وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
(15)
قولُهُ ـ جَلَّ وعَلا: {وَاسْتَفْتَحُوا} معطوفٌ عَلى {فَأَوْحَى} مِنَ الآيةَ: 13، السابقةِ إنْ كانَ الضَميرُ للرُّسُلَ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ، ومُجاهِدٍ، وابْنِ مُحَيْصِنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم: "واسْتَفْتِحُوا" بِكَسْرِ التاءِ، أَمْرًا للرُسُلِ ـ عليهِ السَّلامُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "واسْتَفْتَحُوا" قَالَ: للرُّسُلِ كُلّهَا يَقُولُ: "اسْتَنْصَرُوا". وَفِي قَوْلِهِ: "وخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ" قَالَ: مُعانِدٍ للحَقِّ، مُجَانِبٍ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "واسْتَفْتَحوا" قَالَ: اسْتَنْصَرَتِ الرُّسُلُ عَلى قَومِهَا و "وخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ" يَقُولُ: بَعيدٍ عَنِ الْحَقِّ مُعْرِضٍ عَنْهُ، أَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. وعَلَيْهِ فالمعنى: واسْتَفْتَحَ الرُسُلُ بالنَصْرِ، والاسْتِفْتاحُ: هوَ الاسْتِنْصارُ، أَيْ: طَلَبُ النَّصْرِ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، عَلَى الأَعْداءِ. فالسِّينُ والتاءُ: للطَلَبِ. ومِنْهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالى مِنْ سورةِ الأَنْفالِ: {إِنْ تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفَتْحُ} الآية: 19، وقولُهُ منْ سورة البَقَرَةِ: {وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} الآية: 89، أَوْ هو اسْتِئْنافٌ إِنْ كانَ الضَميرُ عائدًا للكُفَّارِ. ويجوزُ أنْ يكونَ المعنى مِنَ الفَتَاحَةِ بِمَعْنَى الحُكْمِ والقَضاءِ، أيْ: وطَلَبُوا الحُكْمَ والقَضاءَ مِنَ اللهِ، ومِنْ ذلكَ قوْلُهُ ـ تَعَالَى في سورةِ الأعرافِ: {رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الفَاتِحِينَ} الآية: 89. ويجوزُ أَنْ يَعودَ الضَميرُ للفَريقَيْنِ، أَيْ: أَنَّ كُلًّا منَ الفَريقَيْنِ طَلَبَ مِنَ اللهِ النَّصْرَ عَلَى الفَريقِ الآخَرِ فلبَّى ـ سُبْحانَهُ، فريقَ المُرْسَلِينَ والمُؤْمِنينَ، وخيَّبَ فريقَ الكافرينَ المكذِّبينَ وخَذَلَهم، فإنَّ مشركي قريشٍ مثلًا يؤمنونَ باللهِ تعالى ويعتقدونَ أَنَّ الأصنامَ هي الواسطةُ بينهم وبينَ ربِّهم، ويعتقدونَ أَنَّ مُحَمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قد فارقَ قومَه، وصَبَأَ عنْ دينِ آبائهِ، وكانَ ظنَّهم أَنَّهُ ـ سُبحانَهُ وتَعالى، سينصُرُهم على محمَّدٍ وأتباعهِ وذلك في معركةِ بدرٍ، وقد تقدَّمَ ذلك في تفسيرِ سورةِ براءة. ويَجوزُ أَنْ يكونَ المعنى: وطلَبَ الرُّسُلُ مِنْ ربِّهم ومولاهمْ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَنْصُرَهُمْ عَلَى أَعْدائهِم، وأَنْ يَحْكُمَ بَيْنَ بِعَدْلِهِ بَيْنَ الفَريقَيْنِ.
