فيضُ العليم... سورة الرعد، الآية: 35
مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} أَيْ: الصِفَةُ العجيبةُ الغريبةُ للجَنَّةِ التي وُعِدَها المُتَّقونَ فهيَ في الغَرَابَةِ كالمَثَلِ، يُقالُ: مَثَّلَ الشَّيْءَ إِذَا وَصَفَهُ وَقَرَّبَهُ لِلْفَهْمِ، وقولُهُ تَعالى في سُورةِ الرُّوم: {وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى} الآية: 27، أَيِ لَهُ ـ سُبْحانُهُ وتَعَالى، الصِّفَةُ الْعُلْيَا. وقَوْلُهُ تَعَالَى في سُورةِ الفتحِ: {ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ} الآية: 29، أَيْ: صِفَتُهم. فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "مَثَلُ الْجَنَّةِ" قَالَ: نَعْتُ الْجَنَّةِ، لَيْسَ للجَنَّةِ مَثَلٌ. وَأَنْكَرَهُ أَبُو عَلِيٍّ الفارسيُّ وَقَالَ: لَمْ يُسْمَعْ (مَثَلُ) بِمَعْنَى الصِّفَةِ، إِنَّمَا مَعْنَاهُ الشَّبَهُ، أَلَا تَرَاهُ يَجْرِي مَجْرَاهُ فِي مَوَاضِعِهِ وَمُتَصَرِّفَاتِهِ، كَقَوْلِهِمْ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مَثَلِكَ، كَمَا تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ شَبَهِكَ، قَالَ: وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ جِهَةِ المَعْنَى، لأَنَّ مَثَلًا إِذَا كَانَ مَعْنَاهُ صِفَةً كَانَ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي فِيهَا أَنْهَارٌ، وَذَلِكَ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ، لِأَنَّ الْأَنْهَارَ فِي الْجَنَّةِ نَفْسِهَا لَا صِفَتُهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَثَّلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَنَا مَا غَابَ عَنَّا بِمَا نَرَاهُ، وَالْمَعْنَى: مَثَلُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَأَنْكَرَهُ أَيضًا أَبُو عَلِيٍّ فَقَالَ: لَا يَخْلُو الْمَثَلُ عَلَى قَوْلِهِ أَنْ يَكُونَ الصِّفَةَ أَوِ الشَّبَهَ، وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ لَا يَصِحُّ مَا قَالَهُ، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ بِمَعْنَى الصِّفَةِ لَمْ يَصِحَّ، لِأَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: (صِفَةُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ)، فَجَعَلْتَ الْجَنَّةَ خَبَرًا لَمْ يَسْتَقِمْ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا تَكُونُ الصِّفَةَ، وَكَذَلِكَ أَيْضًا إذا قلتَ: (شَبَهُ الْجَنَّةِ جَنَّةٌ)، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّبَهَ عِبَارَةٌ عَنِ الْمُمَاثَلَةِ الَّتِي بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَهُوَ حَدَثٌ، وَالْجَنَّةُ غَيْرُ حَدَثٍ، فَلَا يَكُونُ الْأَوَّلُ الثَّانِيَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَثَلُ مُقْحَمٌ لِلتَّأْكِيدِ، وَالْمَعْنَى: الْجَنَّةُ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ كَثِيرًا بِالْمَثَلِ، كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ الشُّورَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الآية: 11، أَيْ: لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ. وَقِيلَ التَّقْدِيرُ: صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ صِفَةُ جَنَّةٍ "تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ". وَقِيلَ مَعْنَاهُ: شَبَهُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِي الْحُسْنِ وَالنِّعْمَةِ وَالْخُلُودِ كَشَبَهِ النَّارِ فِي الْعَذَابِ وَالشِّدَّةِ وَالْخُلُودِ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ.
قولُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تَفْسيرٌ لِذَلِكَ المَثَلِ، أَيْ صِفَةُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ، وهو كَما تقَوْلُ: قَوْلِي يَقُومُ زَيْدٌ، وَهَذا مِنْ صِفَةِ تِلْكَ الجَنَّةِ التي وُعِدَها المُتَّقونَ بِأَنَّها قُصورٌ وغُرَفٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنهارُ، أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ يَشْرَبُ مِنْهُ المُقرَّبونَ، وخَمْرٍ مِنْ رَحيقٍ مَختومٍ لا لَغْوٌ فيها ولا تأْثيمٌ، وعَسَلٍ مُصَفَّى مِمَّا يَشْتَهونَ، ولَبَنٍ لَذَّةٍ للشَّاربينْ، وغيرِ ذلكَ مِمَّا لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بَشَرٍ، وَحَيْثُ شَاءَ أَهْلُهَا يُفَجِّرُونَهَا تفجيرًا، أَيْ: يَصْرِفونَها كَيْفَ يشاؤونَ وأَيْنَ، قالَ تعالى في الآية: 15، من سورةِ (مُحَمَّد): {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ}.
قولُهُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} الْأُكُلُ مَا يُؤْكَلُ فِيهَا، ويَجوزُ فيهِ ضَمُّ الكافِ وإِسْكانُها، والأَكْلُ بِفَتْحِها مصدَرُ أَكَلَ. وَدَائمٌ: أَيْ لَا يَنْقَطِعُ أَبَدًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآية: 33، مِنْ سورةِ الواقعة: {لَا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ}. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَفِيهِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ (أَيْ: تَوَقَّفَ وأَحْجَمَ)، فَقَالَ: ((إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ ـ أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا)) أخرجه أحمد في المسند: (1/298، 358)، والبُخاريُّ: في الأَذانِ باب: (91)، ومُسْلِمٌ: في الكُسُوفِ حديث (17).
وَأخرجَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عبدِ اللهِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ فِي صَلَاةِ الظُّهْرِ إِذْ تَقَدَّمُ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَتَقَدَّمْنَا، ثُمَّ تَنَاوَلَ شَيْئًا لِيَأْخُذَهُ ثُمَّ تَأَخَّرَ، فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ، قَالَ لَهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ: يَا رَسُولَ اللهِ، صَنَعْتَ الْيَوْمَ فِي الصَّلَاةِ شَيْئًا مَا رَأَيْنَاكَ كُنْتَ تَصْنَعُهُ، فَقَالَ: ((إِنِّي عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّضْرَةِ، فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا قِطْفًا مِنْ عِنَبٍ لِآتِيَكُمْ بِهِ، فَحِيلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ، وَلَوْ أَتَيْتُكُمْ بِهِ لَأَكَلَ مِنْهُ مِنْ بَيْنِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا يُنْقِصُونَهُ)) أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ في الكُسُوفِ، حديث: (18). وَرَوَى أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ شَاهِدًا لِبَعْضِهِ.
وَأَخرجَ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ عَبْدٍ السُّلَمِيِّ أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الْجَنَّةِ، فَقَالَ: فِيهَا عِنَبٌ؟. قَالَ: ((نَعَمْ)). قَالَ: فَمَا عِظَمُ الْعُنْقُودِ؟ قَالَ: ((مَسِيرَةُ شَهْرٍ لِلْغُرَابِ الْأَبْقَعِ وَلَا يَفْتُرُ))، المسند: (4/184).
وَأَخرجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنْ ثَوْبَانَ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا نَزَعَ ثَمَرَةً مِنَ الْجَنَّةِ عَادَتْ مَكَانَهَا أُخْرَى)).
وَأخرجَ مُسْلمٌ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَأْكُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ وَيَشْرَبُونَ، وَلَا يَتَمَخَّطونَ، وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَبُولُونَ، طَعَامُهُمْ جُشَاءٌ كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَيُلْهَمُونَ التَّسْبِيحَ وَالتَّقْدِيسَ كَمَا يُلْهَمُونَ النَّفَسَ)) صحيحُ مُسْلِمٌ، كتابُ الجَنَّةِ، حديث: (15 ـ 19).
وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ عَنْ تمام بْنِ عُقْبَةَ، سَمِعْتُ زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: يَا أَبَا الْقَاسِمِ: تَزْعُمُ أَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَأْكُلُونَ ويشربون؟. قَالَ: ((نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الرَّجُلَ مِنْهُمْ لَيُعْطَى قُوَّةَ مِئَةِ رَجُلٍ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ والجِمَاعِ والشَّهْوَةِ)). قال: إِنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ تَكُونُ لَهُ الْحَاجَةُ، وَلَيْسَ في الجَنَّةِ أَذًى؟. قال: ((تَكونُ حاجَةُ أَحَدِهمْ رَشْحًا يَفِيضُ مِنْ جُلُودِهِمْ كَرِيحِ الْمِسْكِ فَيَضْمُرُ بَطْنُهُ)) أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدَهِ: (4/367 ـ 371).
وَجاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ الْمُجِدُّ الْجَوَادَ الْمُضَمَّرَ السَّرِيعَ فِي ظِلِّهَا مِئَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا)) ثمَّ قرأَ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} وَكَثِيرًا مَا يُقْرِنُ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ صِفَةِ الْجَنَّةِ وَصِفَةِ النَّارِ لِيُرَغِّبَ فِي الْجَنَّةِ وَيُحَذِّرَ مِنَ النَّارِ، وَلِهَذَا لَمَّا ذَكَرَ صِفَةَ الْجَنَّةِ بِمَا ذَكَرَ قَالَ بَعْدَهُ: تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ. كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآية: 20، مِنْ سورةِ الحَشْرِ: {لَا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ}.
وأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ خَارِجَةَ بْنِ مُصْعَبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَفَرَتَ الْجَهْمِيَّةُ بآيَاتٍ مَنَ الْقُرْآنِ. قَالُوا: إِنَّ الْجَنَّةَ تَنْفَدُ. وَمَنْ قَالَ تَنْفَدُ فَقَدْ كَفَرَ بِالْقُرْآنِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} الآية: 54، مِنْ سُورَة (ص). وَقَالَ: {لَا مَقْطُوعَة وَلَا مَمْنُوعَة} الآية: 33، منْ سُورَة الْوَاقِعَة. فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا تَنْقَطِعُ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ: {عَطاءً غَيْرَ مجذوذٍ} الآية: 108، منْ سورةِ هودٍ. فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا تَنْقَطِعُ فَقَدْ كَفَرَ. وَقَالَ "أُكُلُهَا دَائِمٌ وظِلُّها" فَمَنْ قَالَ إِنَّهَا لَا تَدومُ فَقَدْ كَفَرَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الإمامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا مِنْ شَيْءٍ مِنْ ثِمَارِ الدُّنْيَا أَشْبَهُ بِثِمارِ الْجَنَّةِ مِنَ المَوْزِ، لِأَنَّكَ لَا تَطْلُبُهُ فِي صَيْفٍ وَلَا شِتَاءٍ إِلَّا وَجَدْتَهُ. قَالَ اللهُ تَعَالَى: "أكلهَا دَائِم". أوَ لا تَنْقَطِعُ لَذَّاتُ أُكُلِها، ولَا تُزَادُ بِجُوعٍ وَلَا تُمَلُّ مِنْ شِبَعٍ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ إِبْرَاهِيم التَّيْمِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أُكُلُهَا دَائِمٌ" قَالَ: لَذَّتُها دائِمَةٌ فِي أَفْوَاهِهِمْ، "وَظِلُّهَا" قالَ: أَيْ وظلُّها أَيضًا دَائِمُ الْبَقَاءِ وَالرَّاحَةِ، لَا تَنْسَخُهُ شَمْسٌ، وَلَا يَمِيلُ لِبَرْدٍ كَمَا هو الحالُ فِي الدُّنْيَا، وهَذا كِنَايَةٌ عَنِ الْتِفَافِ الْأَشْجَارِ بِحَيْثُ لَا فَرَاغَ بَيْنِهَا تَنْفُذُ مِنْهُ الشَّمْسُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآية: 16، منْ سُورَةِ النَّبَأِ (عمَّ يَتَساءَلونَ عَنِ النَّبأَ): {وَجَنَّاتٍ أَلْفافًا}، وَذَلِكَ مِنْ مَحَامِدِ الْجَنَّاتِ ومحاسِنِها وَمَلَاذِّهَا.
