..................... لَهَا غُرَرٌ مَعْلُومَةٌ وَحُجُولُ
ووجهُهُ: أَنَّ العَرَبَ تَتَجَوَّزُ فَتُسْنِدُ الحَدَثَ إِلَى الزَمَانِ مَجَازًا، وتُضيفُهُ إِلَيْها كَقَوْلِهِمْ: نَهارٌ صائمٌ، وَلَيْلٌ قائمٌ، ومَكْرُ اللَّيْلِ. فَالْمُرَادُ بِـ "أَيَّامَ اللهِ" هُنَا الْأَيَّامُ الَّتِي أَنْجَى اللهُ فِيهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ وَنَصَرَهُمْ وَسَخَّرَ لَهُمْ أَسْبَابَ الْفَوْزِ وَالنَّصْرِ وَأَغْدَقَ عَلَيْهِمُ النِّعَمَ فِي زَمَنِ رسولِهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مِمَّا أُمِرَ به مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِأَنْ يُذَكِّرَهُمْ بِهِ، وَكُلُّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَضْمُونِ الْإِرْسَالِ، لِأَنَّ إِرْسَالَ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مُمْتَدٌّ زَمَنُهُ، وَكُلَّمَا أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ بِتَذْكِيرٍ فِي مُدَّةِ حَيَّاتِهِ فَهُوَ مِنْ مَضْمُونِ الْإِرْسَالِ الَّذِي جَاءَ بِهِ، فَهُوَ مَشْمُولٌ لِتَفْسِيرِ الْإِرْسَالِ. وَقَوْلُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعالَمِينَ يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} الآيتانِ: (20) و (21) مِنْ سُورَة الْمَائِدَة، هُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ الْمُفَسَّرِ بِهِ إِرْسَالُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهُوَ وَإِن كَانَ وَاقِعًا بَعْدَ ابْتِدَاءِ رِسَالَتِهِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً فَمَا هُوَ إِلَّا تَذْكِيرٌ صَادِرٌ فِي زَمَنِ رِسَالَتِهِ، وَهُوَ مِنَ التَّذْكِيرِ بِأَيَّامِ نِعَمِ اللهِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي أَعْطَاهُمْ، وَمَا كَانُوا يُحَصِّلُونَهَا لَوْلَا نَصْرُ اللهِ إِيَّاهُمْ، وَعِنَايَتُهُ بِهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّهُ رُبَّ ضَعِيفٍ غَلَبَ قَوِيًّا وَنَجَا بِضَعْفِهِ مَا لَمْ يَنْجُ مِثْلُهُ الْقَوِيُّ فِي قُوَّتِهِ.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} التَّذْكِيرُ بِأَيَّامِ اللهِ يَشْتَمِلُ عَلَى آيَاتِ قُدْرَةِ اللهِ وَعِزَّتِهِ وَتَأْيِيدِ مَنْ أَطَاعَهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ آيَاتٌ كَائِنَةٌ فِي الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ عَلَى اخْتِلَافِ أَحْوَالِهِ. واسْمُ الْإِشَارَةِ هنا عَائِدٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنَ الْإِخْرَاجِ وَالتَّذْكِيرِ، فَالْإِخْرَاجُ مِنَ الظُّلُمَاتِ بَعْدَ تَوَغُّلِهِمْ فِيهَا وَانْقِضَاءِ الْأَزْمِنَةِ الطَّوِيلَةِ عَلَيْهَا آيَةٌ مِنْ آيَاتِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى.
وَقَدْ أَحَاطَ بِمَعْنَى هَذَا الشُّمُولِ حَرْفُ الظَّرْفِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: فِي ذلِكَ لِأَنَّ الظَّرْفِيَّةَ تَجْمَعُ أَشْيَاءَ مُخْتَلِفَةً يَحْتَوِيهَا الظَّرْفُ، وَلِذَلِكَ كَانَ لِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ هُنَا مَوْقِعٌ بَلِيغٌ.
وَلِكَوْنِ الْآيَاتِ مُخْتَلِفَةً، بَعْضُهَا آيَاتُ مَوْعِظَةٌ وَزَجْرٌ وَبَعْضُهَا آيَاتُ مِنَّةٍ وَتَرْغِيبٍ، جُعِلَتْ مُتَعَلقَة بـ "لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" إِذْ الصَّبْر مُنَاسِب لِلزَّجْرِ لِأَنَّ التَّخْوِيفَ يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَى تَحَمُّلِ مُعَاكَسَةِ هَوَاهَا خِيفَةَ الْوُقُوعِ فِي سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَالْإِنْعَامَ يَبْعَثُ النَّفْسَ عَلَى الشُّكْرِ، فَكَانَ ذِكْرُ الصِّفَتَيْنِ تَوْزِيعًا لِمَا أَجْمَلَهُ ذِكْرُ أَيَّامِ اللهِ مِنْ أَيَّامِ بُؤْسٍ وَأَيَّام نعيم.
وَأَخرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَريرٍ، وابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَن قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" قَالَ: نِعْمَ العَبْدُ عَبْدٌ إِذا ابْتُلِيَ صَبَرَ وَإِذا أُعْطِيَ شَكَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" قَالَ: وَجَدْنَا أَصْبَرَهم أَشْكَرَهُمْ، وَأَشْكَرَهم أَصْبَرَهمْ.
وَأخرجَ ابْنْ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي شُعَبِ الإِيمانِ مِنْ طَرِيقِ أَبي ظَبْيَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الصَّبْرُ نِصْفُ الإِيمانِ، وَالْيَقِينُ الإِيمانُ كُلُّهُ، قَالَ: فَذَكَرتُ هَذَا الحَدِيثِ للعلاءِ بْنِ يَزِيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَوَلَيْسَ هَذَا فِي الْقُرْآنِ: "إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ" إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ للمُوقِنينَ.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا} الواوُ: اسْتِئنافِيَّةٌ، واللامُ: مُوَطِئَةٌ للقَسَمِ. و "قَدْ" حَرْفُ تَحْقيقٍ. و "أَرْسَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ، وهيَ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ. و "موسى" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الفتحةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ، لتعذُّرِ ظهورِها على الألِفِ. و "بِآيَاتِنَا" الباءُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بحالٍ مِنْ "مُوسَى" أَيْ: حالَةَ كَوْنِهِ مُتَلَبِّسًا بِآياتِنا، و "آياتِ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، و "نا" ضميرُ المُعَظِّمِ نفسَهُ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جَوابٌ للقَسَمِ المَحْذوفِ، وجُمْلَةُ القَسَمِ المحذوفِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أَنْ: مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ: بِأَنْ أُخْرِجْ. والباءُ في «بِآيَاتِنَا» للحالِ، وهَذِهِ للتَعْدِيَةِ. ويَجوزُ أَنْ تَكونَ مُفَسِّرَةً للرِّسَالَةِ. وقِيلَ: بَلْ هِي زَائِدَةٌ، وهوَ غَلَطٌ. و "أَخْرِجْ" فِعْلُ أمْرٍ مَبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "أنْ" المَصْدَرِيَّةِ مَبنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ عَلَى سيِّدِنا "مُوسَ" عَليْهِ السَّلامُ. و "قَوْمَكَ" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ. و "مِنَ" حرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَخْرِجْ"، و "الظُّلُمَاتِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، و "إِلَى النُّورِ" مثلُ "مِنَ الظُلُماتِ"، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ والتقديرُ: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوْسَى بِآياتِنا بِإِخْراجِ قَوْمِكَ مِنَ الظُلُماتِ، وهذا الجارُّ المحذوفُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَرْسَلْنَا"، وهذِهِ المُقَدَّرَةُ للتَعْدِيَةِ، والباءُ في بِآياتِنَا للحالِ كما تقدَّمَ، فلا اتَّحادَ في المَعْنَى، ويَجوزُ أَنْ تَكونَ "أَنْ" مُفَسِّرَةً لأَنَّ الضَابِطَ مَوْجودٌ، وهوَ أَنْ يَتَقَدَّمَها جُمْلَةٌ فِيها مَعْنَى القَوْلِ دُونَ حُروفِهِ، و "أَرْسَلْنَا" فيهِ مَعَنَى "قُلْنا".
قولُهُ: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ} الوَاو: للعطْف، و "ذَكِّرْهُمْ" فِعْلُ أَمرٍ مبنيٌّ على السكونِ، مَعْطوفٌ عَلَى "أَخْرِجْ"، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ عَلَى "مُوسَى" عليهِ السَّلامُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ للجمع المُذكَّرِ. و "بِأَيَّامِ" الباءُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالفعلِ "ذكِّرْ"، و "أَيَّامِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. و يجوزُ في "ذَكِّرْهُمْ" أَنْ يَكونَ مَنْسُوقًا عَلَى "أَخْرِجْ" ِعلى كونِهِ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذوفٍ فَيَكونَ مِنَ التَفْسيرِ، ويَجُوزُ أَنْ لا يَكونَ مَنْسُوقًا، فتكونُ الجملةُ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} إِنَّ: حَرْفُ نَصْبٍ ونسحٍ مشبَّهٌ بالفعلِ للتَوْكِيدِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلَّقٌ بخَبَرِ "إنَّ" المُقَدَّمِ عَلَى اسْمِها، و " ذَلِكَ" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخطابِ. و "لَآيَاتٍ" اللامُ: المزحلقَةُ للتوكيدِ أَوْ حَرْفُ ابْتِداءٍ. و "آيَاتٍ" اسْمُ "إنَّ" منصوبٌ مُؤَخَّرٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسْرةُ نيابةً عنِ الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المؤنَّثِ السالمُ. و "لِكُلِّ" اللامُ: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "آيَاتٍ"، و "صَبَّارٍ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "شَكُورٍ" صِفَةٌ لـ "صَبَّارٍ" مجرورةٍ مثلها، وجُمْلَةُ "أِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.