اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ
(32)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} اسْتِئْنَافٌ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ جُمْلَةُ {وَجَعَلُوا للهِ أَنْدادًا} الْآيَةَ: 30، من هذه السورةِ، يَرشِدُ بِهِ اللهُ تَعَالَى عبادَهُ إِلَى الأَدِلَّةِ المَنْصُوبَةِ فِي الآفَاقِ التِي تُوجِبُ عَلَيهِمُ المُثَابَرَةَ عَلَى شُكْرِهِ، وَدَوَامِ طَاعَتِهِ، وَأُدْمِجَ فِي الِاسْتِدْلَالِ تَعْدَادَ نِعَمٍ يَسْتَحِقُّ الشُّكْرَ عَلَيْهَا، لِيَظْهَرَ حَالُ الَّذِينَ كَفَرُوهَا، وَفي تعْدادِه لهَذِهِ النِّعَمِ العَظِيمَةِ التِي أَغْدَقَهَا عَلَيْهِمْ حَثٌّ لَهُمْ عَلَى التَّفَكُّرِ والتَّدَبُّرِ، فِيمَا يَأْتُونَ، وَفِيمَا يَذَرُونَ. ومِنْ تِلكَ النِّعمِ العظيمةِ خَلَقُهُ تَعَالى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَيُعدُّ خَلْقَهُمَا أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الإِنْسَانِ، لقولِهِ تَعَالى في سُورةِ غافر: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} الآية: 57. وفي هذَه الجملةِ لَفْتٌ لَنَا عَلَى الإِجْمَالِ؛ إِذْ لَمْ يَقُلْ هُنَا ما قالَهُ عَنِ السَماءِ في آياتٍ أُخْرَى مِنْ كِتابِهِ الكريمِ، بِأَنَّها مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ نَرَاها كما قالَ في الآيةِ: 2، مِنْ سُورةِ الرَعْدِ: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، وأَنَّهُ لَيْس فيها تَفَاوتٌ ولا فُطُورٌ كَمَا قالَ في الآيَةِ: 3، مِنْ سورةِ الملكِ: {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} أوْ أنَّه زيَّنها بمصابيحَ أو غير ذلك من صفاتِ السَّمَاءِ التي بَثَّها اللهُ تَعَالى في كِتابِهِ العَزيز، وكذلك فلم يَذكُرْ عَنِ الأرضِ أَنَّهُ خَلَقَ فيها رَواسِيَ كيْ لا تَميدَ بِنَا، كما قالَ في الآيةِ: 15، مِنْ سورة النحل: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، وكيفَ أَنَّها قَدَّرَ فيها أَقْواتَها، كقولِهِ في الآية: 10، من سورة فُصِّلَتْ: {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ}، إلى غيرها منْ صفاةٍ كثيرةٍ وَصَفَ بها الأرضَ، وإنَّما جاءَتِ هَذِهِ الآيَةُ هنا بِلَمْحَةٍ موجَزةٍ عَنْ خَلْقِهما لأنَّ المرادَ هو الاستشهادُ بعظمةِ خلقهما على عظمةِ خالقهما وحقيَّتِ بالألوهَةِ، وسَفَهِ عُقولِ الذين اتخذوا لَهُ أَنْدادًا وصِغَرِ أَحلامهم، وليسَ المرادُ هُنَا تَعْريفَهم بِتَفَاصِيلِ هَذَا الخَلْقِ وعِظَمِهِ.
قولُهُ: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} أَيْ: وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَطَرًا فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ، وَأَخْرَجَ الزُّرُوعَ بِهِ وَالثِّمَارَ مُخْتَلِفَةَ الأَلْوَانِ وَالأَشْكَالِ، وَالطُّعُومِ وَالمَنَافِعِ. وهذِهِ نعمةٌ عظيمةٌ يمتنُّ اللهُ تعالى بها على عبادِهِ تنطوي على نِعَمٍ يصعُبُ عدُّها ويمتنعُ حصْرها، لولاها لم يستطِعِ الإنسانُ الاستمرارَ في العيشِ على هذه الأرضِ.
قولُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} وهي نعمةٌ عظيمةٌ فيها آيةٌ عظيمةٌ على عظيمِ قدرتِهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، فقد سَخَّرَ السُّفُنَ وَالمَرَاكِبَ (الفُلْكَ) لِمَنْفَعَةِ الإِنْسَانِ، وَجَعَلَهَا طَافِيَّةً عَلَى سَطْحِ المَاءِ، وَسَخَّرَ البَحْرَ لِحَمْلِهَا لِتَسْهِيلِ انْتِقَالِ النَّاسِ فِيهَا معَ بضائعِهم وتجارتهم، من مكانٍ إلى آخرَ بينَ قارّاتِ الأرضِ وأَصقاعِ المعمورةِ، وفي ذلك مصالحُ لهم كثيرةٌ يحققونها. وَبأَمْرِهِ: أَي بإِذْنِهِ، وتَيْسِيرِ جَرْيِهَا فِي الْبَحْرِ، وَبِكَفِّ الْعَوَاصِفِ عَنْهَا، وَبِإِعَانَتِهَا بِالرِّيحِ الرُّخَاءِ، وغيرِ ذلك مِنْ مظاهرِ قدرتِهِ وآياتِ لُطفِهِ.
قولُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} وَسَخَّرَ الأَنْهَارَ تَشُقُّ الأَرْضَ مِنْ قٌطْرٍ إِلَى قُطْرٍ، فَيَشْرَبُ مِنْهَا النَّاسُ وَالأَنْعَامُ، وَتُسْقَى الزُّرُوعُ مِنْهَا، وَتَجْرِي فِيهَا المَرَاكِبَ، وَكُلُّ ذَلِكَ فِيهِ رِزْقٌ وَمَنَافِعُ لِلْعِبَادِ، فحينَ لا تكونُ هنالك أمطارٌ يشربون منها وتسقي زروعهم ومواشيهم، تقوم الأنهار بهذه الوظيفة إذْ لو استمرَّ سقوطُ الأمطار والثلوج لاستحالتِ الحياةُ ولما كانَ فيها هذا التنوع البديعُ في طقوسها.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فِي قَوْلهِ تعالى: "وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ" قَالَ: بِكُل بَلْدَةٍ.
قولُهُ تعالى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} اللهُ: لفظُ الجلالةِ اسْمٌ مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، و "الَّذِي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ خبرُهُ، والجُملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "خَلَقَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "اللهُ" تَعَالى، و "السَّمَاوَاتِ" مَفْعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرةُ نِيابةً عنِ الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المُؤَنَّثِ السَّالِمُ، و "وَالْأَرْضَ" مَعْطوفٌ عَلى "السَمَاواتِ" بالواوِ مَنْصُوبٌ ممثلُهُ، والجُمْلَةُ صَلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} وَأَنْزَلَ: الواوُ حرفُ عطفٍ، وفِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهُ" تَعَالى، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "خَلَقَ" على كونِها صِلةَ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ لابتداءِ الغايةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلَ"، ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ حالٌ مِنْ "ما" لأَنَّهُ صِفَةٌ، في الأَصْلِ، وكَذَلِكَ "مِن الثمرات" في الوجهين. وجَوَّزَ الزَمَخْشَرِيُّ وابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ تَكُونَ "مِنْ" لِبَيَانِ الجِنْسِ، أَيْ: رِزْقًا هُوَ الثَمَراتُ. والتي للبَيانِ إِنَّمَا تَجِيءُ بَعْدَ المُبْهَمِ. إذا فقد أَرادا ذَلِكَ مِنْ حَيْثُ المَعْنَى لا الإِعْرابِ. و "السَّمَاءِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مَاءً" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ.
قولُهُ: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ} الفاءُ: عاطفةٌ. و "أَخْرَجَ" مثلُ "أنْزَلَ" معطوفٌ عليْهِ. و "بِهِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أخرجَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجرِّ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِـ حالٍ مِنْ "رِزْقًا" لأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْها، و " الثَّمَرَاتِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "رِزْقًا" مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "أَخْرَج" منصوبٌ. و "لَكُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "رِزْقًا"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ.
قولُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "سَخَّرَ" مثلُ "أخرجَ" معطوفٌ عليهِ، و "لَكُمْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ بِـ "سَخَّرَ"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ. و "الْفُلْكَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ. و "لِتَجْرِيَ" اللامُ: لامُ كَيْ، حرفُ جرٍّ متعلق بـ "سَخَّرَ". و "تجري" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بعدَ لامِ كيْ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُ (هي) يَعُودُ عَلَى "الْفُلْكَ". و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تجري"، و "البحرِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "بِأَمْرِهِ" الباء: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "تجري"؛ أَيْ: حالةَ كَوْنِها مُتَلَبِّسَةً بِأَمْرِهِ، ويَجُوزُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "تَجْرِي"، أَيْ: بِسَبِبِهِ، و "أَمْرِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٌ باللامِ والتقديرُ: لِجَرَيَانِها في البَحْرِ بِأَمِرِهِ.
قولُهُ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} مثلُ قولِهِ: "وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ" معطوفٌ عَلَيْهِ.