فيضُ العليم ... سورة الرعد، الآية: 31
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ للهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} أيْ: لَوْ أَنَّ كِتَابًا مِنَ الْكُتُبِ السَّابِقَةِ اشْتَمَلَ عَلَى أَكْثَرَ مِنَ الْهِدَايَةِ فَكَانَتْ هذهه الكتُبُ مَصَادِرَ لِإِيجَادِ الْعَجَائِبِ والمعجزاتِ الباهراتِ لَكَانَ هَذَا الْقُرْآنُ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ قُرْآنٌ أو كتابٌ كَذَلِكَ فيما سَلَفَ، ولذلك فَإنَّ هَذَا الْقُرْآنَ لَا يُتَطَلَّبُ مِنْهُ الِاشْتِمَالُ عَلَى الخوارقِ والعجائبِ، وإنَّما أنزلَ لهدايةِ الناسِ، ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِنْ سُنَنِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ أَنْ تكونَ كذلك. وهذا القولُ هو تَتِمَّةٌ لِلْجَوَابِ عَنْ قَوْلِهِمْ في الآيةِ: 27، السابقة: {لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}. والمَقْصودُ بالقُرْآنِ هُنَا المَعْنَى اللُّغَوِيُّ، أَيْ قُرْآنًا مَّا، أَيْ: لَوْ كانَ فِي الكُتُبِ السابِقَةِ كِتابٌ تُسَيَّرُ بِإِنْزالِهِ، أَوْ بِتِلاوَتِهِ الجِبَالُ عَنْ أَمَاكِنِها، فَأُذْهِبَتْ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ، وزُعْزِعَتْ عَنْ مَقَارِّها، كَمَا فُعِلَ بِالطُّورِ لِنَبِيِّ اللهِ مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ. والمُرادُ بَيَانُ عَظَمَةِ شَأْنِ هذا الكتابِ الكريمِ، وفَسَادِ رَأْيِ الكَافرينَ بِهِ، حَيْثُ لَمْ يَقْدِرُوا قَدْرَهُ، ولَمْ يَعُدُّوهُ مِنَ الآياتِ المُعْجِزاتِ الباهراتِ، واقْتَرَحُوا عَلَى سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّىَّ اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، أَنْ يَأْتيَهم بمُعْجِزاتٍ أُخْرَى غَيْرِهُ؛ وفي ذَلِكَ بَيانٌ لغُلُوِّهِمْ في المُكابَرَةِ والعِنَادِ، وتَمَاديهم فِي الفَسَادِ والضَّلالَةِ.
قولُهُ: {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} أَيْ: شُقِّقَتْ فَجُعِلَتْ عُيُونًا وأَنْهارًا، كَمَا فَعَلَ سيِّدُنَا مُوسَى ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ، بالحَجَرِ الصَّغيرِ حِينَ ضَرَبَهُ بِعَصَاهُ فانبجَستْ مِنْهُ اثنتا عشرةَ عَيْنًا بعددِ أَسْباطِ بَني إسرائيلَ فعلِمَ كلُّ قومٍ مِنْهم مَشْرَبَهم. أَوْ قُطِّعَتْ مَسَافَاتُ الْأَسْفَارِ كَما قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 94، مِنْ سُورَة الْأَنْعَام: {وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُون}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالُوا: سَيِّرْ بِالْقُرْآنِ الْجبَالَ، قَطَّعْ بِالْقُرْآنِ الأَرْضَ، أَخْرِجْ بِهِ مَوتَانا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ كُفَّارُ مَكَّةَ لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَيِّرْ لَنَا الْجِبَالَ كَمَا سُخِّرَتْ لِدَاودَ، وَقَطِّعْ لَنَا الأَرْضَ كَمَا قُطِّعَتْ لِسُلَيْمَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فاغْدُ بِهَا شَهْرًا، ورُحْ بهَا شَهْرًا، أَوْ كَلِّمْ لَنَا الْمَوْتَى كَمَا كَانَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُكَلِّمُهُمْ. يَقُولُ: لَمْ أُنْزِلْ بِهَذَا كِتَابًا، وَلَكِن كَانَ شَيْئًا أُعْطِيَتْهُ أَنْبيائي ورُسُلي.
