فيض العليم .... سورة الرعد، الآية: 17
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ
(17)
قولُهُ ـ جلَّ مِنْ قائلٍ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} الْأَوْدِيَةُ: جَمْعُ الْوَادِي، وَهُوَ الْحَفِيرُ الْمُتَّسِعُ الْمُمْتَدُّ مِنَ الْأَرْضِ الَّذِي يَجْرِي فِيهِ السَّيْلُ. بِقَدَرِهَا: أَيْ بِمِقْدَارِهَا الذِي اقْتَضَتْهُ الحِكْمَةُ. والزَّبَدُ: الغُثَاءُ أَوْ الرَّغْوَةُ، الطَّافِيَةُ عَلَى وَجْهِ المَاءِ. وقيلَ: هو ما يَحْتمله السَّيلُ مِنْ غُثاءٍ ونَحْوِهِ، ومَا يَرْمِي بِهِ عَلى ضِفَّتَيْهِ مِنَ الحَبابِ. وقِيلَ: هوَ ما يَطْرحُهُ الوادي إِذا جَاشَ ماؤُهُ، وارْتَفَعَتْ أَمْواجُهُ. وهيَ عِباراتٌ مُتَقارِبَةٌ. وفي الحديثِ الشَّريفِ يقولُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ وإِنْ كانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ)). و "رَابِيًا" مُرْتَفِعًا مُنْتَفِخًا. والمَعْنَى أَنَّ اللهَ تَعَالى أَنْزَلَ عَلَيْكم مِنَ السَّماءِ غَيْثًا تَسِيلُ بِهِ الوِدْيانُ والأَنْهارُ، كُلٌّ بالمِقْدارِ الذي قَدَّرَهُ اللهُ تَعَالى لِفَائِدَةِ النَّاسِ، فَأَخَذَ كُلُّ وَادٍ مِنَ المَاءِ بِحَسَبِ سِعَتِهِ، هَذا كَبِيرٌ فاتَّسَعَ لِمَاءٍ كَثِيرٍ، وَهَذا صَغِيرٌ فَاتَّسَعَ لَمَاءٍ قليلٍ بِقَدَرِهِ، وتَحْمِلُ هَذِهِ السُّيُولُ خِلالَ جَرَيانِها مَا لا نَفْعَ بِهِ مِنَ الزَّبَدِ وغَيْرِهِ مِمَّا يَعْلُو سَطْحَها. فَشُبِّهَ إِنْزَالُ الْقُرْآنِ الَّذِي بِهِ الْهُدَى مِنَ السَّمَاءِ بِإِنْزَالِ الْمَاءِ الَّذِي بِهِ النَّفْعُ وَالْحَيَاةُ مِنَ السَّمَاءِ. وَشُبِّهَ وُرُودُ الْقُرْآنِ عَلَى أَسْمَاعِ النَّاسِ بِالسَّيْلِ يَمُرُّ عَلَى مُخْتَلَفِ الْجِهَاتِ فَهُوَ يَمُرُّ عَلَى التِّلَالِ وَالْجِبَالِ فَلَا يَسْتَقِرُّ فِيهَا وَلَكِنَّهُ يَمْضِي إِلَى الْأَوْدِيَةِ وَالْوِهَادِ فَيَأْخُذُ مِنْهُ كُلٌّ بِقَدْرِ سَعَتِهِ. وَتِلْكَ السُّيُولُ فِي حَالِ نُزُولِهَا تَحْمِلُ فِي أَعَالِيهَا زَبَدًا، وَهُوَ رَغْوَةُ الْمَاءِ الَّتِي تَرْبُو وَتَطْفُو عَلَى سَطْحِ الْمَاءِ، فَيَذْهَبُ الزَّبَدُ غَيْرَ مُنْتَفَعٍ بِهِ وَيَبْقَى الْمَاءُ الْخَالِصُ الصَّافِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ لِلشَّرَابِ وَالسَّقْيِ. وإِنَّما نَكَّرَ الأَوْدِيَةَ وعَرَّفَ السَّيْلَ؛ لأَنَّ المَطَرَ يَنْزِلُ في البِقاعِ عَلَى المُنَاوَبَةِ، فَتَسيلُ بَعْضُ أَوْدِيَةِ الأَرْضِ دُونَ بَعْضٍ، وتَعْريفُ السَّيْلِ لأَنَّهُ قَدْ فُهِمَ مِنَ الفِعْلِ قَبْلَهُ وهو "فَسالَتْ" وهوَ لَوْ ذُكِرَ لَكَانَ نَكِرَةً، فلَمَّا أُعِيدَ أُعِيدَ بِلَفْظِ التَّعْريفِ نَحْوَ قولِكَ: رَأَيتُ رَجُلًا فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ. ثُمَّ شُبِّهَتْ هَيْئَةُ نُزُولِ الْآيَاتِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنْ إِيقَاظِ النَّظَرِ فِيهَا فَيَنْتَفِعُ بِهِ مَنْ دَخَلَ الْإِيمَانُ قُلُوبَهُمْ عَلَى مَقَادِيرِ قُوَّةِ إِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمْ، وَيَمُرُّ عَلَى قُلُوبِ قَوْمٍ لَا يَشْعُرُونَ بِهِ وَهُمُ الْمُنْكِرُونَ الْمُعْرِضُونَ، وَيُخَالِطُ قُلُوبَ قَوْمٍ فَيَتَأَمَّلُونَهُ فَيَأْخُذُونَ مِنْهُ مَا يُثِيرُ لَهُمْ شُبُهَاتٍ وَإِلْحَادًا. كَقَوْلِهِمْ مِنْ سُورةِ سَبَأ: {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآية: 7، وَمِنْهُ الْأَخْذُ بِالْمُتَشَابِهِ كما قَالَ تَعَالَى في الآية: 7، منْ سورةِ آل عمرَان: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ}.