قولُهُ: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} أَيْ: تِلْكَ الْجَنَّةُ وما فيها مِنْ نعيمٍ مُقيمٍ، هِيَ عَاقِبَةُ المُؤمنينَ، الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهم، فاجْتَنَبُوا الشِّرْكَ وَكُلَّ مَا يُغْضِبُ رَبَّ العالَمينَ، وهيَ مآلُهم وعاقِبَةُ أَمْرِهم، وفيها اسْتِقرارُهم.
قولُهُ: {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} وَعُقْبَى الْكافِرِينَ بربِّهم ورسالةِ نَبِيِّهم، النَّارُ لا بُدَّ مِنْها، ولا مَحيدَ لهم عَنْها، فهيَ مآلُهم، وإِلَيْها رُجوعُهم.
وفي تَرْتيبِ العَقِبَيْيْنِ، وبَيانِ العاقِبَتَيْنِ، إِطْمَاعٌ للمُتَّقينَ، وإِقْناطٌ للكافرينَ، وحذيرٌ لهم مِنْ وبالِ أمْرهم.
قولُهُ تعالى: {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} مَثَلُ: مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، و "الْجَنَّةِ" مجرورٌ بالإضافَةِ إليْهِ. و "الَّتِي" اسْمٌ موْصولٌ مَبْنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجَرِّ صفَةُ "الْجَنَّةِ". و "وُعِدَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، مبنيٌّ للمجهولِ، و "الْمُتَّقُونَ" نائبٌ عنْ فاعِلِهِ مرفوعٌ وعَلامَةُ الرفع الواو لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "التي" فَلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ والتَقديرُ: وُعِدَها المُتَّقونَ، وخَبَرُ المُبْتَدَأِ مَحْذوفٌ والتقديرُ: مَثَلُ الجَنَّةِ التي وُعِدَها المُتَّقونَ كائنٌ فيما يُتْلَى عَلَيْكَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تَجْرِي: فِعْلٌ مُضَارعٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المُقَدَّرةُ على آخِرِهِ، لِثِقَلِ ظُهُورِها على الياءِ. و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقُ بِهِ، أَوْ بِمَحْذوفِ حالٍ مِنَ الأَنْهارِ. و "تحتِها" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "الْأَنْهَارُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ، والجملةُ الفِعْليَّةُ مُفَسِّرَةٌ لِذَلِكَ المَحْذوفِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وقالَ أَبْو البَقاءِ العُكْبُرِيُّ: "تَجري" حالٌ مِنَ العائدِ المَحْذوفِ في "وُعِد"، أَيْ: وُعِدَها مُقَدَّرًا جَرَيَانُ أَنْهارِها. وجَعَلَ الفَرَّاءُ الخَبَرَ قولَهُ "تَجْري". قال العُكبُريُّ: وهذا خَطَأٌ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ. لأنَّ المَثَلَ لا تَجْري مِنْ تَحتِه الأَنْهارُ، وإِنَّمَا هوَ مِنْ صِفاتِ المُضافِ إِلَيْهِ، وشُبْهَتُهُ: أَنَّ المَثَل هُنا بِمَعْنَى الصِّفَةِ فهوَ كَقَوْلِهِ: صِفَةُ زَيْدٍ أَنَّهُ طَويلٌ، ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "تجري" مُسْتَأْنَفًا. ونُقِلَ أيضًا في الآيةِ تَأْويلينِ آخَرَيْنِ عَنِ الفَرَّاءِ، أَحَدُهُما: عَلَى حذفِ لَفْظةِ "أَنَّها" والأَصلُ: صِفَةُ الجَنَّة أَنَّها تَجْري، وهذا مِنْه تَفْسيرُ معنىً لا إعراب، وكيف يَحْذِفُ "أَنَّها" مِنْ غَيْرِ دَليلٍ. والثاني: أنَّ لفظةَ "مَثَلَ" زائدةٌ، والأَصْلُ: الجَنَّةُ تَجْري مِنْ تَحْتِها الأَنْهارُ، وزِيادةُ "مَثَلَ" كَثيرةٌ في لِسانِهم. ومِنْهُ قولُهُ في سورةِ الشُّورى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} الآية: 11، وقولُهُ في سورةِ البقرةِ: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ} [الآية: 137، وقَدْ تقدَّمَ.