قولُهُ: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} بِأَنْ أَحْياهمْ بِقِراءَتِهِ عليهم، وتَكَلَّمَ مَعَهُمْ، كَمَا فَعَلَ سيِّدُنا عِيسَى ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، حيثُ أَحْيا عدَدًا مِنَ الأمواتِ وسَأَلَهم، وتحدَّثَ إليهمْ، لَكَانَ ذَلِكَ هَذَا القُرْآنَ لِكَوْنِهِ غَايَةً في إِظْهارِ عَجَائِبِ آثارِ قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَهَيْبَتِهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، كما قالَ سُبْحانَهُ في الآية: 21، مِنْ سُورَةِ الحَشْرِ: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرءانَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ} وفي ذِكْرِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الثلاثةِ إِشَارَةٌ إِلَى تَهَكُّمِهِمْ، واستهزائهم. والمرادُ أَنَّهُ لَوْ كانَ ظُهورُ مَا اقْتَرَحَهُ كفَّارُ قريشٍ مِنْ الحِكْمَةِ لَكَانَ هَذَا القُرْآنُ مظهرًا الذي لَمْ يَعُدُّوهُ آيَةً مُنْطويًا على كلِّ تلك الآياتِ المعجزاتِ، أوْ لَوْ أَنَّ قُرآنًا فُعِلَتْ بِتِلاوَتِهِ كُلُّ هذه الأَمورُ العَجيبَةِ لَمَا آمَنُوا بِهِ، كَمَا قالَ تَعَالى في الآية: 111، مِنْ سُورةِ الأَنْعامِ: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ المَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ المَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا}. فالكَلامُ عَلَى سَبيلِ الفَرَضِ لإِقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيهم، فَـ "لو" مُسْتَعْمَلَةٌ هَنَا مَجازًا مُرْسَلًا في مُجَرَّدِ التَّعْليقِ وذِلِكَ عَلَى حَدِّ قَوْلِ أُبَيِّ بْنِ سُلْمَى بْنِ رَبيعةَ يَصِفُ فَرَسَهُ:
ولو طَارَ ذُو حافِرٍ قَبْلَها ........................ لَطَارَتْ ولكِنَّهُ لَمْ يَطِرْ
أَيْ: لقد تَوَفَّرَتْ فِيها كلُّ أَسْبابِ الطَيْرانِ، وهو كنايةٌ عن سُرعَتِها وشدَّةِ جرْيِها.
وقدْ حُذِفَت التاءُ منَ "كلِّمَ" وثَبَتَتْ في الفعلَيْن قَبْلَهُ لأَنَّ كَلِمَةَ "المَوْتى" تَشْمَلُ المُذَكَّرَ والمُؤَنَّثَ فهو مِنْ بابِ التَّغليبِ.
قولُهُ: {بَلْ للهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} المُرادُ بالْأَمْرِ هُنَا: التَّصَرُّفُ التَّكْوِينِيُّ، أَيْ لَيْسَ الْقُرْآنُ وَلَا غَيْرُهُ بِمُكَوِّنٍ شَيْئًا مِمَّا سَأَلْتُمْ بَلِ اللهُ الَّذِي يُكَوِّنُ الْأَشْيَاءَ، لأَنَّهُ ـ سُبحانَهَ وتَعالى، هوَ وحْدَهُ الذي عَلَيْهِ يَدورُ فَلَكُ الأَكْوانِ وُجُودًا وعَدَمًا، والمُتَصَرِّفُ في مُلْكِهِ، المالِكُ لِجَميعِ أُمُورِ عِبادِهِ، فيَفْعَلُ مَا يَشاءُ مِنْها، ويدَعَ ما يشاءُ، دونَما رقيبٍ ولا حسيبٍ ولا مُعْتَرِضٍ عَلَيْهِ في كُلِّ مَا يَفْعَلُ، ويَحْكُمُ مَا يُريدُ لِمَا يَدْعُو إِلَيْهِ مِنَ الحِكَمَ البالِغَةِ، وهوَ القادِرُ عَلَى أنْ يَأْتِيَ بِمَا اقْتَرَحْتُمُوهِ على رسولِهِ مِنْ آياتٍ، إِلَّا أَنَّ إِرادَتَهُ ـ سُبْحانَهَ، لَمْ تَتَعَلَّقْ بِذَلِكَ، فقد عَلِمَ أَنَّهُ لا يَنْفَعُ فِيكم مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ لِتعنُّتِكمْ وفَرْطِ عِنَادِكُم، ولو رَأَيْتُمْ هذه الآياتِ التي اقْتَرَحْتُمُوها أوْ بعضًا مِنْها لقُلْتُمْ: {إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ} الآية: 15، مِنْ سُورة الحِجْر.
وَأَخْرَجَ إِسْحَق، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "بَلْ للهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا" لَا يَصْنَع مِنْ ذَلِك إِلَّا مَا يَشَاءُ، وَلمْ يَكُنْ لِيَفْعَلَ.
وَقَدْ أَفَادَتِ الْجُمْلَتَانِ الْمَعْطُوفَةُ وَالْمَعْطُوفُ عَلَيْهَا مَعْنَى الْقَصْرِ لِأَنَّ الْعَطْفَ بِـ "بَلْ" مِنْ طُرُقِ الْقَصْرِ، فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: "الْأَمْرُ" لِلِاسْتِغْرَاقِ، و "جَمِيعًا" تَأْكِيدٌ لَهُ. وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ "لله" عَلَى الْمُبْتَدَأِ "الأمرُ" لِلِاهْتِمَامِ لِأَنَّ الْقَصْرَ أُفِيدَ بِـ "بَلْ" الْعَاطِفَةِ.
قولُهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ الله لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} تفريعٌ على الجُمْلَتَيْنِ السابِقَتَيْنِ أَيْ: أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذينَ آمَنُوا مِنْ أَنْ يُؤْمِنَ هَؤلاءِ المُشْرِكونَ بعدَ كلِّ ما رَأَوْا مِنْ أَحْوالِهم؟، وذَلِكَ أَنَّهم لَمَّا سَأَلُوا هَذِهِ الآياتِ طَمِعَ المؤمنونَ في إيمانِ هؤلاءِ الكُفَّارِ، وَطَلَبُوا نُزُولَ هَذِهِ الآياتِ لِيُؤمِنَ الكُفَّارُ، وقد عَلِمَ اللهُ أَنَّهم لا يُؤْمِنونَ فَقَالَ: أَفَلَم يَيْأَسُوا مِنْ إيمانَهم. أَوْ: أَلَمْ يَيْأَسِ الذينَ آمَنُوا بانْقِطاعِ طَمَعِهم مِمَّا سَأَلَهُ المُشْركونَ، ولَوْ شاءَ اللهُ لَهَدَى النَّاسِ جَميعًا إِلى الإيمانِ، أَوْ إِلَى الجَنَّةِ.
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: المَعْنَى: أَفْلَمْ يَتَبَيَّنِ الذينَ آمَنُوا، وهيَ لُغَةُ جُرْهُم.
وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، والحَسَنُ البَصْريُّ، ومُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم: "أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذينَ آمَنوا" أَيْ: أَفَلَمْ يَعْلَمِ الذينَ آمَنُوا، فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، قولَهُ: "أَفَلَمْ يَيْأَسْ" يَقُولُ: يَعْلَمِ". وهي لُغَةُ هوازن، وعَلَيْهِ قوْلُ الشَّاعِرِ رَبَّاحِ ابْنِ عَدِيٍّ:
أَلَمْ يَيْأَسِ الأَقْوامُ أَنِّي أَنَا ابْنُهُ ......... وإِن ْكُنْتُ عَنْ أَرْضِ العَشِيرَةِ نائيا
ونُسِبَ هذا البيتُ إلى مالكِ بْنِ عوفٍ في روايةٍ للطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ سَأَلَهُ عَنْ قَوْلِهِ تعالى: "أَفْلَمْ يَيْأَسِ الَّذينَ آمَنُوا" قَالَ: أَفَلَمْ يَعْلَم بِلُغَةِ بَنِي مَالِكٍ. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ قَالَ: نَعَمْ، أَمَا سَمِعْتَ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ يَقُولُ:
لقد يئس الأقوام أَنِّي أَنا ابْنه ......... وَإِن كنت عَن أَرض الْعَشِيرَة نَائِيا
قالَ القاضي البَيْضاوِي: وإِنَّما اسْتُعْمِلَ اليَأْسُ بِمَعْنَى العِلْمِ، لأَنَّهُ مُسَبِّبٌ عَنِ العِلْمِ، فإنَّ المَيْئُوسَ مِنْهُ لا يَكونُ إِلَّا مَعْلومًا.
وَلَا يُسْتَعْمَلُ هَذَا الْفِعْلُ إِلَّا مَعَ أَنَّ الْمَصْدَرِيَّةَ، وَأَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنَ الْيَأْسِ الَّذِي هُوَ تَيَقُّنُ عَدَمِ حُصُولِ الْمَطْلُوبِ بَعْدَ الْبَحْثِ، فَاسْتُعْمِلَ فِي مُطْلَقِ الْيَقِينِ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ بِعَلَاقَةِ اللُّزُومِ لِتَضَمُّنِ مَعْنَى الْيَأْسِ مَعْنَى الْعِلْمِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً. وَمِنْهُ قَوْلُ سُحَيْمِ بْنِ وَثِيلٍ الرَّيَاحِيِّ:
أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إِذْ يَيْسَرُونَنِي ....... أَلَمْ تَأْيَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِسِ زَهْدَمِ
قولُهُ: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} لَا يَزالُ: تَدُلُّ عَلَى الْإِخْبَارِ بِاسْتِمْرَارِ شَيْءٍ وَاقِعٍ، فَيه دليلٌ على أنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَكِّيَّةٌ، ويَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ عِنْدَ وُقُوعِ بَعْضِ الْحَوَادِثِ الْمُؤْلِمَةِ بِقُرَيْشٍ مِنْ جُوعٍ أَوْ مَرَضٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ الْآيَةُ تَنْبِيهًا لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ عِقَابٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَوَعِيدٌ بِأَنَّ ذَلِكَ مستمِرٌّ فِيهِمْ حَتَّى يَأْتِي وَعْدُ اللهِ. وَلَعَلَّهَا نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ إِصَابَتِهِمْ بِالسِّنِينَ السَّبْعِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى من سورةِ البقرةِ: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ} الْآية: 155.