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ التَّشْبِيهَ بِالْهَيْئَةِ كُلِّهَا جِيءَ فِي حِكَايَةِ مَا تَرَتَّبَ عَلَى إِنْزَالِ الْمَاءِ بِالْعَطْفِ بِفَاءِ التَّفْرِيعِ فِي قَوْلِهِ: "فَسالَتْ"، وَقَوْلِهِ: "فَاحْتَمَلَ"، فَهَذَا تَمْثِيلٌ صَالِحٌ لِتَجْزِئَةِ التَّشْبِيهَاتِ الَّتِي تَرَكَّبَ مِنْهَا وَهُوَ أَبْلَغُ التَّمْثِيلِ. وفِيهِ المُقارَنَةُ بَيْنَ المَاءِ الذي يَمْكُثُ في الأَرْضِ ويَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِ، مِنْ سَقْيِ الزَّرْعِ والشَّجَرِ، ومِنَ الشُّرْبِ وَمَا فِيهِ مِنَ الخَيْرِ للنَّاسِ، وبَيْنَ الزَبَدِ الذي يَعْلُو عَلَى وَجْهِ الماءِ، وَليْسَ فِيهِ مِنْ نَفْعٍ أَبَدًا. وَفيهِ أَيْضًا إِشَارَةٌ إِلَى القُلُوبِ وَتَفَاوُتِهَا، فَمِنْهَا مَا يَسَعُ عِلْمًا كَثِيرًا، وَمِنْهَا مَا لاَ يَتَّسِعُ للكَثِيرِ مِنَ العِلْمِ.
وأَخرج ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً" الْآيَة، قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى احْتَمَلَتْ مِنْهُ الْقُلُوبُ عَلَى قَدْرِ يَقينِها وشَكِّها، فَأَمَّا الشَّكُّ، فَمَا يَنْفَعُ مَعَهُ الْعَمَلُ، وَأَمَّا الْيَقِينُ فَيَنْفَعُ اللهُ بِهِ أَهْلَهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ" وَهُوَ الْيَقِينُ، كَمَا يُجْعَلُ الْحِلِيُّ فِي النَّارِ فَيُؤْخَذُ خَالِصُهُ بِهِ وَيُتْرَكُ خَبَثُهُ فِي النَّارِ، كَذَلِكَ يَقْبَلُ اللهُ تَعَالَى الْيَقِينَ وَيَتْرُكُ الشَّكَّ.
وَأخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، يَقُولُ: احْتَمَلَ السَّيْلُ مَا فِي الْوَادي مِنْ عُودٍ ودِمْنَةٍ، وَمِمَّا تُوقِدونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ، فَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ والحِلْيَةُ وَالْمَتَاعُ النُّحاسُ وَالْحَدِيدُ، وللنُّحاسِ وَالْحَدِيدِ خَبَثٌ، فَجَعَلَ اللهُ تَعَالَى مَثَلَ خَبَثِهِ كَمَثَلِ زَبَدِ المَاءِ، فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ الأَرْضَ فَمَا شَرِبَتْ مِنَ المَاءِ فَأَنْبَتَتْ، فَجَعَلَ ذَلِكَ مِثْلَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ الَّذِي يَبْقَى لأَهْلِهِ، وَالْعَمَلُ السَّيِّءُ يَضْمَحِلُّ مِنْ مَحَلِّهِ، فَمَا يُذْهِبُ هَذَا الزَّبَدَ فَذَلِكَ الْهُدَى، وَالْحَقُّ جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ تَعَالَى فَمَنْ عَمِلَ بِالْحَقِّ كَانَ لَهُ، وَمَا بَقِيَ كَمَا يَبْقى مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فِي الأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْحَدِيدُ لَا يُسْتَطاعُ أَنْ يُعْمَلَ مِنْهُ سِكِّين وَلَا سَيْفٌ حَتَّى يَدْخُلَ النَّارَ فَتَأْكُلُ خَبَثَهُ فَيَخْرُجُ جَيِّدُهُ فَيُنْتَفَعُ بِهِ، كَذَلِك يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ. وَإِذا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وأُقِيمَ النَّاسُ، وَعُرِضَتِ الْأَعْمَالُ، فيُرْفَعُ الْبَاطِلُ وَيَهْلِكُ، وَينْتَفِعُ أَهْلُ الْحَقِّ بِالْحَقِّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبي صَالِحٍ مِنْ طَرِيقِ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" الْآيَة، قَالَ: فَمَرَّ السَّيْلُ عَلَى رَأْسِهِ مِنَ التُّرَابِ والغُثاءِ حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي الْقَرارِ وَعَلِيهِ الزَّبَدُ، فَضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، فَذَهَبَ الزَّبَدُ، جُفَاءً إِلَى جوانِبِهِ، فَيَبِسَ، فَلم يَنْفَعْ أَحَدًا، وَبَقِيَ المَاءُ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ النَّاسُ، فَشَرِبُوا مِنْهُ، وَسقوا أَنْعامَهم، فَكَمَا ذَهَبَ الزَّبَدُ فَلَمْ يَنْفَعْ، فَكَذَلِكَ الْبَاطِلُ يَضْمَحِلُّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَا يَنْفَعُ أَهلَهُ، وكَمَا نَفَعَ المَاءُ، فَكَذَلِكَ يَنْفَعُ الْحَقُّ أَهلَهُ، هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَطاء ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: ضَرَبَ اللهُ تَعَالَى مَثَلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، فَضَرَبَ مَثَلَ الْحَقِّ السَّيْلُ الَّذِي يَمْكُثُ فِي الأَرْضِ فَيَنْتَفِعُ النَّاسُ بِهِ، وَمَثَلُ الْبَاطِلِ مَثَلُ الزَّبَدِ الَّذِي لَا يَنْفَعُ النَّاسَ، وَمَثَلُ الْحَقِّ مَثَلُ الْحِلِيِّ الَّذِي يُجْعَل فِي النَّارِ، فَمَا خَلُصَ مِنْهُ انْتَفَعَ بِهِ أَهْلُهُ، وَمَا خَبُثَ مِنْهُ فَهُوَ مِثْلُ الْبَاطِلِ عُلِمَ أَنْ لَا يَنْفَعُ الزَّبَدُ وخَبَثُ الْحِلِيِّ أَهْلَهُ، فَكَذَلِكَ الْبَاطِلُ لَا يَنْفَعُ أَهْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" قَالَ: الصَّغِيرُ بِصِغَرِهِ وَالْكَبِيرُ بِكِبَرِهِ، "فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابيًا" قَالَ: عَالِيًا، "وَمِمَّا يُوقِدونَ" إِلَى قَوْلِهِ: "فَيَذْهَبُ جُفَاءً"، والجُفاءُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّجَرِ. "وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ". هَذِهِ ثَلَاثَةُ أَمْثَالٍ ضَرَبَهَا اللهُ تَعَالَى فِي مَثَلٍ وَاحِدٍ، يَقُولُ: كَمَا اضْمَحَلَّ هَذَا الزَّبَدُ، فَصَارَ جُفَاءً لَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَلَا يُرْجَى بَرَكَتُهُ كَذَلِكَ يَضْمَحَلُ الْبَاطِلُ عَنْ أَهْلِهِ، وكَما مَكَثَ هَذَا المَاءُ فِي الأَرْضِ، فَأَمْرَعَتْ، ورَبَتْ بَرَكَتُهُ، وأَخْرَجَتْ نَبَاتَها، كَذَلِكَ يَبْقَى الْحَقُّ لأَهْلِهِ. وَقَولُهُ تَعَالى: "وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٌ" كَمَا يَبْقى خَالِصُ هَذَا الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حِينَ أُدْخِلَ النَّارَ، كَذَلِكَ فَيَذْهَبُ خَبَثُهُ، كَذَلِكَ يَبْقَى الْحَقُّ لأَهْلِهِ. وكَمَا اضْمَحَلَّ خَبَثُ هَذَا الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ حِينَ أُدْخِلَ فِي النَّارِ، كَذَلِكَ يَضْمَحِلُّ الْبَاطِلُ عَنْ أَهْلِهِ. وَقَولُهُ: "أَو مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ" يَقُولُ: هَذَا الْحَدِيدُ وَهَذَا الصُفْرُ حِينَ دَخَلَ النَّارَ، وَذَهَبَتْ بِخَبَثِهِ، كَذَلِك يَبْقى الْحَقُّ لأَهْلِهِ كَمَا بَقِي خالِصُهُما.
وَأَخْرَجَ عبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" قَالَ: الْكَبِيرُ بِقَدرِهِ وَالصَّغِيرُ بِقَدرِهِ، "زَبَدًا رابيًا" قَالَ: رَبَا فَوقَ المَاءِ الزَّبَدُ، "وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار" قَالَ: هُوَ الذَّهَبُ إِذا أُدْخِلَ النَّارَ بَقِيَ صَفْوُهُ وَذهَبَ مَا كَانَ فِيهِ مِن ْكَدَرٍ، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ للحَقِّ وَالْبَاطِلِ، "فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً" يَتَعَلَّقُ بِالشَّجَرِ وَلَا يَكونُ شَيْئًا، هَذَا مَثَلُ الْبَاطِلِ "وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ" هَذَا يُخْرِجُ النَّبَاتَ، وَهَذَا مَثَلُ الْحَقِّ، "أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ" قَالَ: الْمَتَاعُ الصُّفْرُ وَالْحَدِيدُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا"، قَالَ: الصَّغِيرُ قَدْرَ صِغَرِهِ، وَالْكَبِيرُ قَدْرَ كِبَرَهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ عَطاء ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً" قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى لِلْمُؤمنِ وَالْكَافِرِ، "فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" حَتَّى جَرَى الْوَادي وامْتَلَأَ بِقَدْرِ مَا يَحْمِلُ، "فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابيًا" قَالَ: زَبَدَ المَاءِ. "وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّارِ" قَالَ: زَبَدُ مَا تُوقِدونَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ حِلْيَةٌ، وَمَا سَقَطَ فَهُوَ مِثْلُ زَبَدِ المَاءِ، وَهُوَ مَثَلٌ ضُرِبَ للحَقِّ وَالْبَاطِلِ. فَأَمَّا خَبَثُ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ، وَزَبَدُ المَاءِ فَهُوَ الْبَاطِلُ، وَمَا تَصْنَعُوا مِنَ الْحِلْيَةِ، وَالْمَاءُ وَالْحَدِيدُ فَمِثْلُ الْحَقِّ.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" قَالَ: بِمِلْئِها، مَا أَطاقَتْ، "فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رابيًا" قَالَ: انْقَضى الْكَلَامُ، ثمَّ اسْتَقْبَلَ فَقَالَ: "وَمِمَّا يوقدون عَلَيْهِ فِي النَّار ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ" قَالَ: الْمَتَاعُ الْحَدِيدُ والنُّحاسُ والرَّصاصُ وأَشْباهُهُ، "زَبَدٌ مِثْلُهُ" قَالَ: خبث ذَلِك الْحَدِيدِ والحِلْيَةِ مِثْلُ زَبَدِ السَّيْلِ، "وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ" مِنَ المَاءِ "فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ"، "وَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً" قَالَ: جُمودًا فِي الأَرْضِ، قَالَ فَكَذَلِكَ مَثَلُ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا" قَالَ: أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ قُرْآنًا فاحْتَمَلَهُ عُقولُ الرِّجَالِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً" الْآيَةَ،
قَالَ: "ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ" الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ، "أَوْ مَتَاعٍ" الصُّفْرُ وَالْحَدِيدُ. قَالَ: كَمَا أُوقِدَ عَلى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ والصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ فَخَلَصَ خالِصُهُ، كَذَلِكَ بَقِيَ الْحَقُّ لأَهْلِهِ فانْتَفَعُوا بِهِ.
