فيضُ العليم ... سورة الرعد، الآية: 9
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} الغيب: ما غابَ عن الحسِّ، و "الشهادة" ما هو محسوسٌ مشهودٌ، فَالْغَيْبُ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْغَائِب، والشَّهادَةِ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَشْهُودِ، أَيِ الْأَشْيَاءُ الْمَشْهُودَةُ، وَهِيَ الظَّاهِرَةُ الْمَحْسُوسَةُ، الْمَرْئِيَّاتُ وَغَيْرُهَا مِنَ الْمَحْسُوسَاتِ، فَالْمَقْصُودُ مِنَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ تَعْمِيمُ الْمَوْجُودَاتِ كَقَوْلِهِ تعالى في سُورَةِ الحاقَّةِ: {فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ * وَما لَا تُبْصِرُونَ} الآيتان: (38 و 39). وأَخرج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "عَالِمُ الْغَيْب وَالشَّهَادَة" قَالَ: السِّرُّ وَالْعَلَانِيَةُ. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يُريدُ عِلْمَ مَا غَابَ عَنْ جَميعِ خَلْقِهِ، ومَا شُهِدَ مِمَا عَلِمُوا. فَعَلى هَذا: الغَيْبُ مَصْدَرٌ يُرادُ بِهِ الغائبُ، ومِثْلُهُ الشَّهَادَةُ يُرادُ بِهِ الشّاهِدُ، ومَعْنَى قولِهِ: مَمّا عَلِمُوا: الكَثيرُ؛ لأَنَّ الكَثِيرَ مِنَ الشَّاهِدِ يَعْلَمُهُ الخَلْقُ. وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى مَوْصُوفًا بِالْعِلْمِ الْكَامِلِ وَالْقُدْرَةِ التَّامَّةِ، وَمُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ مَا لَا يَنْبَغِي، وقَدِ انْفَرَدَ تعالى بِعِلْمِ الْغَيْبِ، وَالْإِحَاطَةِ بِالْبَاطِنِ الَّذِي يَخْفَى عَلَى الْخَلْقِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ، فَأَمَّا أَهْلُ الطِّبِّ الَّذِينَ يَسْتَدِلُّونَ بِالْأَمَارَاتِ وَالْعَلَامَاتِ فَإِنْ قَطَعُوا بِذَلِكَ فَهُوَ كُفْرٌ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّهَا تَجْرِبَةٌ تُرِكُوا وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَقْدَحْ ذَلِكَ فِي الْمَمْدُوحِ، فَإِنَّ الْعَادَةَ يَجُوزُ انْكِسَارُهَا، وَالْعِلْمُ لَا يَجُوزُ تَبَدُّلُهُ. وَقَدْ قَسَّمَ الإِمَامُ الرَّازي ـ رَحِمَهُ اللهُ: الْمَعْلُومَاتُ قِسْمَيْنِ:
1 ـ الْمَعْدُومَاتُ، ومِنْهَا مَعْدُومَاتٌ يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا وَمِنْهَا مَعْدُومَاتٌ لَا يَمْتَنِعُ وُجُودُهَا.
2 ـ وَالْمَوْجُودَاتُ وهي أَيْضًا قِسْمَانِ: مَوْجُودَاتٌ يَمْتَنِعُ عَدَمُهَا، وَمَوْجُودَاتٌ لَا يَمْتَنِعُ عَدَمُهَا، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ لَهُ أَحْكَامٌ وَخَوَاصُّ، وَالْكُلُّ مَعْلُومٌ للهِ تَعَالَى.