وقال سِيبَوَيْهِ: الخَبَرُ: "تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهارُ" كمَا تَقولُ: صِفَةُ زَيْدٍ أَسْمَرُ. قالَ الشيخُ أبو حيّان الأندلُسيُّ: وهذا أَيْضًا لا يَصِحُّ أَنْ يَكونَ "تَجْري" خَبَرًا عَنِ الصِفَةِ، ولا "أسمر" خَبَرًا عَنِ الصِفَةِ، وإِنَّما يُتَأَوَّلُ "تَجْري" عَلَى إِسْقاطِ "أنْ" ورَفْعِ الفِعْلِ، والتقديرُ: أَنْ تَجْري، أَيْ: جَرَيانُها. وقالَ الزَجَّاجُ: مَثَلُ الجَنَّةِ جَنَّةٌ تَجْري، عَلى حَذْفِ المَوْصوفِ تَمثيلًا لِما غابَ عنَّا بما نُشاهدُهُ. ورَدَّ عَليْهِ أَبو عَليٍّ الفارسِيُّ قالَ: لا يَصِحُّ ما قالَ الزَّجَّاجُ، لا عَلى مَعنى الصِفَةِ، ولا عَلى مَعنى الشَّبَهِ؛ لأَنَّ الجِنَّةَ التي قَدَّرَها جِثَّةٌ ولا تَكونُ الصِفَةَ، ولأَنَّ الشَّبَهَ عِبارةٌ عَنِ المُماثَلَةِ التي بَيْنَ المُتَماثِلين وهوَ حَدَثٌ، والجَنَّةُ جِثَّةٌ فلا تَكونُ المُماثِلَةُ، والجُمهورُ على أَنَّ المَثَلَ هنا بمعنى الصِفَةِ فليس هنا ضَرْبُ مَثَلٍ، فهو كقولِهِ تَعَالى في سورةِ النَّحْلِ: {وَللهِ المَثَلُ الأَعْلى} الآية: 60، وأَنْكَرَ أَبو عَلِيٍّ الفارسيُّ أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى الصِفَةِ، وقالَ: مَعْناهُ الشبهُ.
قولُهُ: {أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا} أُكُلُهَا: مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ، و "دَائِمٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُملةُ مُفَسِّرَةٌ أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَظِلُّهَا" الواوُ: حرفُ عطفٍ، و "ظلُّها" مثلُ "أُكُلُهَا" وخبرُهُ محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه، والتقديرُ: وظِلُّها دائمٌ. والجُمْلةُ معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ "أُكُلُهَا دَائِمٌ".
قولُهُ: {تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا} تِلْكَ: "تي" اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ الظاهِرِ عَلى الياءِ المَحْذوفَةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ، في مَحَلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ، والإشارةُ إلى الجَنَّةِ. و "عُقْبَى" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ وعلامَةُ رَفْعِهِ الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِه لتعذُّرِ ظهورها على الألفِ، وهو مُضافٌ. و "الَّذِينَ" اسْمٌ موْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "اتَّقَوْا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَمِّ المُقَدَّرِ عَلَى الأَلِفِ المَحْذوفَةِ لالْتِقاءِ السَّاكِنَيْن. وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ رَفعِ فاعِلِهِ، والألفُ للتفريقِ، والجملةُ صِلَةُ المَوْصولِ.
قولُهُ: {وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ} وَعُقْبَى: الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "عُقبى" مرفوعٌ بالابْتِداءِ، وعلامةُ رَفْعِهِ الضَّمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الألف، وهو مضافٌ، و "الْكَافِرِينَ" مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، و "النَّارُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ التي قَبْلَهَا.
قرأَ الجمهورُ: {مَثَلُ الجنَّةِ} بالإفرادِ، وَقَرَأَ أَميرُ المُؤْمِنينَ عَلِيٌّ وعبدُ اللهِ ابْنُ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما "أَمْثالُ الجَنَّةِ" بالجمعِ، أَيْ: صِفَاتُها.