وَالْقَارِعَةُ: فِي الْأَصْلِ وَصْفٌ مِنَ الْقَرْعِ، وَهُوَ ضَرْبُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ. يُقَالُ: قَرَعَ الْبَابَ إِذَا ضَرَبَهُ بِيَدِهِ بِحَلْقَةٍ. وَلَمَّا كَانَ الْقَرْعُ يُحْدِثُ صَوْتًا مُبَاغِتًا يَكُونُ مُزْعِجًا لِأَجْلِ تِلْكَ الْبَغْتَةِ صَارَ الْقَرْعُ مَجَازًا لِلْمُبَاغَتَةِ وَالْمُفَاجَأَةِ، وَمِثْلُهُ الطَّرْقُ. وَصَاغُوا مِنْ هَذَا الْوَصْفِ صِيغَةَ تَأْنِيثٍ إِشَارَةً إِلَى مَوْصُوفٍ مُلْتَزَمِ الْحَذْفِ اخْتِصَارًا لِكَثْرَةِ الِاسْتِعْمَالِ، وَهُوَ مَا يُؤَوَّلُ بِالْحَادِثَةِ أَوِ الْكَائِنَةِ أَوِ النَّازِلَةِ، كَمَا قَالُوا: دَاهِيَةٌ وَكَارِثَةٌ، أَيْ نَازِلَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِالْإِزْعَاجِ فَإِنَّ بَغْتَ الْمَصَائِبِ أَشَدُّ وَقْعًا عَلَى النَّفْسِ. وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ سَاعَةِ الْبَعْثِ بِالْقَارِعَةِ.
والقارِعَةُ هيَ مَا يَقْرَعُهُمْ مِنَ العَذَابِ والبَلاءِ، قالَهُ الحَسَنُ البَصريُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، وبِهِ قالَ ابْنُ جَريرٍ الطَبَريُّ. وقالَ عِكْرِمَةُ ـ رضيَ اللهُ عنهُ: هيَ الطلائعُ والسَّرايا التي كانَ يُنْفِذُها إِلَيْهمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْقَارِعَةِ الْغَزْوَ وَالْقِتَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يُتَعَارَفْ إِطْلَاقُ اسْمِ الْقَارِعَةِ عَلَى مَوْقِعَةِ الْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِمَّا نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وفيهِ تَهْدِيدٌ لهم ووَعِيدٌ لِتَعَنُّتِهِمْ وَإِصْرَارِهِمْ عَلَى عَدَمِ الِاعْتِرَافِ بِمُعْجِزَةِ الْقُرْآنِ، وَلتَهَكُّمِهِمْ بِاسْتِعْجَالِ الْعَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهمُ اللهُ تعالى بِهِ فإنَّهُ حالٌّ بهم لا مَحالةَ، وقد كانَ.
قولُهُ: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ} أيْ: دَاهِيَةٌ تُقْلِقُهم ويَفْزَعُونَ مِنْها، وتُصيبُهم في أَنْفُسِهم وأَوْلادِهمْ وأَمْوالِهم. أَوْ غَزَواتٌ المُسْلِمينَ إِلَيْهِمْ، قالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُما، المَعْنَى: أَوْ تَحُلُّ أَنْتَ يا مَحَمَّدُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قَريبًا مِنْ دارِهِمْ، وبِهِ قالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وقالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: أَيْ: أَوْ تَحِلُّ القارِعَةُ قَريبًا مِنْ دارهِمْ.
قولُهُ: {حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ} إِتْيَانُ الْوَعْدِ: مَجَازٌ فِي وُقُوعِهِ وَحُلُولِهِ. و "وَعْدُ اللهِ" مَوْعُودُهُ، وهذا مِنْ إِطْلَاقِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ، وَهُوَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ منْ سورةِ آل عمرَان: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ} الآية: 12، فَقد أَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى اسْتِئْصَالِهِمْ لِأَنَّهَا ذَكَرَتِ الْغَلَبَ وَدُخُولَ جَهَنَّمَ، فَكَانَ الْمَعْنَى أَنَّهُ غَلَبَ الْقَتْلُ بِسُيُوفِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْبَطْشَةُ الْكُبْرَى. وَمِنْ ذَلِكَ يَوْمُ بَدْرٍ وَيَوْمُ حُنَيْنٍ وَيَوْمُ الْفَتْحِ. وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما: المرادُ بِـ "وعدُ اللهِ" فَتْحُ مَكَّةَ، وقالَ الحَسَنُ البَصْريُّ ـ رضيَ اللهُ عنهُ: المُرادُ بهِ يَوْمُ القِيامَةِ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ "حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ" وفي ذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ إِتْيَانَ الْوَعْدِ الْمُغَيَّا بِهِ مُحَقِّقٌ، وَأَنَّ الْغَايَةَ بِهِ غَايَةٌ بِأَمْرٍ قَرِيبِ الْوُقُوعِ. وَقد جاءَ هذا الوعيدِ مؤَكَّدًا بـ "إنَّ" في مُقابلِ إِنْكارِ الْمُشْركين. وهذا وعْدٌ مِنَ اللهِ تعالى للنبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ والمُؤْمِنينَ، ووعيدٌ مِنْهُ للمُشْركينَ، واللهُ ـ سبحانَهُ وتعالى، إِذا وَعَدَ عَبدًا مِنْ عبادِهِ بأَمرٍ وَفَّى بوعدِهِ ولمْ يُخْلِفْ، ومَنْ أَوْفَى بِوَعْدِهِ مِنَ اللهِ؟. لأنَّ الخُلْفَ لا يكونُ إلَّا لعجزٍ عَنِ الوفاءِ، أَوْ عنْ سوءِ خلُقٍ، وكلاهما مُستحيلٌ في حقِّهِ ـ جَلَّ وَعَلا.