قولُهُ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} وهذا مَثَلٌ ثَانٍ ضَرَبَهُ اللهُ تَعَالَى، وهُوَ مَا يُصْهَرُ مِنَ المَعَادِنِ، مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وغيرِهِما، لِيُجْعَلَ مِنْهُ حِلْيّةٌ، وَمَا يُصْهَرُ مِنَ المَعَادِنِ الأُخْرَى، كالنُحَاسِ وَالحَدِيدِ والقِصْديرِ وَغَيْرِهِا، لِيُجْعَلَ مِنْهُ مَتَاعٌ يَسْتَفِيدُ مِنْهُ النَّاسُ فِي حَيَاتِهِمْ وَمَعَاشِهِمْ، أَوْ حِلْيَةٍ يَتَزَيَّنونَ بِها، أَوْ آلاتٍ للحَرْبِ والحَرْثِ والصناعاتِ، والمُرادُ بَيانُ مَنافِعِ هَذِهِ المَعادِنِ. وجَمِيعُها يَعْلُوهُ، حِينَ صَهْرِهِ، زَبَدٌ مِنْهُ، وهوَ خَبَثُها الذي يَطْفُو عَلَى سَطْحِها، كَمَا يَعْلُو المَاءَ زَبَدٌ مِنْهُ أَيضًا حينَ جرَيانِهِ واندفاعِهِ الأَنهارِ والأوديةِ؛ وهذا الزَّبَدُ يَتَلاشَى وَيَتَفَرَّقُ، وَيَبْقَى مَا يَنْفَعُ الأَرْضَ النَّاسَ مِنْ مَاءٍ، أَوَ مِنْ مَعْدِنٍ صافٍ خَالِصٍ منَ الشوائبِ.
وَقِيلَ: الزَّبَدُ مَخَايِلُ النَّفْسِ وَغَوَائِلُ الشَّكِّ تَرْتَفِعُ مِنْ حَيْثُ مَا فِيهَا فَتَضْطَرِبُ مِنْ سُلْطَانِ تِلَعِهَا، كَمَا أَنَّ مَاءَ السَّيْلِ يَجْرِي صَافِيًا فَيَرْفَعُ مَا يَجِدُ فِي الْوَادِي بَاقِيًا، وَأَمَّا حِلْيَةُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَمِثْلُ الْأَحْوَالِ السُّنِّيَّةِ. وَالْأَخْلَاقِ الزَّكِيَّةِ، الَّتِي بِهَا جَمَالُ الرِّجَالِ، وَقَوَامُ صَالِحِ الْأَعْمَالِ، كَمَا أَنَّ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ زِينَةُ النِّسَاءِ. وَبِهِمَا قِيمَةُ الْأَشْيَاءِ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} أي: كَذلِكَ يَتَلاَشَى البَاطِلُ إِذَا اجْتَمَعَ مَعَ الحَقِّ، وَيَبْقَى الحَقُّ راسِخًا ثابِتًا. وَقَريبٌ إِلَيْهِ قَوْلُ الشاعرِ لَبِيدٍ:
فَتَنَازَعَا سَبِطًا يَطِيرُ ظِلَالُهُ ............... كَدُخَانِ مُشْعَلَةٍ يَشِبُّ ضِرَامُهَا
مَشْمُولَةٍ غُلِثَتْ بِنَابِتِ عَرْفَجِ ................ كَدُخَانِ نَارٍ سَاطِعٍ أَسْنَامُهَا
وهَذانِ مَثَلانِ ضَرَبَهُما اللهُ تَعَالى لِلحَقِّ فَي ثَبَاتِهِ وَبَقَائِهِ، وَلِلْبَاطِلِ فِي زَوَالِهِ وَفَنَائِهِ.