وقالَ إِمَامُ الحَرَمَيْنِ ـ رَحِمَهُ اللهُ: للهِ تَعَالَى مَعْلُومَاتٌ لَا نِهَايَةَ لَهَا، وَلَهُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ، مَعْلُومَاتٌ أُخْرَى لَا نِهَايَةَ لَهَا، لِأَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ يَعْلَمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ يُمْكِنُ وُقُوعُهُ فِي أَحْيَازٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَمَوْصُوفًا بِصِفَاتٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا عَلَى الْبَدَلِ، وَهُوَ تَعَالَى عَالِمٌ بِكُلِّ الْأَحْوَالِ عَلَى التَّفْصِيلِ، وَكُلُّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ دَاخِلٌ تَحْتِ قَوْلِهِ تَعَالَى: "عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ".
قولُهُ: {الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} الْكَبِيرُ: الْعَظِيمُ الشَّأْنِ الَّذِي كُلُّ شَيْءٍ دُونَهُ، الذي يَصْغُرُ كُلُّ شَيْءٍ دُونَ عَظَمَتِهِ وكِبْرِيائِهِ، وهوَ الجَليلُ، ومَعْناهُ يَعودُ إِلَى كِبَرِ قَدْرِهِ واسْتِحْقاقِهِ صِفاتِ العُلُوِّ، وهُوَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبيرٍ؛ لأَنَّ كلَّ كَبيرٍ يَصْغُرُ بالإضافة إِلَيْهِ، وهوَ مَجَازٌ فِي الْعَظَمَةِ، بِحَسَبِ الْقُدْرَةِ وَالْمَقَادِيرِ الْإِلَهِيَّةِ لا بِحَسَبِ الْجُثَّةِ وَالْحَجْمِ وَالْمِقْدَارِ، وقَدْ شَاعَ اسْتِعْمَالُ أَسْمَاءِ الْكَثْرَةِ وَأَلْفَاظِ الْكِبَرِ فِي الْعَظَمَةِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ وَشَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ كَالْحَقِيقَةِ، وَهُوَ ـ سبحانَهُ، الْمُتَنَزِّهُ عَنْ كُلِّ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ، فهُوَ مُنَزَّهٌ فِي ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا عَلَى الْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ وَعَلَى الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحُوهَا وَعَلَى الْعَذَابِ الَّذِي اسْتَعْجَلُوهُ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤَخِّرُ ذَلِكَ بِحَسَبِ الْمَشِيئَةِ الْإِلَهِيَّةِ عِنْدَ قَوْمٍ وَبِحَسَبِ الْمَصْلَحَةِ عِنْدَ آخَرِينَ.
وَ "الْمُتَعَالِ" الْمُتَرَفِّعُ، الْمُسْتَعْلِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، والمُسْتَعْلي عَنْ سِمَةِ الحَوادِثِ، أَيْ الَّذِي كَبُرَ عَنْ صِفَاتِ الْمُحْدِثِينَ وَتَعَالَى عَنْهَا. وَالْمُرَادُ بِالرِّفْعَةِ هَنَا الْمَجَازُ عَنِ الْعِزَّةِ التَّامَّةِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ مَوْجُودٌ أَنْ يَغْلِبَهُ أَوْ يُكْرِهَهُ، أَوِ الْمُنَزَّهُ عَنِ النَّقَائِصِ. كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} الآية: 3، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ. وقالَ الحَسَنُ: المُتَعَالي عَمَّا يَقُولُ المُشْرِكونَ. وَقد صِيغَتِ الصِّفَةُ بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْعُلُوَّ صِفَةٌ ذَاتِيَّةٌ لَهُ لَا مِنْ غَيْرِهِ، أَيِ الرَّفِيعُ رِفْعَةً وَاجِبَةً لَهُ عَقْلًا.