وَرَدَ في سببِ نزولِ هذه الآية الكريمة أنَّ نَفَرًا مِنْ مُشْرِكي مَكَّةَ؛ مِنْهُمْ أَبو جَهْلٍ عمرُو ابْنُ هِشَامٍ، وعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ؛ جَلَسُوا خَلْفَ الكَعْبَةِ، وأَرْسَلوا إِلى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، فأَتَاهُمْ، فقالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَتَّبِعَكَ فَسَيِّرْ جِبَالَ مَكَّةَ بالقُرْآنِ فَأَذْهِبْها عنَّا حَتَّى تَنْفَسِحَ، فإِنَّهَا أَرْضٌ ضَيِّقَةٌ لِمَزَارِعِنَا، واجْعَلْ لَنَا فِيها عُيُونًا وأَنْهارًا، لِنَغْرِسَ فيها الأَشْجَارَ ونَزْرَعَ ونَتَّخِذَ البَساتينَ ـ فَلَسْتَ كَمَا زَعَمْتَ، بِأَهْوَنَ عَلى رَبِّكَ مِنْ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، حَيْثُ سَخَّرَ لَهُ الجِبَالَ تُسَبِّحُ مَعَهُ، أَوْ سَخِّرْ لَنَا الرِّيحَ فَنَرْكَبَها إِلَى الشَّامِ لِمِيرَتِنَا وحَوائِجِنَا ونَرْجِعَ في يَوْمِنَا، فَقَدْ سُخِّرَتِ الرِّيحُ لِسُلَيْمانَ ـ كَمَا زَعَمْتَ، ولَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى رَبِّكَ مِنْ سُلَيْمانَ، وأَحْيِ لَنَا جَدَّكَ قُصَيًّا، أَوْ مَنْ شِئْتَ مِنْ آبائِنا وَمَوْتانا لِنَسْأَلَهُ عَنْ أَمْرِكَ، أَحَقٌّ مَا تَقُولُ أَمْ باطِلٌ؟ فإنَّ عِيسى كانَ يُحْيِي المَوْتَى، ولَسْتَ بِأَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنْهُ. فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ ...".
وأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالُوا للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنْ كَانَ كَمَا تَقولُ فأَرِنا أَشْياخَنا الَّذينَ مِنَ الْمَوْتَى نُكَلِّمُهمْ، وافْسَحْ لَنَا هَذِهِ الْجِبَالَ ـ جِبَالَ مَكَّةَ، الَّتِي قَدْ ضَمَّتْنا. فَنَزَلَتْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عَطِيَّة الْعَوْفِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالُوا لِمُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَوْ سُيَّرْتَ لَنَا جِبَالَ مَكَّةَ حَتَّى تَتَّسِعَ فَنَحْرُثَ فِيهَا، أَوْ قَطَّعْتَ لَنَا الأَرْضَ كَمَا كَانَ سُلَيْمَانُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُقَطِّعُ لِقَوْمِهِ بِالرِّيحِ، أَوْ أَحْيَيْتَ لَنَا الْمَوْتَى، كَمَا كَانَ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، يُحْيِي الْمَوْتَى لِقَوْمِهِ. فَأنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَلَو أَن قُرْآنًا سيرت بِهِ الْجبَال" الْآيَةَ إِلَى قَوْلِهِ: "أفلم ييأس الَّذين آمنُوا" قَالَ: أَفَلَمْ يَتَبَيَّنِ الَّذين آمَنُوا. قَالُوا: هَل تَرْوِي هَذَا الحَدِيثَ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: عَنْ أَبي سَعيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ أَيضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ الْمُشْركُونَ مِنْ قُرَيْشٍ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَو وَسَّعْتَ لَنَا أَوْدِيَةَ مَكَّةَ، وسَيَّرْتَ جِبالَها فاحْتَرَثْنَاها، وأَحْيَيْتَ مَنْ مَاتَ مِنَّا، واقْطَعْ بِهِ الأَرْضَ أَوْ كَلِّمْ بِهِ الْمَوْتَى. فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى: "وَلَو أَن قُرْآنًا".
وَأَخْرَجَ أَبُو يَعَلَى المَوْصِلِيُّ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي دَلَائِلِ النُبُوَّةِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ {وأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبينَ} الآية: 214، منْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، صَاحَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلى (جَبلِ) أَبي قُبَيْسٍ: يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ إِنِّي نَذِيرٌ فَجَاءَتْهُ قُرَيْشٌ فَحَذَّرَهُمْ وَأَنْذَرَهُمْ، فَقَالُوا: تَزْعمُ أَنَّكَ نَبِيٌّ يُوحَى إِلَيْكَ، وَأَنَّ سُلَيْمَانَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُخِّرَتْ لَهُ الرِّيحُ وَالْجِبَالُ، وَإِنَّ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، سُخِّرَ لَهُ الْبَحْرُ، وَإِنَّ عِيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، فَادْعُ اللهَ أَنْ يُسَيِّرَ عَنَّا هَذِهِ الْجِبَالَ، وَيُفَجِّرَ لَنَا الأَرْضَ أَنْهَارًا، فَنَتَّخِذَها مَحَارِثَ، فَنَزْرَعُ وَنَأْكُلُ، وَإِلَّا فَادْعُ اللهَ أَنْ يُحْيِيَ لَنَا الْمَوْتَى فَنُكَلِّمَهم وَيُكَلِّمُونَا، وَإِلَّا فَادْعُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَ هَذِهِ الصَّخْرَةَ الَّتِي تَحْتَكَ ذَهَبًا فَنَنْحِتَ مِنْهَا وَتُغْنِينَا عَن رحْلَة الشِتَاءِ والصَّيْفِ، فَإنَّكَ تَزْعمُ أَنَّكَ كَهَيْئَتِهِمْ. فَبَيْنَا نَحْنُ حَوْلَهُ إِذْ نَزَلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ، فَلَمَّا سَرَى عَنْهُ الْوَحْيُ قَالَ: وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لَقَدْ أَعْطَانِي اللهُ مَا سَأَلْتُم، وَلَو شِئْتُ لَكَانَ، وَلكِنَّهُ خَيَّرَني بَيْنَ أَنْ تَدْخُلُوا بَابَ الرَّحْمَةِ فَيُؤْمِنَ مُؤْمِنُكمْ، وَبَيْنَ أَنْ يَكِلَكم إِلَى مَا اخْتَرْتمْ لأَنْفُسِكمْ، فَتَضِلُّوا عَنْ بَابِ الرَّحْمَةِ، وَلَا يُؤمِنْ مُؤْمِنُكم، فاخْتَرْتُ بَابَ الرَّحْمَةِ، ويُؤْمِنُ مُؤْمِنُكم، وَأَخْبَرَنِي إِنْ أَعْطَاكُم ذَلِكَ ثمَّ كَفَرْتُمْ يَعَذِّبُكم عَذَابًا لَا يُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ. فَنَزَلَتْ: {وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلونَ} الآيَة: 59، مِنْ سُورَة الْإِسْرَاءِ حَتَّى قَرَأَ ثَلَاثَ آيَاتٍ، وَنَزَلَتْ هذه الآيةُ الكريمةُ: "وَلَو أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أو قُطِّعتْ بهِ الأرضُ ... " الْآيَة.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مثلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قريبًا مِنْهُ.
قولُهُ تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. "لَوْ" حرفُ شَرْطٍ، مَحْذُوفٌ جوابُهُ لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ، أَيْ: لَكانَ هَذَا القرْآنُ، لأَنَّه في غايةِ ما يَكونُ مِنَ الصِّحَّةِ. وقِيلَ: تقديرُه: لَمَا آمَنُوا. ونُقِلَ عنِ الفرَّاءِ أَنَّ جَوابَ "لو" هيَ جملَةُ قولِهِ {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} فَفي الكلامِ تقديمٌ وتَأْخيرٌ، ومَا بَيْنَهُما اعْتِراضٌ. وهذا في الحقيقةِ دَالٌّ عَلى الجَوابِ وليسَ جوابًا. وَمثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ كَثِيرٌ، مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهِ في سُورَة الْأَنْعَام: {وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ} الآية: 27، وَقَوْلُهُ في سُورَةِ السَّجْدَةِ: {وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عندَ ربِّهم} الآيةَ: 12. و "أَنَّ" حَرْفُ مَصْدَرِيٌّ نَاصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. و "قُرْآنًا" اسْمُها مَنْصوبٌ بها. و "سُيِّرَتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ، والتاءُ لتأنيثِ الفاعلِ. و "بِهِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "الْجِبَالُ" نائبٌ عن فاعِلِهِ مرفوعٌ، والجُملةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خبَرُ "أَنَّ".