قولُهُ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الزَّبَدُ هنا: هو وَضَرُ الغَلَيانِ وخَبَثُهُ، قالَ نابِغَةُ ذُبيانَ:
فما الفُراتُ إذا هَبَّ الرياحُ له .............. تَرْمي غوارِبُه العِبْرَيْنِ بالزَّبَدِ
والزُّبَدُ: المُسْتَخْرَجُ مِنَ اللَّبَنِ. قِيلَ: مُشْتَقٌّ مِنْ هَذَا لِمُشابَهَتِهِ إِيَّاهُ في اللَّوْنِ، ويُقالُ: زَبَدْتُهُ زَبْدًا، أَيْ: أَعْطَيْتُهُ مالًا، يُضْرَبُ بِهِ المَثَلُ في الكَثْرَةِ. و "جُفَاءً" أيْ مُجافًى، مَرْمِيًّا بِهِ مَطْرُوحًا، أَوْ مُتَفَرِّقًا. يُقالُ: جَفَأَتِ الريحُ السَّحَابَ، أَيْ: قَطَعَتْهُ وفَرَّقَتْهُ. وقِيلَ: الجُفاءُ: ما يَرْمِي بِهِ السَّيْلُ. يُقالُ: جَفَأَتِ القِدْرُ بِزَبَدِها تَجْفَأُ، وجَفَأَ السَّيْلُ بزَبَدِهِ وأَجْفَأَ وأَجْفَلَ. فَمَثَلُ الحَقِّ ـ الذي هوَ العِلْمُ باللهِ وبِأَحْكامِهِ وأوامِرِهِ ونواهيهِ، كَمَثَلِ الأَمْطارِ الغَزيرَةِ، ومَثَلُ القُلوبِ التي سَكَنَ فِيها الحَقُّ، وجَرَتْ عَلَى أَلْسِنَةِ أَهْلِها حِكَمُهُ كالأَوْدِيَةِ والأَنْهارِ، فكما أَنَّ الأَنْهارَ والأَوْدِيَةَ يحملُ كلٌّ منها منْ مياهِ الأمطارِ عَلَى قَدْرِ سَعَتِه واسْتيعابه، كذلك العلماءُ يحملُ كلٌّ منهم منْ علومِ الحقِّ تعالى بقدْرِ سَعَةِ صَدْرِهِ. وَمَثَلُ الباطِلِ الذي دَمَغَهُ الحقُّ وذَهَبَ بِهِ كَمَثَلِ زَبَدِ الماءِ، وَخَبَثِ المعادِنِ، أَوِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ، يتلاشى ويتبدَّدُ دونَما نفعٍ ودونَ أيِّ أَثرٍ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} وهَكَذا يَضْرِبُ اللهُ تَعَالى هذِهِ الأمثلةَ وأَشباهَها للناسِ ليوضِّحَ لهُمُ الحَقائقَ ولِيَتَفَكَّروا فيها ويَعْتَبِروا بِما فيها منْ حِكْمَةٍ وموعِظَةٍ حَسَنَةٍ. وهو كما جاءَ في الحَديثِ الشَّريفِ عَنْ أَبي بُرْدَةَ، عَنْ أَبي مُوسَى الأَشعريِّ ـ رضي اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبيِّ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قال: ((مَثَلُ ما بَعثَنِي الله بِهِ مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثِيرِ، أصابَ أرْضًا فَكانَ مِنْها نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الماءَ، فَأنْبَتَتِ الكَلأ والعُشْبَ الكَثِيرَ، وكانَتْ مِنْها أَجادِبُ، أَمْسَكَتِ الماءَ، فَنَفَعَ الله بِها النَّاسَ، فَشَربُوا، وَسَقَوْا، وَزَرَعُوا، وَأصابَتْ مِنْها طائِفَةٌ أُخْرَى، إِنَّما هِيَ قِيعانٌ، لاَ تُمْسِكُ ماءً، ولا تُنْبِتُ كَلأً، فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقُهَ في دينِ الله، ونَفَعَهُ ما بَعَثَنِي اللهُ بِهِ، فَعَلِمَ وعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَم يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى اللهِ الَّذِي أُرْسِلْتُ بهِ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَخرَجَهُ الأئمَّةُ: البُخارِيُّ: (1/42، رقم: 79)، والنَصُّ له، ومُسْلِمٌ: (4/1788، رقم: 2283)، وأَخْرَجَهُ أَيضًا: ابْنُ حِبَّان: (1/176، رقم: 3)، والبَزَّارُ: (8/149، رقم: 3169)، والبَغَوِيُّ في شَرْحِ السُّنَّةِ: (1/287).
وقالَ الإمامُ القُشَيْرِي في تَفْسيرِهِ (لطائفُ الإشاراتِ): (2/225): وقدِ اشْتَمَلَتْ هذِهِ الآيةُ الكريمةُ عَلَى أَمْثَالٍ ضَرَبَها اللهُ تَعَالَى لِتَشْبِيهِ القُرآنِ المُنَزَّلِ عَلَى سَيِّدِنا مُحمَّدٍ ـ صلَّ اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بالمَاءِ المُنَزَّلِ مِنَ السَّماءِ، وشَبَّهَ القلوبَ بِالأَوْدِيَةِ، وشَبَّهَ وَسَاوِسَ الشَّيْطانِ وهواجِسَ النَّفْسِ بالزَّبَدِ الذي يَعْلُو الماءَ، وَشَبَّهَ الخَلْقَ بالجَواهِرِ الصَّافِيَةِ مِنَ الخَبَثِ كالذَّهَبِ والفِضَّةِ والنُّحاسِ وغيرِها، وشَبَّهَ الباطلَ بِخَبَثِ هذِهِ الجَواهِرِ. وكَما أَنَّ الأَوديَةَ مُختلِفةٌ في صِغَرِها وكِبَرِها، وأَنَّ بِقَدْرِها