الموسوعة القرآنية فيض العليم .. سورة إبراهيم، الآية: 51
لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} الجزاءُ أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ في الوُجودِ
قيلَ: الْمُرَادُ مِنْ "كُلَّ نَفْسٍ" أَنْفُسُ الْكُفَّارِ لِأَنَّ مَا سَبَقَ ذِكْرُهُ لَا يَلِيقُ أَنْ يَكُونَ جَزَاءً لِأَهْلِ الْإِيمَانِ، ويَجوزُ إِجْرَاءُ اللَّفْظِ عَلَى عُمُومِهِ، لِأَنَّ ظَاهرَ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَجْزِي كُلَّ نفسٍ بِمَا يَلِيقُ بِعَمَلِها وَكَسْبِها، وَلَمَّا كَانَ كَسْبُ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ الْكُفْرَ وَالْمَعْصِيَةَ، كَانَ جَزَاؤُهُمْ هُوَ هَذَا الْعِقَابَ الْذي سَبَقَ ذِكْرُهُ، وَلَمَّا كَانَ كَسْبُ الْمُؤْمِنِينَ الْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ، كَانَ اللَّائِقُ بِهِمْ هُوَ الثَّوَابَ، وَأَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَاقَبَ الْمُجْرِمِينَ بِجُرْمِهِمْ فَلِأَنْ يُثِيبَ الْمُطِيعِينَ عَلَى طَاعَتِهِمْ كَانَ أَوْلَى. وَإِنَّمَا فَعَلَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِهِمْ جَزَاءً وِفَاقاً لَهُمْ بِمَا كَسَبُوا فِي الدُّنْيَا مِنَ الكُفْرِ وَالآثَامِ. وَيَوْمَ القِيَامَةِ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرًا، وَإِنْ شَرًّا فَشَرًّا.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} قد يُظَنُّ بِأَنَّ حسابَ كلِّ هذه المخلوقاتِ التي يستحيلُ حَصْرُ عددِها إلَّا على خالقها، سَيَسْتَغْرِقُ وَقْتًا طيلًا جِدًّا، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ اللهُ ـ سُبْحانَهُ، بأَنَّهُ "سَرِيعُ الحِسَابِ"، لأَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كُلَّ شَيءٍ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَلاَ تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ خَافِيَةٌ. وقد سُئلَ الإمامُ ـ عَلِيٌّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: كَيْفَ سَيُحَاسِبُ اللهُ الخَلْقَ كُلَّهمْ دفعَةً واحِدَةً؟ فأجاب: كَمَا يَرْزُقُهم جَميعًا في وَقْتٍ واحِدٍ. فَإِنَّ جَمِيعَ الْخَلْقِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى قُدْرَتِهِ كَالْوَاحِدِ مِنْهُمْ، قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 28، مِنْ سورةِ لُقْمان: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}.
قولُهُ تَعَالى: {لِيَجْزِيَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ} اللامُ: لامُ (كي) حرفُ جَرٍّ للتعليلِ، و "يَجْزِيَ" فعلٌ مُضَارِعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ اللامِ، والمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ (أَنْ يَجْزِيَ) في مَحَلِّ الجَرِّ باللامِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: فَعَلْنَا ذَلِكَ بِهِمْ للجَزاءِ، ويَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ {برزوا} مِنْ الآية: 48، السابقة، فَيَكونُ مَا بَيْنَهُمَا اعْتِراضٌ. ولفظُ الجَلالةِ: "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، و "كلَّ" مَفْعولٌ بِهِ أَوَّلُ مَنْصوبٌ، وهوَ مُضافٌ، و "نَفْسٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، و "ما" مَوْصُولَةٌ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ ثانٍ لِـ "يجزي". و "كَسَبَتْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفَاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعودُ عَلَى "نَفْسٍ"، والتاءُ: لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، والجُمْلَةُ الفعْليَّةُ هذه صِلَةُ الاسْمِ الموصولِ "مَا"، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ، والعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: مَا كَسَبَتْهُ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعلِ، للتوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُها منصوبٌ بها. و "سريعُ" خبرُهُ مرفوعٌ، وهو مُضافٌ. و "الحِسابِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلها، لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.