قولُهُ تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} عَالِمُ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: (هو) وهو مُضافٌ، و "الغَيْبِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "والشَّهَادَةِ" حرفُ عطفٍ ومعطوفٌ عَلَى "الْغَيْبِ" مجرورٌ مِثلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "الْكَبِيرُ" صِفَةٌ لِـ "عَالِمُ الْغَيْبِ"، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ محْذوفٍ. و "الْمُتَعَالِ" صِفَةٌ لِـ "الْكَبِيرُ" مرفوعٌ، وعلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى الياءِ المَحْذوفَةِ للوَقْفِ؛ لأَنَّه رَأْسُ آيَةٍ، وقد حُذِفَتْ في الخَطِّ تَبَعًا للَّفْظِ. ويَجوزُ أَنْ يَكونَ "عالمُ" مُبْتَدَأً وَخَبَرُهُ "الكبيرُ المُتَعال".
قرَأَ الجُمهورُ: {عَالِمُ الغَيْبِ} وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: "عَالِمَ" بِالنَّصْبِ على المَدْحِ.
قرأَ العامَّةُ: {المُتَعَال} بحذْفِ الياءِ وصْلًا ووقفًا، لِأَنَّهَا كَذَلِكَ رُسِمَتْ فِي الْخَطِّ. وَاسْتَشْهَدَ سِيبَوَيْهِ بِحَذْفِهَا فِي الْفَوَاصِلِ وَمِنَ الْقَوَافِي، قالَ في (الكتاب: 2/288، بابُ مَا يُحْذَفُ مِنْ أَوَاخِرِ الأَسْماءِ في الوَقْفِ وَهِيَ اليَاءاتُ): (إِذا لم يَكُنْ في مَوْضِعِ تَنْوينٍ، فإنَّ البَيَانَ أَجْوَدَ في الوَقْفِ، نَحْوَ قَوْلِكَ: هَذا القاضي؛ لأَنَّها ثابِتَةٌ في الوَصْلِ). يُريدُ أَنَّ اللامَ (لامَ الفِعْلِ وَهِيَ هُنَا الياءُ) مَعَ الأَلِفِ واللامِ تَثْبُتُ ولا تُحْذَفُ، كَمَا تُحْذَفُ إِذا لَمْ يَكُنْ فِيهِ الأَلِفُ واللامُ، نَحْوَ: هَذا قَاضٍ، والياءُ مَعَ غَيْرِ الأَلِفِ واللامِ تُحْذَفُ في الوَصْلِ، فإذا حُذِفَتْ في الوَصْلِ كانَ القِياسُ أَنْ تُحْذَفَ في الوَقْفِ، وهيَ اللُّغَةُ التي هِيَ أَشْيَعُ وأَفْشَى، وأَمَّا إِذا دَخَلَتِ الأَلِفُ واللامُ، فلا تُحْذَفُ اللامُ في اللُّغَةِ التي هِيَ أَكْثَرُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ. فأَمَّا مَنْ حَذَفَ فِي الوَصْلِ والوَقْفِ، فقد زَعَمَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ مِنَ العَرَبِ مَنْ يَحْذِفُ هذا في الوَقْفِ، يُشَبِّهُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ أَلِفٌ ولامٌ، إِذْ كانَتْ تَذْهَبُ الياءُ في الوَصْلِ في التَنْوينِ، لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ أَلِفُ ولامٌ، وهَذا في الوَقْفِ، وأَمَّا فِي الوَصْلِ فَكانَ القِياسُ أَنْ لا تُحْذَفَ؛ لأَنَّهُ لَمْ يُوجِبْ حَذْفَ شَيْءٍ، غَيْرَ أَنَّ الفَوَاصِلَ تُشْبِهُ القَوافي. وَأَجَازَ غَيْرُ سيبويْهِ حَذْفَهَا مُطْلَقًا. وَوَجْهُ حَذْفِهَا مَعَ أَنَّهَا تُحْذَفُ مَعَ التَّنْوِينِ، وَإِنْ تَعَاقَبَ التَّنْوِينُ، فَحُذِفَتْ مَعَ الْمُعَاقَبِ إِجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْمُعَاقَبِ. وَأَثْبَتَها ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو فِي رِوَايَةٍ: وَقْفًا وَوَصْلًا، وَهُوَ الْكَثِيرُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ.