فيضُ العليم ... سورة إبراهيم، الآية: 1
سٌورَةُ إِبْراهيم
سُورَةُ إِبْراهيمَ ـ عليهِ السلامُ، سُمِّيَتْ بِهذا الاسْمِ لِذِكْرِ قِصَّتِهِ ـ عليهِ السلامُ، فِيها، وإِنْ كانتْ ذُكِرَتْ في غَيْرِ هَذِهِ السُّورَةِ: الأَنْبِياءِ والبَقَرَةِ، فَإنَّ التَسْمِيَةَ أَمْرٌ تَوْقِيفِيٌّ. وقد نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. رَوَى في فَضْلِها ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والثَّعْلَبِيُّ، والواحِدِيُّ، عنْ أبي أُمامة عن أُبيِّ بْنِ كعبٍ ـ رضي اللهُ عَنْهما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلاةُ اللهِ عَلَيْهِ وَسَلامُهُ، أَنَّهُ قالَ: ((مَنْ قَرَأَ سُورَةَ إِبْراهِيمَ أُعْطِيَ مِنَ الأَجْرِ عَشْرَ حَسَنَاتٍ بِعَدَدِ مَنْ عَبَدَ الأَصْنَامَ، وعَدَدِ مَنْ لَمْ يَعْبُدْ)).
أَمَّا عَدَدُ آياتِها فَخَمْسُونَ وَآيَتَانِ، وقِيلَ وآيَةٌ، وَقِيلَ وأَرْبَع، وقِيلَ خَمْسٌ، أَرْبَعُ رواياتٍ، كُلُّها مَكِّيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ هُمَا: (28) وَ (29) فَمَدَنِيَّتَانِ، كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وعَنِ الزُبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، وحَكَاهُ القُرْطُبِيُّ عَنِ الحَسَنِ، وعِكْرِمَةَ، وجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، وقَتَادَةَ. وأَخْرَجَ النَّحَّاسُ في نَاسِخِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُما، قال: وَهِيَ مَكِيَّةٌ إِلَّا آيَتَيْنِ مِنْها نَزَلَتَا بالمَدينَةِ، وَهِيَ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا .. }. والآيَتَانِ نَزَلَتَا فِي قَتْلَى بَدْرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ. وَقِيلَ: إِلَّا ثَلاث آياتٍ نَزَلَتْ في الذينَ حَارَبُوا رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللهِ كُفْرًا} إِلَى قولِهِ: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ}. وعَدَدُ كَلِماتِها: ثَمَانُ مِئَةٍ وإِحْدَى وثَمَانونَ آيَةً، وَعَدَدُ حُرُوفِها: سِتَّةُ آلافٍ وأَرْبَعُ مِئَةٍ وأَرْبَعٌ وثلاثونَ حَرْفًا.
والْكَلَامَ فِي مَكِّيَّتِها أَوْ مَدَنِيَّتِها طَرِيقُهُ الْآحَادُ، وَمَتَى لَمْ يَكُنْ فِي السُّورَةِ مَا يَتَّصِلُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَنُزُولُهَا بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ الْغَرَضُ فِي ذَلِكَ إِذَا حَصَلَ فِيهِ نَاسِخٌ وَمَنْسُوخٌ فَيَكُونُ فِيهِ فَائِدَةٌ عَظِيمَةٌ.
والسُورةُ عِنْدَ جَميعِ المُفَسِّرينَ مُحْكَمَةٌ لَيْسَ فِيها مَنْسُوخٌ إِلَّا أنَّ عَبْدَ الرَّحمنِ بْنَ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: فيها آيَةٌ مَنْسُوخَةٌ، وهيَ قولُهُ تَعَالى: "وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} نُسِخَتْ بِقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} الآية: 18، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ، والجُمْهورُ عَلَى خِلافِ ذلِكَ.
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ
(1)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} الر: تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلى الْحُرُوفِ الْمُقَطَّعَةِ فِي فَاتِحَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَغيْرِهَا، والمَعْنَى: أَنَّ السُّورَةَ المُسَمَّاةَ بـ "الر" هيَ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِغَرَضِ كَذَا وَكَذَا. و "أَنْزَلْنَاهُ" أَيْ: جَمعناها، أَوْ أَنْزَلْنَاها، وجَعَلْناها كِتَابًا، أَعْنِي تِلكَ الحُروفَ المُقَطَّعَةَ كِتابًا؛ وأَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ بَعْدَمَا لَمْ تَكُنْ تَدْرِي مَا الكِتَابُ؛ وهوَ كَمَا قالَ في الآية: 52، مِنْ سورةِ الشورى: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}؛ وكقولِهِ في الآيةِ: 48، من سورةِ العنكبوت: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ}.
وقالَ بَعْضُهم "الر" لَيْسَتْ هِي الكِتَابُ إِنَّمَا هِيَ شَيءٌ مِنَ الكِتَابِ. أَلَا تَرَى قولَه تعالى في أوَّلِ سورةِ الحِجْرِ: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ}. فإنَّما الكِتابُ جُمْلَةُ الآياتِ وجُمْلَةُ القَرآنِ.
وقالوا: إِنَّ الإِنْزالَ لَمْ يَتَعَلَّقْ بالكَلامِ القَدِيمِ الذي هوَ صِفَةُ الذَّاتِ، لكَنْ بالمَعَاني التي أَفْهَمَهَا اللهُ تعالَى جِبْرِيلِ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الكَلاَمِ.
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ مَوْصُوفٌ بِكَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى، ولِذَلِكَ قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: النَّازِلُ وَالْمُنْزَلُ لَا يَكُونُ قَدِيمًا. وَالجَوَابُ: أَنَّ الْمَوْصُوفَ بِالنَّازِلِ وَالْمُنْزَلِ هُوَ هَذِهِ الْحُرُوفُ وَهِيَ مُحْدَثَةٌ بِلَا نِزَاعٍ.
قولُهُ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بإذْنِ اللهِ} إِنَّمَا شَبَّهَ الْكُفْرَ بِالظُّلُمَاتِ لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يَتَحَيَّرُ الرَّجُلُ فِيهِ عَنْ طَرِيقِ الْهِدَايَةِ وَشَبَّهَ الإيمانَ بالنُّورِ لأَنَّهُ نِهايَةُ مَا يَنْجَلِي بِهِ طَرِيقُ هِدَايَتِهِ. وأَخَرجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: "لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} قَالَ: من الضَّلَالَة إِلَى الْهُدَى.
وإِخْراجُ اللهِ الناسَ مِنَ الظلماتِ إلى النورِ إِنَّما يَكونُ بإِعْطاءِ الأَسْبَابِ، وحقيقةِ مَا تَكونُ بِهِ الأَفْعَالُ، وهِيَ القُدْرَةُ، وعندما يُضَافُ الإِخْراجُ إِلَى الرُّسُلِ؛ فِإنَّهُ يكون بالدَّعْوةِ إِلى ذلك، وتقديمِ البَيَان والحُجَّةِ، وأَمَّا ما بِهِ حَقيقَةُ الفِعْلِ؛ فإِنَّهُ لا يَمْلُكُهُ إِلَّا اللهُ تعالى.
قَال المُعْتَزِلَةُ: اللَّامُ فِي قَوْلِهِ: "لِتُخْرِجَ النَّاسَ" لَامُ الْغَرَضِ وَالْحِكْمَةِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا أَنْزَلَ هَذَا الْكِتَابَ لِهَذَا الْغَرَضِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالَ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامَهُ مُعَلَّلَةٌ بِرِعَايَةِ الْمَصَالِحِ.
وأَجَابَ العُلَمَاءُ أَهْلُ السُنَّةِ والجَمَاعَةِ بِأَنَّ مَنْ فَعَلَ فِعْلًا لِأَجْلِ شَيْءٍ آخَرَ فَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ لَوْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ تَحْصيلِ الْمَقْصُودِ إِلَّا بِهَذِهِ الْوَاسِطَةِ، وَهذَا مُسْتَحيلٌ فِي حَقِّ اللهِ تَعَالَى، وَقد ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ تَعْلِيلُ أَفْعَالِ اللهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ بِالْعِلَلِ وكُلُّ ظَاهِرٍ أَشْعَرَ بِهِ فَإِنَّهُ مُؤَوَّلٌ مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنًى آخَرَ.
