وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ
(42)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} تَأْكيدٌ لِوَعِيدِهِ تَعَالى للْمُشْرِكِينَ، وَإِنْذَارِهِ لَهُمْ بِأَنْ لَا يَغْتَرُّوا بِسَلَامَتِهِمْ وَأَمْنِهِمْ تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَتَاعٌ قَلِيلٌ زَائِلٌ، وذلك في الآيةِ: 30، السابقةِ مِنْ هذِهِ السورةِ حيثُ قالَ: {قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}. وفيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ أَنْ أَعْجَبَهُ مِنْ أَفْعَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَ إِبْرَاهِيمَ، أَيِ اصْبِرْ كَمَا صَبَرَ إِبْرَاهِيمُ، وَأَعْلِمِ الْمُشْرِكِينَ أَنَّ تَأْخِيرَ الْعَذَابِ لَيْسَ لِلرِّضَا بِأَفْعَالِهِمْ، بَلْ سُنَّةُ اللهِ إِمْهَالُ الْعُصَاةِ مُدَّةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، والخَرائطِيُّ فِي مَسَاوِئِ الْأَخْلَاقِ عَنْ مَيْمُونَ بْنِ مِهْرَان ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلًا عَمَّا يعْمَلُ الظَّالِمُونَ" قَالَ: هَذَا وَعِيدٌ لِلظَّالِمِ، وَتَعْزِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ كذَلِكَ: هِيَ تَسْلِيَةٌ لِلْمَظْلُومِ وَتَهْدِيدٌ لِلظَّالِمِ.
وَالْمُرَادُ بِالظُّلْمِ هُنَا الشِّرْكُ، لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لِلنَّفْسِ بِإِيقَاعِهَا فِي سَبَبِ الْعَذَابِ الْمُؤْلِمِ، وَظُلْمٌ للهِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَى مَا يَجِبُ لَهُ مِنَ الِاعْتِرَافِ بِالْوَحْدَانِيَّةِ. وَيَشْمَلُ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنَ الظُّلْمِ دُونَ الشِّرْكِ مِثْلَ ظُلْمِ النَّاسِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ أَوْ حِرْمَانِهِمْ حُقُوقَهُمْ فَإِنَّ اللهَ غَيْرُ غَافِلٍ عَنْ ذَلِكَ. والْغَفْلَةُ: الذُهولُ، وهي مَعْنًى يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ مِنَ الْوُقُوفِ عَلَى حَقِيقَةِ الأُمُورِ. وَنَفْيُ الْغَفْلَةِ عَنِ اللهِ تعالى لَيْسَ جَارِيًا عَلَى صَرِيحِ مَعْنَاهُ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يَظُنُّهُ مُؤْمِنٌ باللهِ ـ سُبْحانَهُ، بَلْ هُوَ كِنَايَةٌ عَنِ النَّهْيِ عَنِ اسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ لِلظَّالِمِينَ. وَمِنْهُ جَاءَ مَعْنَى التَّسْلِيَةِ لِلرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قولُهُ: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} أَيْ: إِنَّما يُمْهِلُ مُشْرِكِي مَكَّةَ وَيُؤَخِّرُ عَذَابَهُمْ. وتَشْخَصُ الْأَبْصارُ: لَا تُغْمَضُ مِنْ هَوْلِ مَا تَرَاهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، يُقَالُ: شَخَصَ الرَّجُلُ بَصَرَهُ وَشَخَصَ الْبَصَرُ نَفْسُهُ أَيْ سَمَا وَطَمَحَ مِنْ هَوْلِ مَا يَرَى. ومعنى شُخُوصِ البَصَرِ أيضًا حِدَّةُ النظرِ وعَدَمُ استقرارِه في مكانِه، ويُقالُ: شَخَصَ سَهْمُهُ وبَصَرُهُ، وأَشْخَصَهما صاحبُهما، وشَخَصَ بصرُه: لم يَطْرِفْ جَفْنُهُ، ويُقال: شَخَصَ مِنْ بَلَدِهِ، أَيْ: بَعُدَ، والشَّخْصُ: سَوَادُ الإِنْسانِ المَرْئِيِّ مِنْ بَعيدٍ. وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عنهما: تَشْخَصُ أَبْصَارُ الْخَلَائِقِ يَوْمئِذٍ إِلَى الْهَوَاءِ لِشِدَّةِ الْحِيرَةِ فَلَا يَرْمَضُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّمَا يُؤَخِّرُهمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ" قَالَ: شَخَصَتْ فِيهِ وَاللهُ أَبْصَارُهُمْ فَلَا تَرْتَدُّ إِلَيْهِم.
قولُهُ تَعَالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ. و "لا" نَاهِيَةٌ جازِمَةٌ. و "تَحْسَبَنَّ" فعلٌ مُضارعٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ لاتِّصالِهِ بنونِ التوكيدِ الثقيلةِ في مَحَلِّ الجَزَمِ بِـ "لا" النَاهِيَةِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيدِنا محمَّدٍ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أو على كلِّ مَنْ هو أهلٌ للخطابِ. ولفظُ الجلالةِ، "اللهَ" مفعولٌ بهِ أوَّل مَنْصوبٌ، و "غَافِلًا" مفعولٌ بِهِ ثانٍ منصوبٌ. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "عَمَّا" عن: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "غَافِلًا"، و "ما" حرفٌ مَصْدريٌّ، أوْ نَكِرةٌ موصوفةٌ، أَوْ اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "يَعْمَلُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، و "الظَّالِمُونَ" فاعِلٌ مرفوعٌ، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المُفردِ، وهذه الجُمْلَةُ الفعليَّةُ صِلَةُ "ما" المَوْصُولَةِ، لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ الجرِّ، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: عَمَّا يَعْمَلُهُ الظالمونَ. وإِذا أُعْرِبَتْ "ما" مَصْدريةً تَكونُ جُمْلةُ "يعملُ الظالمونَ" بعدَها في تأويلِ مَصْدَرٍ مَجرورٍ بحرفِ الجرِّ "عن" ويكونُ التقديرُ: عنْ عَمَلِ الظالمينَ.
قولُهُ: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ} إِنَّمَا: كافةٌ ومكفوفةٌ للحَصْرِ، و "يُؤَخِّرُهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ تعالى، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لِيَوْمٍ" حرفُ جرٍّ للتَعْليلِ، أَيْ: لأَجْلِ يَوْمٍ، وَقِيلَ هوَ بِمَعنَى "إِلى"، أَيْ: للغايةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُؤَخِّرُهُمْ"، ويومٍ: مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "تَشْخَصُ" فِعْلٌ مُضارعٍ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، و "فِيهِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَشْخَصُ" والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مي محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، و "الْأَبْصَارُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَرِّ صِفَةً لِـ "يَوْمٍ"، ولكنَّها صِفَةٌ سَبَبَيَّةٌ.
وقرَأَ العامَّةُ: {يُؤَخِّرُهم} بالياءِ لِتَقَدُّمِ اسْمِ اللهِ تَعَالى. وَقَرَأَ الحَسَنُ، والسُّلَمِيُّ، والأَعْرَجُ وغيرُهم: "نَؤَخِّرُهم" بِنُونِ العَظَمَةِ، وَتُرْوَى أَيَضًا عَنْ أَبي عَمْرٍو.