قولُهُ: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الجبَّارُ: المَغْرورُ بنفسِهِ، المُتَعَالي المُتَكَبِّرُ عَلى غَيْرِهِ. والعَنيدُ: مِنَ العِنْدِ بِمَعْنَى المَيْلِ، ومنهُ: عَنَدَ فَلانٌ عَنِ الطَريقِ عُنودًا، إِذا مَالَ عَنْها. وبابُ عَنَدَ: نَصَرَ، وضَرَبَ، وكَرُمُ. والجملةُ بَيَانٌ لنتيجةِ الاسْتِفْتَاحِ مِنَ الجملةِ الأُولى. وعَنَدَ عَنِ الحَقِّ، خالَفَهُ. ومنْهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ (ق): {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُّرِيبٍ * الذي جَعَلَ مَعَ الله إلهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العذابِ الشَّديدِ} الآياتِ: 24 ـ 26. ومنهُ ما جاءَ في الحَديثِ الشريفِ: ((يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَ القَيامَةِ، فتُنَادِي الخَلائقَ فتَقولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنيدٍ)). رَواهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/40) مِنْ حَديثِ أَبي سَعيدٍ الخِدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، ورَوَاهُ التِرْمِذِيُّ في سُنَنِهِ: بِرَقَمِ (2574) عَنْ أَبي هُرَيرَةَ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقالَ: حَديثٌ حَسَنٌ غَريبٌ صَحيحٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "عَنيدٍ" قَالَ: هوَ النَّاكِبُ عَنِ الْحَقِّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: يَجْمَعُ اللهُ الْخَلْقَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْجِنَّ والإِنْسَ وَالدَّوَابَّ والهَوَامَ، فَيَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَيَقُولُ: وُكِّلْتُ بالعزيزِ الْكَرِيمِ والجَبَّارِ العَنيدِ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، قَالَ: فَيَلْقُطُهمْ كَمَا يَلْقُطُ الطَّيْرُ الحَبَّ فيَحْتَوِي عَلَيْهِم، ثمَّ يَذْهَبُ بِهمْ إِلَى مَدِينَةٍ مِنَ النَّارِ يُقَالُ لَهَا كَيْتَ وَكَيْتَ فيَثْوونَ فِيهَا عَامًا قبلَ الْقَضَاءِ. وَأخرج التِّرْمِذِيّ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ عَيْنانِ تُبْصِرانِ، وأُذُنانِ تَسْمَعَانِ، ولِسانٌ يَنْطُقُ، فَيَقُولُ: إِنِّي وُكِّلْتُ بِثَلَاثَةٍ: بِكُلِّ جَبَّارٍ عَنيدٍ، وَبِكُلِّ مَنْ دَعَا مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ، وبالمُصَوِّرينَ)). سُنَن الترمذي: (4/701 ح: 2574). وأَخْرَجَهُ الإمامُ أَحَمًدُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في مُسْنَدِه: (2/336 برقم: 8411). وشُعَبُ الإيمانِ للبيهقيِّ: (5/190، برقم: 6317).
وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: وَخَابَ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى "كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ" لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّ هذه الصفاة هي مما يتَّصِفُ بهِ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَأَنَّ كُلَّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يَخِيبُ. وثَمَّةَ مَحذوفٌ هُنَا عُطِفَتِ عَلَيْهِ هذِهِ الجُمْلةُ، تَقْديرُهُ: واسْتَفْتَحوا فَنَصَرَ اللهُ رُسُلَهُ عَلى أَعْدائهِ وأَعدائهمْ، وخَابَ وخَسِرَ، كُلُّ مُتَكَبِّرٍ مُتَجَبِّرٍ مُعَانِدٍ للحَقِّ زائغٍ عن سبيلِهِ.
قَوْلُهُ تعَالى: {وَاسْتَفْتَحُوا} الواوُ: للعَطْفِ أَوِ الاسْتِئْنافِ، و "اسْتَفْتَحُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والألفُ للتفريق، والجُمْلَةُ معطوفةٌ على جملةِ قولِهِ: {فأَوْحَى إليهمْ ربُّهم} من الآية: 13، السابقةِ المعطوفةِ على جملةٍ مُسْتَأْنفةٍ ليسَ لَها مَحَلٌّ مِنَ الإعرابِ، أَوْ هيَ جُمْلَةٌ مُسْتأْنَفَةٌ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ أَيْضًا.
قولُهُ: {وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} الوَاوُ: للعطْفِ، و "خابَ" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "كلُّ" فاعلُهُ مرفوعٌ، وهوَ مُضافٌ. و "جبَّارٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "عَنِيدٍ" صِفَةٌ لِـ "جَبَّارٍ" مجرورةٍ مثلهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةٍ مَحْذوفَةٍ والتَقْديرُ: واسْتَفْتَحوا فَنُصِروا وسَعِدُوا ورَبِحُوا، وخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنيدٍ.
قرأَ العامَّةُ: {واسْتَفْتَحُوا} بفتحِ التاءِ الثانيةِ فعلًا ماضيًا، وقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ، ومُجاهدٌ، وابْنُ مُحَيْصِنٍ ـ رضيَ اللهُ عنهم: "واسْتَفْتِحوا" عَلَى لَفْظِ الأَمْرِ، أَمْرًا للرُسُلِ عليهِمُ السلامُ، بِطَلَبِ النُّصرة، والتقديرُ: قالَ لهُم: لَنُهْلِكَنَّ وقالَ لَهم: اسْتَفْتِحُوا.