وفي هَذِهِ الْآيَةُ دَلَالَةٌ عَلَى إِبْطَالِ الْقَوْلِ بِالْجَبْرِ، وَإِسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إِلَى النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، لِأَنَّهُ يُبَلِّغُ هَذَا الْكِتَابَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى تَبْيِينِ طُرُقِ الْهِدَايَةِ إِلَى الْإِيمَانِ، وَإِظْهَارِ فَسَادِ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ، وَهُوَ مَعَ التَّبْلِيغِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ وَيُقَرِّبُ إِلَيْهِمْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ بِتَفْسِيرِهِ وَتَبْيِينِهِ، ثُمَّ بِمَا يَبْنِيهِ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ وَالنُّذُرِ وَالْبِشَارَةِ. وَإِذْ قَدْ أُسْنِدَ الْإِخْرَاجُ إِلَيْهِ فِي سِيَاقِ تَعْلِيلِ إِنْزَالِ الْكِتَابِ إِلَيْهِ عُلِمَ أَنَّ إِخْرَاجَهُ إِيَّاهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ بِسَبَبِ هَذَا الْكِتَابِ الْمُنَزَّلِ، أَيْ بِمَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ مِنْ مَعَانِي الْهِدَايَةِ. فإنَّ الآيَةَ تنصُّ على أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُمْكِنُهُ إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ، الْمُرَادُ مِنَ الْإِذْنِ الْمَشِيئَةَ وَالتَّخْلِيقَ وتَرْجِيحَ جَانِبِ الْوُجُودِ على جَانِبِ الْعَدَمِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الرَّسُولَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَا يُمْكِنُهُ إِخْرَاجُ النَّاسِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللهِ وَتَخْلِيقِهِ. وَقد استُعيرَ الْإِخْرَاجُ لِلنَّقْلِ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ، فشَبَّهَ الِانْتِقَالَ بِالْخُرُوجِ وشَبَّهَ النَّقْلَ بِالْإِخْرَاجِ.
والْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ طُرُقَ الْكُفْرِ وَالْبِدْعَةِ كَثِيرَةٌ وَأَنَّ طَرِيقَ الْخَيْرِ لَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدَ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ فَعَبَّرَ عَنِ الْجَهْلِ وَالْكُفْرِ بِالظُّلُمَاتِ وَهِيَ صِيغَةُ جَمْعٍ وَعَبَّرَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْهِدَايَةِ بِالنُّورِ وَهُوَ لَفْظٌ مُفْرَدٌ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طُرُقَ الْجَهْلِ كَثِيرَةٌ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْعِلْمِ وَالْإِيمَانِ فَلَيْسَ إِلَّا الْوَاحِدَ.
قولُهُ: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} هو بَدَلٌ مِنَ النُّورِ بِإِعَادَةِ الْجَارِّ لِلْمُبْدَلِ مِنْهُ لِزِيَادَةِ بَيَانِ الْمُبْدَلِ مِنْهُ، وذلك اهْتِمامًا بِهِ، وتَأْكيدًا لِلْعَامِلِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ: {قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} الآية: 88.
وَمُنَاسَبَةُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَعَارِ لِلدِّينِ الْحَقِّ، لِاسْتِعَارَةِ الْإِخْرَاجِ وَالظُّلُمَاتِ وَالنُّورِ وَلِمَا يَتَضَمَّنُهُ مِنَ التَّمْثِيلِ، ظَاهِرَةٌ.
وَ "الْعَزِيز" الَّذِي لَا يُغْلَبُ. وَإِنْزَالُ الْكِتَابِ بِرِهَانٌ عَلَى أَحَقِّيَّةِ مَا أَرَادَهُ اللهُ مِنَ النَّاسِ فَهُوَ بِهِ غَالِبٌ لِلْمُخَالِفِينَ مُقِيمٌ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَ "الْحَمِيدُ" بِمَعْنَى الْمَحْمُودِ، لِأَنَّ فِي إِنْزَالِ هَذَا الْكِتَابِ نِعْمَةً عَظِيمَةً تُرْشِدُ إِلَى حَمْدِهِ عَلَيْهِ، وَبِذَلِكَ اسْتَوْعَبَ الْوَصْفَانِ الْإِشَارَةَ إِلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ كُلِّ مُنْسَاقٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ. وَمِنْ مُجَادِلٍ صَائِرٍ إِلَى الِاهْتِدَاءِ بَعْدَ قيامِ الْحجَّة ونفادِ الْحِيلَةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} الر: عَلَى القَوْلِ بِأَنَّهُ اسْمٌ للسُّورَةِ: إِمَّا مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحذوفٌ والتَقديرُ: الر هذا مَحَلُّهُ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحذوفٍ تَقديرُهُ: هَذا "الر"، أَوْ مَفعولٌ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ والتقديرُ: اقْرَأْ: "الر"، أَوْ مفعولٌ لاسْمِ فِعْلٍ مَحْذوفٍ والتَقديرُ: هاكَ "الر" لأَنَّهُ مِنْ قَبيلِ أَسْماءِ التَراجُمْ، وإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ مِنْ قَبيلِ الأَعْدادِ المَسْرودَةِ فَلَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإِعْرابِ. و "كِتَابٌ" خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ والتقديرُ: هَذَا القُرْآنُ الذي أُنْزِلَ عَلَيْكَ يَا مُحَمَّدُ كِتابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. ويَجوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ خَبَرًا لِـ "الر" إِنْ قُلْنَا إِنَّها مُبْتَدَأٌ، والجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِفَةٌ لَهُ، ويجوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بالابْتِداءِ، وخَبَرُهُ الجُمْلَةُ بَعْدَهُ، وجازَ الابْتِداءُ بالنَّكِرةِ لأَنَّهَا مَوْصوفَةٌ تَقْديرًا. والتقديرُ: كِتابٌ أَيُّ كِتابٍ، يَعْنِي عَظِيمًا مِنْ بَيْنِ الكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ. و "أَنْزَلْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" العَظَمَةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفعِ فاعِلٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بهِ. و "إِلَيْكَ" حرفُ جرٍّ متَعَلِّقٌ بالفعلِ "أنزل" وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ "كِتَابٌ".
قولُهُ: {لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} اللام: حَرْفُ جَرٍّ للتَعْليلِ. و "تُخْرِجَ فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ لامِ التعليلِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت)، يَعُودُ عَلى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عليْهِ الصّلاةُ والسّلامُ، و "النَّاسَ" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ، وهذه الجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ باللامِ والتقديرُ: لإِخْراجِكَ النَّاسَ بِهِ، الجارُّ والمَجْرورُ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَل". و "مِنَ" حرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُخْرِجَ"، و "الظُّلُمَاتِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، و "إِلَى النُّورِ" مثلُ "مِنَ الظُلُماتِ". و "بِإِذْنِ" الباءُ حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُخْرِجَ" أَيْضًا، أَوْ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفِ حَالٍ مِنْ فاعِلِ "تُخْرِجَ" والتَقديرُ: حَالَةَ كَوْنِكَ مَأْذونًا لَكَ مِنْ رَبِّهم. و "إِذْنِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ. و "ربِّهم" رَبِّ: مجرورٌ بالإضافةِ إِليْهِ وهو مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ: علامةُ جمعِ المُذكَّرِ.
قولُهُ: {إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} إِلَى صِرَاطِ: هذا الجَارُّ والمَجْرورُ بَدَلٌ مَنَ الجارِّ والمَجْرورِ في قولِهِ: "إِلَى النُّورِ"، بإعادةِ العامِلِ، ولا يَضُرُّ الفَصْلُ بالجَارِّ لأَنَّهُ مَنْ مَعْمُولاتِ العامِلِ في المُبْدَلِ مِنْهُ. أوْ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذوفٍ عَلَى أَنَّهُ جَوابُ سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِلَى أَيِّ نُورٍ؟ إِلَى صِراطٍ. و "العزيزِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "الْحَمِيدِ" نَعْتٌ لِـ "الْعَزِيزِ" مجرورٌ مثلُهُ.
قرأَ العامَّةُ: {لِتُخْرِجَ}، وقُرِئَ "لِيَخْرُجَ النَّاسُ" بِفَتْحِ الياءِ وضَمِّ الرّاءِ مِنْ خَرَجَ يَخْرُج، و "الناسُ" مَرْفوعًا عَلَى الفاعِلِيَّةِ.