قولُهُ: {أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ} أَوْ: حرفُ عطفٍ، و "قُطِّعَتْ" مثلُ "سُيِّرَتْ" معطوفٌ عليه. و "بِهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتعلِّقٌ بِهِ. و "الْأَرْضُ" مثلُ "الجبالُ"، والجملة في محلِّ الرَّفْعِ عطفًا على جملة قولِهِ تعالى: "سُيِّرَتْ".
قولُهُ: {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى} أَوْ: كسابقتِها، و "كُلِّمَ" مثلُ "سُيِّرَ"، و "بِهِ" تقدَّمَ إعرابُهما. و "الْمَوْتَى" نائبُ فاعِلٍ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ ضمَّةٌ مقدَّرةٌ على الأَلِفِ للتعذُّرِ، والجُملة معطوفةٌ على جملةِ "سُيِّرَتْ" وجملةُ "أَنَّ" في تَأْويلِ مصدرٍ مرفوعٍ عَلى كونِه فاعلًا لفعلٍ محذوفٍ بعدَ "لَوْ" الشِّرطيَّةِ، والجملةُ المحذوفةُ معَ فاعلِها المُنْسَبِكِ مِنْ "أَنَّ" وما بعدها فعلُ شَرْطِ "لَوْ"، وجَوابُها محذوفٌ والتقديرُ: لَوْ ثَبَتَ تَسييرُ الجِبالِ بكتابٍ مِنَ الكُتُبِ السَّماويَّةِ، أَوْ تَقطيعُ الأرضِ بِه، أوْ تكليمُ المَوتى بِهِ .. لَثَبَتَ كونُهُ هذا القرآنَ، أَوْ لَمَا آمَنوا بِه، وجملةُ "لَوْ" الشرطيَّة: مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ.
قولُهُ: {بَلْ للهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} بَلْ: حَرْفُ إضرابٍ. و "للهِ" اللامُ حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخبرٍ مقدَّمٍ، ولفظُ الجلالةِ "الله" اسمٌ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. "الْأَمْرُ" مُبتَدأٌ مؤخَّرٌ مرفوعٌ. و "جَمِيعًا" منصوبٌ على الحالِ مِنَ "الْأَمْرُ"، أَوْ مِنَ الضميرِ المُسْتَكنِّ في الخَبرِ، والجملةُ الاسْمِيَّةُ مُستَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها منَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا} الهمزةُ: للاستفهامِ التَوبيخيِّ داخلةٌ على محذوفٍ، والفاءُ: للعطفِ عَلى ذَلكَ المحذوفِ. و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيٍ وجَزْمٍ وقَلْبٍ. و "يَيْأَسِ" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بهِ، وحُرِّكَ بالكسْرِ لالتقاءِ الساكنينِ، و "الَّذِينَ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والتقديرُ: أَغَفِلُوا عَنْ كَوْنِ الأَمْرِ للهِ جَميعًا، فَلَنْ يَعْلَمَ الذينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا، والجُمْلَةُ المَحْذوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والألفُ فارقةٌ، والجملةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} أَنَّ: حرفُ نصبٍ ونسخٍ مشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ وهي مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقيلَةِ، واسْمُها ضَميرُ الشَّأْنِ المحذوفِ؛ أَيْ: أَنَّهُ. واخْتَارَ الشيخُ أَبو حَيَّانٍ الأندلُسِيُّ أَنْ تَكونَ "أنْ" زائدةً في صَدْرِ جُمْلَةِ جَوابِ القَسَمِ المُقَدَّرِ، والتَقْديرُ: أُقْسِمُ أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى الناسَ جميعًا. و "لَوْ" شَرْطِيَّةٌ غيرُ جازِمةٍ. و "يَشَاءُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ، والجملةُ فعلُ شَرطِ "لَوْ". وجملةُ "لو يَشَاءُ اللهُ" في محلِّ الرفعِ خبرُ "أنَّ". و "لَهَدَى" اللامُ: رابطةٌ لِجَوابِ "لَوْ"، و "هَدَى" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّر على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورهِ على الألفِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على اللهِ تعالى. و "النَّاسَ" مَفْعولٌ بهِ منصوبٌ. و "جَمِيعًا" منصوبٌ على الحالِ مِنَ النَّاسِ والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ جَوابُ "لَوْ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وجُمْلَةُ "أَنْ" المُخَفَّفَةِ مِنِ اسْمِها وخبرِها في تأويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعولَيْ يَئِسَ؛ لأَنَّهُ بِمَعْنَى عَلِمَ فيتعدَى لمفعولينِ، والتقديرُ: أَفَلَمْ يَعْلَمِ الذينَ آمَنُوا هِدَايَةَ اللهِ النَّاسَ جَميعًا لَوْ شاءَ هِدَايَتَهم، ولكنَّهُ لَمْ يَشَأْ هِدايَتَهمْ جَمِيعًا لِحِكْمَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ. ويُحْتَمَلُ أَنَّ الكلامَ تامٌّ عِنْدَ قولِهِ: "أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا" وهوَ تَقْريرٌ، أَيْ: قَدْ يَئِس المُؤمنونَ مِنْ إِيمانِ المُعانِدينَ، و "أَنْ لَّوْ يَشَاءُ اللهُ" جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: وأُقْسِمُ لَوْ يَشَاءُ اللهُ لَهَدَى النَّاسَ جَميعًا، وَيَدُلُّ عَلى هَذَا القَسَمِ وُجودُ "أنْ" مَعَ "لو"، كَقَوْلِ المسيَّبِ ابْنِ عَلَسٍ:
فأُقسمُ أنْ لَوِ التقينا وأنتُمُ .............. لكان لكم يومٌ من الشرِّ مظلِمُ
وكقولِ الآخر:
أَمَا واللهِ أَنْ لو كنتَ حُرًّا .................... وما بالحُرِّ أَنْتَ ولا القَمينِ
وقد ذكر سِيبَوَيْهِ أَنَّ "أنْ" تَأْتي بعدَ القَسَمِ، وجَعلَها ابْنُ عُصْفورٍ رابطةً للقَسَمِ بالجُمْلَةِ المُقْسَمِ عَليْها.