تَحْتَمِلُ الماءَ في القِلَّةِ والكَثْرَةِ، كذلكَ القُلوبُ تَخْتَلِفُ في الاحْتِمالِ عَلى حَسْبِ القوَّةِ والضَّعفِ. وكَمَا أَنَّ السَّيْلَ يُطَهِّرُ الوادي إذا جَرَى فِيه، فكَذَلِكَ القُرآنُ إذا حَفِظَتْهُ القلوبُ نَفَى عنها الأَهْواءَ الوَساوِسَ. وكما أَنَّ الماءَ، قدْ يَصْحَبُهُ مَا يُكَدِّرُهُ، ويُخَلِّصُ بَعْضَهُ مِمَّا يَشوبُهُ. فَكَذَلِكَ الإيمانُ وَفَهْمُ القُرْآنِ في قُلوبِ المُؤْمِنينَ حِينَ تَخْلُصُ مِنْ نَزَغَاتِ الشَّياطِينِ ومِنَ الخَواطِرِ الرَّديئَةِ، فالقُلوبُ بَيْنَ صافٍ وَكَدِرٍ. وكَمَا أَنَّ الجَواهِرَ التي تُتَّخَذُ مِنْها الأَواني إِذا أُذِيبَتْ خَلُصَتْ مِنَ الخَبَثِ، كَذلِكَ الحَقُّ يَتَمَيَّزُ مِنَ الباطِلِ، ويَبْقَى الحَقُّ ويَضْمَحِلُّ الباطِلُ. ويُقالُ إِنَّ الأَنْوارَ إِذا تَلَأْلَأَتْ في القُلوبِ نَفَتْ آثارَ الكُلْفَةِ، ونُورُ اليَقينِ يَنْفي ظُلْمَةَ الشَّكِ، والعِلْمُ يَنْفِي تُهْمَةَ الجَهْلِ، ونُورُ المَعْرِفَةِ يَنْفِي أَثَرَ النُكْرَةِ، ونُورُ المُشاهَدَةِ يَنْفِي آثارَ البَشَرِيَّةِ، وَأَنْوارُ الجَمْعِ تَنْفي آثارَ الفَرْقِ. وعِنْدَ أَنْوارِ الحَقائقِ تَتَلاشى آثارُ الحُظوظِ، وأَنْوارُ طُلوعِ الشَّمْسِ مِنْ حَيْثُ العِرفانِ تَنْفي صُدْفَةَ اللَّيْلِ مِنْ حَيْثُ حُسْبانِ أَثَرَ الأَغْيارِ. ثمَّ الجَواهِرُ التي تُتَّخَذُ مِنْها الأَواني مُخْتَلِفَةٌ فَمِنْ إِناءٍ يُتَّخَذُ مِنَ الذَّهَبِ، وآخَرَ مِنَ الرَّصاصِ، إِلى غَيْرِهِ، كَذلِكَ القُلوبُ تَخْتَلِفُ، وفي الخَبَرِ: إِنَّ للهِ تَعَالى أَوانٍ وَهِيَ القلوبُ. فَزَاهِدٌ قاصِدٌ، ومُحِبٌّ واجِدٌ، وعابِدٌ خائفٌ ومُوَحِّدٌ عارِفٌ، ومُتَعَبِّدٌ مُتَعَفِّفٌ ومُتَهَجِّدٌ مُتَصَوِّفٌ، وأَنْشَدُوا:
أَلْوانُها شَتَّي الفُنُونِ وإِنَّما .................. تُسْقَى بِمَاءٍ واحِدٍ مِنْ مَنْهَلِ
قولُهُ تَعَالَى: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أَنْزَلَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى اللهِ ـ سبحانَهُ وتَعالى، و "مِنَ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "السَّمَاءِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "مَاءً" منصوبٌ على المفعوليَّةِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذه مُسْتَأْنَفَةٌ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ. و "سالتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ لتأنيثِ الفاعِلِ، و "أَوْدِيَةٌ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، و "أَوْدِيَةٌ" هوَ جَمْعُ وادٍ، وصيغةُ جَمْعِ "فاعِل" على "أَفْعِلَة" شاذٌّ، ولم نَسْمَعْه في غيرِ هذا الحَرْفِ، كما قالَ أَبو البَقَاءِ العُكْبُريُّ، ووجهُه: أَنَّ فاعِلًا قدْ جاءَ بِمَعْنَى "فَعِيل"، وكَمَا جاءَ "فَعِيل" و "أَفْعِلَة" ك "جَرِيْب" و "أَجْرِبَة"، وكَذَلِكَ "فاعِل"، والصَّحِيحُ أَنَّهُ قَدْ سُمِعَ "فاعِل" و "أَفْعِلَة" في حَرْفَيْنِ آخَرَيْنِ، وهُمَا: "جائز" و "أَجْوِزَة"، و "ناحِية" و "أَنْحِيَة". و "بِقَدَرِهَا" الباءُ: حرفُ جَرٍّ متعلقٌ بِـ "سالتْ" أَوْ بصِفَةٍ لِـ "أَوْدِيَةٌ"، و "قدَرِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجُمْلَةُ معْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَنْزَلَ" المُسْتَأْنَفَةِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا} الفاءُ: كسابِقَتِها حرْفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ. و "احْتَمَلَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، و "السَّيْلُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ. و "احْتَمَلَ" بِمَعْنَى "حَمَلَ" فـ "افْتَعَلَ" بِمَعْنَى المُجَرَّدِ. و "زَبَدًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. و "رَابِيًا" صِفَتُهُ منصوبةٌ مثله، والجُمْلَةُ مُفَرَّعَةٌ عَلى جُمْلَةِ "سالتْ" مَعْطوفةٌ عَلَيْها.
