رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ
(40)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} الْإِقَامَةُ: الْإِدَامَةُ، أَيْ: رَبِّ اجْعَلْنِي مُحَافِظًا عَلَى الصَّلاَةِ، مُسْتمِّرًا على إِقامَتِها، مُقِيمًا لِحُدُودِهَا، كَمَا فَرَضْتَهَا عَلَيَّ، لأَنَّهُ كانَ مُثابِرًا عَلَيْها، مُتَمَسِّكًا بِها، ولذلك فإِنَّما المَقْصِدُ هنا إِدامَةُ ذَلِكَ الأَمْرِ، واسْتِمْرارُهُ. وَقَدْ خَصَّ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بدعائهِ هذا الصَّلاةَ مِنْ بَيْنِ الفَرَائِضِ الأُخْرَى لأَنَّها عِمادُ الدِّينِ والعُنْوَانُ الذِي يَمْتَازُ بِهِ المُؤْمِنُ عَنْ غَيْرِ المُؤْمِنِ.
قولُهُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} قيلَ: "مِنْ" هنا للتَبْعيضِ، والمَعْنَى: وَاجْعَلْ مِنْ ذُرِّيَتِي كَذَلِكَ مَنْ يُقِيمُ الصَّلاَةِ، لأَنَّهُ سَبَقَ أَنْ أَعْلَمَهُ اللهَ تَعَالى بِأَنَّهُ سَيَكونُ مِنْ ذرِّيَّتِهِ كَفَرةٌ، يُؤَيِّدُه ما أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "رَبِّ اجْعَلْنِي مُقيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" قَالَ: فَلَنْ يَزَالُ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ نَاسٌ عَلَى الْفِطْرَةِ يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى حَتَّى تَقُومُ السَّاعَةُ. وقدْ بَيَّنَا ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية: 36، مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ المُبارَكَةِ. وَقيلَ: "مِنْ" للابتِداءِ، والمَعْنَى: وَاجْعَلْ مُقِيمِينَ لِلصَّلَاةِ مِنْ ذُرِّيَّتِي. لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَا يَسْأَلُ اللهَ إِلَّا أَكْمَلَ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ وَلِذَرِّيَّتِهِ. وَهَذِهِ خَيْرُ دَعْوَةٍ يَدْعوها المُؤْمِنُ لِنَفْسِهِ ولأَوْلادِهِ، فَلا أَحَبَّ لَهُ مِنْ أَنْ يَكونَ مُقيمًا للصَّلاةِ هُوَ وَذُرِّيَّتُهُ لأَنَّها عِمادُ الدِّينِ ومِيزَةُ المُؤمِنينَ.
قولُهُ: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَائِي فِيمَا سَأَلْتُكَ فِيهِ. فإنَّهُ ـ عليهِ السَّلامُ، بَعْدَ أَنّْ قدَّمَ الحَمْدَ والشُّكْرَ للهِ تعالى عَلَى مَا وَهَبَهُ إيَّاهُ عَلَى الكِبَرِ مِنَ الذُّرِّيَّةِ، طَلَبَ مِنْ رَبِّهِ أنْ يُعينَهُ عَلَى مُداوَمَةِ شُكْرِهِ، بِإِقامَةِ الصَّلاةِ والاسْتمرارِ عليها هوَ وذُرِّيَّتُهُ، وأَنْ يَتَقَبَّلَ دُعَاءَهُ. والدُّعاءُ هوَ العِبادَةُ، جَاءَ ذلك في الحَديثِ الشَّريفِ الصَّحيحِ: ((الدُّعاءُ هُوَ العِبادَةُ)). أَخْرَجَهُ التِرْمِذِيُّ: (برَقْم: 2969 و 3247 و 3372)، وأَبو داودَ: (برَقْم: 1479)، وأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: (4/267)، والبُخاري في (الأَدَبِ المُفْرَدِ): (برَقْم: 714). مِنْ حَديثِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مرفوعًا. أَمَّا أَخْرَجَهُ: التِّرمِذيُّ: (برَقْم: 3371) والطَّبَرانيُّ في معجَمِهِ الأَوْسَطِ برَقْم: (3220) مِنْ حَديثِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((الدُّعَاءُ مُخُّ الْعِبَادَةِ)). فهوَ حَديثٌ ضَعيفٌ بِهَذا اللفظِ.
قولُهُ تَعَالى: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ} رَبِّ: مُنَادَى مُضَافٌ أَصْلُهُ (رَبِّي)، حُذِفَتْ يَاءُ الْمُتَكَلِّمِ تَخْفِيفًا، مَنْصوبٌ وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ المُقَدَّرَةُ عَلَى مَا قَبْلِ الياءِ المَحْذوفَةِ للتَّخْفيفِ، وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْمُنَادَى الْمُضَافِ إِلَى الْيَاءِ، وياءُ المُتَكَلِّمِ، أَوِ النِسْبَةِ المَحْذوفَةِ ضَميرٌ مَجرورٌ بالإضافَةِ إليه، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ". و "اجْعَلْنِي" فِعْلُ دُعاءٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعودُ عَلَى اللهِ تعالى، والنونُ للوقايةِ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ أوَّل، و "مُقيمَ" مفعولٌ بِهِ ثانٍ منصوبٌ، وهو مُضافٌ، و "الصَّلاةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ {قَالَ}، عَلى كَوْنِها جَوَابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِي} الواو: للعطْفِ، و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِمَحْذوفٍ معطوفٌ عَلى المَفْعُولِ الأَوَّلِ لِـ "اجْعَلْ"، والتَقْديرُ: رَبِّ اجْعَلْنِي وبَعْضًا مِنْ ذُرِّيِّتي مُقيمَ الصَّلاةِ، و "ذُرِّيَّتِي" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ.
قولُهُ: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} رَبَّنَا: مُنَادَى مُضافٌ مَنْصوبٌ وعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ، و "نَا" ضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجرِّ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولُ القولِ لِـ {قَالَ}. و "تَقَبَّلْ" مثلُ "اجْعَلْ". و "دُعَاءِ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلَى مَا قَبْل ياءِ المُتَكَلِّمِ المَحْذوفةِ اجْتِزاءً عَنْها بالكَسْرَةِ، مَنَعَ مِنْ ظُهُورِها اشْتِغَالُ المَحَلِّ بِالحَرَكَةِ المُنَاسِبَةِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ، والتَقْديرُ: رَبَّنَا فاسْمَعْ نِدائي وتَقَبَّلْ دُعائي، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مقولُ القولِ لِـ {قَالَ} عَلَى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ.
قرَأَ الجُمهورُ: {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} بحذفِ الياءِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وحَمْزَةُ، وَوَرْشٌ، بإثْباتِها وَصْلًا وحَذْفِها وَقْفًا، وقَرَأَ البزِيُّ بإثْباتِها في الحَالَيْنِ.