قولُهُ: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} الوَاوُ: للاستِئنافِ، و "لَا" نافيَةٌ لا عَمَلَ لها، و "يَزَالُ" فِعْلٌ ناقِصٌ، و "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ النَّصبِ اسْمُ "يزالُ". و "كَفَرُوا" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعِلُهُ، والألفُ للتفريقِ، والجُمْلةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "تُصِيبُهُمْ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصلٌ بهِ في محلِّ نَصْبِ مفعولِهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ وسَبَبٍ، متعلِّقٌ بِـ "تُصِيبُهُمْ"، و "مَا" مَصْدَرِيَّةٌ وهيَ مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِالباءِ والتقديرُ: تُصيبُهم بِسَبَبِ صُنْعِهِمُ. أَوْ هي مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ على السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بَحَرْفِ الجَرِّ، والرابطُ أَوِ العائدُ مَحْذوفٌ أَيْ: بِمَا صَنَعُوهُ. و "صَنَعُوا" مثلُ "كفروا" والجملةُ صِلَةُ "مَا" لا مَحلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ، و "قَارِعَةٌ" فاعِلُ "تُصِيبُ" مرفوعٌ، وجُمْلَةُ "تُصِيبُهُمْ" في مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "تَزالُ"، وجُمْلَةُ "تَزالُ" مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللهِ} أَوْ: حرْفُ عَطْفٍ وتَقْسيمٍ. و "تَحُلُّ" بِضَمِّ الْحَاءِ، فِعْل ٌمُضارعٌ مَرْفوعٌ، لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ وهو مُضَارِعُ حَلَّ اللَّازِمِ، وَقَدِ الْتُزِمَ فِيهِ الضَّمُّ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هي) يَعودُ عَلى "قَارِعَةٌ"، أَوْ عَلَى جُيوشِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حسبَ ما تقدَّمَ بيانُهُ في التفسيرِ، والجملةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "تُصيبً" عَلَى كَوْنِها خَبَرَ "تَزالُ". و "قَرِيبًا" مَنْصُوبٌ عَلى الظَّرْفِيَّةِ المَكانِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَحُلُّ" لأَنَّهُ صِفَةٌ لِمَكانٍ مَحْذوفٍ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَرِيبًا" و "دَارِهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافة إليهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّرِ. و "حَتَّى}: حَرْفُ جَرٍّ وغَايَةٍ بِمَعْنَى "إِلى" مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُصِيبُهُمْ"، أَوْ بِـ "تَحُلُّ". و "يَأْتِيَ" فعلٌ مضارعٌ مَنْصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ "حَتَّى" وُجوبًا، و "وَعْدُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ، وهو مضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" اسْمٌ مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ، والجُملَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةُ "أَنْ" المُضْمَرَةِ، و "أن" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بِـ "حَتَّى"، والتقديرُ: إلى إِتْيَانِ وَعْدِ اللهِ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتأكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بهِ، و "لَا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها، و "يُخْلِفُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على "اللهَ" تعالى، و "الْمِيعَادَ" مفعولُهُ منصوبٌ بِهِ، و الجُمْلَةُ في مَحلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلها لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأ العامَّةُ: {تَحُلُّ} بالتاءِ، وقَرَأَ سعيدُ ابْنُ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٌ ـ رضي اللهُ عنهما: "يَحُلُّ" بالياء مِنْ تحتُ، والفاعلُ على ما تقدم: إمَّا ضميرُ القارعة، وإنَّما ذكَّر الفِعْلَ لأنَّها بِمَعْنَى العَذابِ، أَوْ لأَنَّ التاءَ للمُبَالَغَةِ، والمُرادُ "قارِعٌ"، وإمَّا ضَميرُ الرَّسُولِ ـ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أَتى بِهِ غائبًا. وقرآ أَيْضًا "مِنْ دِيَارِهِمْ" وهيَ واضِحَةٌ.