قولُهُ: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ} الواوُ: للعَطْفِ. و "مما" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بمحذوفِ خَبَرٍ مُقدَّمٍ، و "مِنْ" هنا تَحْتَمِلُ أَنْ تَكونَ لابْتِداءِ الغايَةِ، أَيْ: وِمِنْهُ يَنْشَأُ زَبَدٌ مِثْلُ زَبَدِ الماءِ. أو أَنَّها للتَّبْعيضِ، بِمَعنى: وبَعْضُهُ زَبَدٌ، و "ما" مَوصولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، أو هي نَكِرةٌ مَوْصوفةٌ. وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمَسْنَدِ إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ لِأَنَّهُ مَوْضِعُ اعْتِبَارٍ أَيْضًا بِبَدِيعِ صُنْعِ اللهِ تَعَالَى إِذْ جَعَلَ الزَّبَدَ يَطْفُو عَلَى أَرَقِّ الْأَجْسَامِ وَهُوَ الْمَاءُ وَعَلَى أَغْلَظِهَا وَهُوَ الْمَعْدِنُ فَهُوَ نَامُوسٌ مِنْ نَوَامِيسِ الْخِلْقَةِ، فَبِالتَّقْدِيمِ يَقَعُ تَشْوِيقُ السَّامِعِ إِلَى تَرَقُّبِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ. وَهَذَا الِاهْتِمَامُ بِالتَّشْبِيهِ يُشْبِهُ الِاهْتِمَامَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي وَصْفِ جَهَنَّمَ: ((فَإِذَا فِيهَا كَلَالِيبُ مِثْلُ حَسَكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ حَسَكَ السَّعْدَانِ)). وَعَدَلَ عَنْ تَسْمِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِلَى الْمَوْصُولِيَّةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا تُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ لِأَنَّهَا أَخْصَرُ وَأَجْمَعُ، وَلِأَنَّ الْغَرَضَ فِي ذِكْرِ الْجُمْلَةِ الْمَجْعُولَةِ صِلَةً، فَلَوْ ذُكِرَتْ بِكَيْفِيَّةٍ غَيْرِ صِلَةٍ كَالْوَصْفِيَّةِ مَثَلًا لَكَانَتْ بِمَنْزِلَةِ الْفَضْلَةِ فِي الْكَلَامِ وَلَطَالَ الْكَلَامُ بِذِكْرِ اسْمِ الْمَعْدِنَيْنِ مَعَ ذِكْرِ الصِّلَةِ إِذْ لَا مَحِيدَ عَنْ ذِكْرِ الْوَقُودِ لِأَنَّهُ سَبَبُ الزَّبَدِ، فَكَانَ الْإِتْيَانُ بِالْمَوْصُولِ قَضَاءً لِحَقِّ ذِكْرِ الْجُمْلَةِ مَعَ الِاخْتِصَارِ الْبَدِيعِ. وَلِأَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ ذِكْرِ اسْمِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إِعْرَاضًا يُؤْذِنُ بِقِلَّةِ الِاكْتِرَاثِ بِهِمَا تَرَفُّعًا عَنْ وَلَعِ النَّاسِ بِهِمَا فَإِنَّ اسْمَيْهِمَا قَدِ اقْتَرَنَا بِالتَّعْظِيمِ فِي عُرْفِ النَّاسِ. و "يُوقِدُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محَلِّ رفْعِ فاعِلِهِ. و "عَلَيْهِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يوقدون"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "ما" الموصولةِ فلا محلَّ لها، أَوْ هي في محلِّ الجَرِّ صِفَةٌ لَهَا. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ أيضًا بِـ "يُوقِدُونَ"، وهو قوْلُ أبي عليٍّ الفارِسيِّ والحُوفيِّ وأَبي البَقاءِ العُكْبُريِّ. أَوْ بِحالٍ مِنَ الضَّميرِ في "عَلَيْهِ"، أَيْ: كائنًا، أَوْ ثابتًا، وهو قولُ مَكِيٍّ وغَيْرِهِ، ومَنَعُوا تَعَلُّقَهُ بـ "يُوقِدُون" لأَنَّهم زَعَمُوا أَنَّهُ لا يُوْقَدُ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا وهوَ في النَّارِ، وتَعْليقُ حَرْفِ الجَرِّ بـ "يُوْقِدون" يَقْتَضي تَخْصيصَ حالٍ مِنْ حالٍ أُخْرَى. وهَذَا غَيْرُ لازِمٍ. قالَ أَبُو عَلِيٍّ: قدْ يُوْقَدُ عَلَى الشَّيْءِ وإِنْ لَمْ يَكُنْ في النَّارِ، كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ القَصَصِ: {فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ} الآية: 38، والطِّينُ لَمْ يَكُنْ فِيها، وإِنَّما يُصِيبُهُ لَهَبُها، وأَيْضًا فَقَدْ يَكونُ ذَلِكَ عَلَى سَبيلِ التَوْكيدِ كما في قولِهِ تَعَالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} الآية: 38، من سورة الأنعامِ. و "النَّارِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "ابْتِغَاءَ" مَفْعولٌ لأَجْلِهِ منصوبٌ، أَوْ أَنَّهُ مَصْدَرٌ في مَوضِعِ الحالِ، أَيْ: مُبْتَغِين حِلْية، فالحلْيَةُ ما يُتَزَيَّن به، والمَتَاع: مَا يَقْضُون به حوائِجَهم كالمَساحي من الحديد ونحوِها. وهو مُضافٌ و "حِلْيَةٍ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وهوَ مَفْعولٌ مَعْنًى. و "أَوْ" حرفُ عطفٍ، و "مَتَاعٍ" معطوفٌ عَطْفَ نَسَقٍ عَلى "حِلْيَةٍ" مَجْرورٌ مِثْلُهُ. و "زَبَدٌ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ. و "مِثْلُهُ" صِفَةٌ لِـ "زَبَدٌ" مَجْرورةٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ اِسْمِيةَّ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَنْزَلَ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ} كَذَلِكَ: الكافُ حرفُ جَرٍّ وتشبيهٍ في مَحَلِّ النَّصْبِ، أَيْ: مِثْلَ ذَلِكَ الضَّرْبِ يَضْرِبُ، وهو مُتَعَلِّقٌ بصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ أَوْ مَفْعول مُطلَق عاملُهُ يَضْرِبُ، و "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، والإشارَةُ إِلى المَذْكورِ المُتَقَدِّمِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "يَضْرِبُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، و "الْحَقَّ" مَفْعولُهُ منصوبٌ بهِ وهو عَلَى حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: مِثلَ الحَقِّ. و "وَالْبَاطِلَ" حرفُ عطفٍ ومعطوفٌ عَلى "الْحَقَّ" منصوبٌ مثلُه، والتقديرُ: يَضْرِبُ اللهُ الحَقَّ والباطِلَ ويُبَيِّنُهُما ضَرْبًا مِثْلَ ضَرْبِ الأُمُورِ الأَرْبَعَةِ: الماءِ والجَوْهَرِ والزَبَدَيْنِ، وتَبْيِينًا مِثَلَ تَبْيِينِها، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه مُستَأْنَفةٌ لا مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً} الفاءُ: تَفْريعيَّةٌ أَوْ فَصيحَةٌ؛ لأَنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ، والتَقديرُ: إِذا عَرفْتَ الأَمْثَالَ والأُمورَ المَذْكورَةَ، وأَرَدْتَ بَيانَ عاقِبَتِهَا فأقولُ لَكَ: أَمَّا الزبدُ فيذهبُ جُفاءً، و "أما" حَرْفُ شَرْطٍ وتَفْصيلٍ. و "الزَّبَدُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "فَيَذْهَبُ" الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوابِ "أَمَّا"، و "يَذْهَبُ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جَوازًا تَقديرُهُ "هوَ" يَعُودُ عَلى "الزَّبَدُ". و "جُفَاءً" مَنْصُوبٌ عَلى الحَالِ مِنْ ضَميرِ الفاعِلِ، والجُمْلَةُ الفِعلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ: جَوابُ "أَمَّا" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، وجُمْلَةُ أَمَّا في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولٌ لِجَوابِ إِذا المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الواوُ: عَاطِفَةٌ. و "أَمَّا" كسابقتِها حَرْفُ شَرْطٍ وتَفْصِيلٍ. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتَدَاءِ. و "يَنْفَعُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيه جوازًا تقديرُ (هو) يَعودُ عَلَى الاسْمِ الموصولِ "مَا"، و "النَّاسَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "مَا" الموصولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فَيَمْكُثُ" الفاءُ: عاطفَةٌ. و "يَمْكثُ": فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ عطْفًا على "ينفعُ" وإعرابُهُ مثلُ إعرابِهِ، والجملةُ مَعطوفةٌ عَلى جُملةِ الصِلَةِ، و "فِي" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ينفعُ" و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ.
قولُهُ: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثَالَ} كَذَلِكَ: تقدَّمَ إعرابُهُ آنِفًا فالكافُ حرفُ جَرٍّ وتشبيهٍ متعلِّقٌ بصِفَةٍ لِمَصْدَرٍ مَحْذوفٍ أَوْ مَفْعول مُطلَق عاملُهُ يَضْرِبُ، و "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجرِّ، والإشارَةُ إِلى المَذْكورِ المُتَقَدِّمِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. والتقديرُ: ضَرْبًا مِثلَ هَذَا الضَّرْبِ العَجِيبِ يَضْرِبُ اللهُ سُبْحانَهُ وتَعَالى أَمْثَالَ الحَقِّ والباطِلِ ويُبَيِّنُها، و "يَضْرِبُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعلٌ مرفوعٌ، و "الْأَمْثَالَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، والجملةُ الفِعْلِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسْوقَةٌ لِتَأْكِيدِ جُمْلَةِ قولِهِ: "كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ".
قرأ العامَّةُ: {بقدَرِها} بِفَتْحِ الدّالِ، وقرأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والأَشْهَبُ العَقِيلِيُّ وأَبو عَمْرٍو في رِوايةٍ "بقدْرِها" بِسُكُونِ الدالِ.
قرأ العامةُ: {توقدونَ} بِالتَّاءِ مِنْ فوق عَلَى الخِطابِ. لِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ: {أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ} الآية: 16 السابقة. وقَرَأَ الأخَوانِ وحفصٌ "يُوقِدُوْن" بالياءِ مِنْ تَحْت، أَيْ: النَّاسُ.
قرأ العامةُ: {جُفاءً}، وقَرَأَ رُؤْبَةُ بْنُ العَجَّاجِ: "جُفالاً" باللامِ، قالَ أَبو حاتمٍ: لا يُقْرَأُ بِقِراءَةِ رُؤْبَةَ، لأَنَّهُ كانَ يَأْكُلُ الفارَ. يَعْني أَنَّهُ أَعْرابيٌّ جافٍ. وقدْ تَقَدَّمَ أَثَنَى الزَمَخْشَرِيُّ عَليهِ، وذَكَرَ فَصَاحَتَهُ. وَقَدْ وَجَّهوا قراءَتَه بِأَنَّها مِنْ أَجْفَلَتِ الرِّيحُ الغَنَمَ، أَيْ: فَرَّقَتْهُ قِطَعًا فَهِيَ في المَعْنَى كقراءةِ العامَّةِ بالهَمْزَةِ. والأظهَرُ في هَمْزَةِ "جُفاءً" أَنَّها أَصْلٌ لِثُبُوتِها في تَصاريفِ هَذِهِ المادَّةِ، وقالَ أبو البَقاءِ العُكبُريُّ أنَّها بَدَلٌ مِنْ واوٍ، وفيهِ نَظَرٌ؛ لأنَّ مادَّةَ جَفَا يَجْفو لا يَلِيقُ مَعْناهَا هُنَا، والأَصْلُ عَدَمُ الاشْتِراكِ.