فيض العليم ... سورة الرعد، الآية: 15
وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ
(15)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ عِبَادَهُ عَنْ عَظَمَةِ ذاتِهِ، وعَظيمِ سُلْطَانِهِ عَلَى خَلْقِهِ، الذي قَهَرَ كُلَّ شَيْءٍ، ودَانَ لَهُ كُلُّ شَيْءٍ. فَإِنَّ جَميعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مِنَ الْمُؤْمِنُينَ وَالْمَلَائِكَةِ يَسْجُدُونَ للهِ تَعَالَى سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وهذا مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وقد عُطِفَ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ تَعَالى في الآيَةِ التي قَبْلَهَا مِنَ السورةِ ذاتِها: {لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ}، أَيْ: لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ، وَلَهُ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، فَأَمَّا الدَّعْوَةُ فَقَدِ اخْتَصَّ بِالْحَقَّةِ مِنْهَا دُونَ الْبَاطِلَةِ، وَأَمَّا السُّجُودُ وَهُوَ الْهَوِيُّ إِلَى الْأَرْضِ بِقَصْدِ الْخُضُوعِ فَقَدِ اخْتَصَّ اللهُ بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لِأَنَّ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْيَا وَالْمُؤْمِنِينَ بِاللهِ كلَّهم يَسْجُدُونَ لَهُ ـ جَلَّ وعَلَا، وَلَعَلَّ المُشرِكينَ يَسْجُدُونَ للهِ تَعَالَى فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
قولُهُ: {طَوْعًا وَكَرْهًا} أَيْ أنَّ كُلُّ شَيْءٍ مِنَ المَلائكةِ والمُؤْمِنينَ، يَسْجُدُ لَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، طَوْعًا. أمَّا المُشْرِكِونَ والمنافينَ، فإنَّهم يسجدونَ له ـ سبحانَه، كَرْوا بالسَّيْفِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ طَوْعاً وَكَرْهاً تَقْسِيمُ أَحْوَالِ السَّاجِدِينَ. وَالْمُرَادُ بِالطَّوْعِ الِانْسِيَاقُ مِنَ النَّفْسِ تَقَرُّبًا وَزُلْفَى لِمَحْضِ التَّعْظِيمِ وَمَحَبَّةِ اللَّهِ. وَبِالْكُرْهِ الِاضْطِرَارُ عِنْدَ الشِّدَّةِ وَالْحَاجَةِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ} سُورَة النَّحْل: 53. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: مُكْرَهٌ أَخُوكَ لَا بَطَلٌ، أَيْ مُضْطَرٌّ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ الْكُرْهِ الضَّغْطَ وَالْإِلْجَاءَ كَمَا فَسَّرَ بِهِ بَعْضُهُمْ فَهُوَ بَعِيدٌ عَنِ الْغَرَضِ كَمَا سَيَأْتِي.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي الْمُرَادِ بِهذا السُجُودِ، فَقالوا: أمَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمَلَائِكَةُ فيَسْجُدُونَ للهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَذلكَ بوَضْعِ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ، وإنَّما يَفْعَلُونَ ذَلِكَ طَوْعًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقِونَ فَيَسْجُدُونَ للهِ تعالى كَرْهًا، ذلكَ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ فِي الْبَاطِنِ، وَلَا يَسْجُدُونَ للهِ إِلَّا كَرْهًا، كَمَا قَالَ فيهم، سُبْحانَهُ وتَعَالَى في الآية: 142، مِنْ سُورةِ النِّساءِ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ ولا يَذْكُرونَ اللهَ إِلَّا قليلًا} الْآيَةَ: (4/142)، وَقَالَ في الآيةِ: 54، مِنْ سُورةِ التَوْبَةِ: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ}، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ سُجُودَ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الآية: 18، مِنْ سُورَةِ الْحَجِّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ}، فَقَوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ بَعْضَ النَّاسِ غَيْرُ دَاخِلٍ فِي السُّجُودِ الْمَذْكُورِ، وَهَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ البَصْريِّ، وَقَتَادَةَ ـ رضيَ اللهُ تعالى عنهُما، وَغَيْرِهِمَا. أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قال: "وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وظِلالُهم بالغُدُوِّ وَالْآصَالِ" قَالَ: ظِلُّ الْمُؤْمِنِ يَسْجُدُ طَوْعًا، وَهُوَ طائعٌ للهِ، وظِلُّ الْكَافِرِ يَسْجُدُ "كَرْها" وَهُوَ كَارِهٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْن، أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا} قَالَ: أَمَّا الْمُؤمِنُ فَيَسْجُدُ طَائِعًا وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيَسْجُدُ كَارِهًا، يَسْجُدُ ظِلُّهُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: الطائعُ الْمُؤمِنُ والكارِهُ ظِلُّ الْكَافِرِ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ فِي الْآيَةِ قَالَ: يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ طَوْعًا وَمَنْ فِي الأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: مَنْ دَخَلَ طَائِعًا، هَذَا طَوْعًا، وَكَرْهًا: مَنْ لَمْ يَدْخُلْ إِلَّا بِالسَّيْفِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ مُنْذِرٍ، قَالَ: كَانَ رَبِيعُ بِنُ خَيْثَمٍ إِذا سَجَدَ فِي سَجْدَةِ الرَّعْدِ قَالَ: بَلْ طَوْعًا يَا رَبَّنَا. وَذَكَرَهُ الْفَرَّاءُ، وَقِيلَ الْآيَةُ عَامَّةٌ. وَالْمُرَادُ بِسُجُودِ الْمُسْلِمِينَ طَوْعًا انْقِيَادُهُمْ لِمَا يُرِيدُ اللهُ مِنْهُمْ طَوْعًا، وَالْمُرَادُ بِسُجُودِ الْكَافِرِينَ كَرْهًا انْقِيَادُهُمْ لِمَا يُرِيدُ اللهُ مِنْهُمْ كَرْهًا، لِأَنَّ إِرَادَتَهُ نَافِذَةٌ فِيهِمْ، وَهُمْ مُنْقَادُونَ إليهِ تعالى، خَاضِعُونَ لِصُنْعِهِ فِيهِمْ وَنُفُوذِ مَشِيئَتِهِ، وَأَصْلُ السُّجُودِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ: الذُّلُّ وَالْخُضُوعُ، وَمِنْهُ قَوْلُ زِيدِ الْخَيْرِ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ:
بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حُجُرَاتِهِ ......... تَرَى الْأَكَمَ فِيهَا سُجَّدًا لِلْحَوَافِرِ
وَمِنْهُ قَوْلُ الْعَرَبِ: أَسْجَدَ: إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ وَانْحَنَى، قَالَ حُمَيْدُ بْنُ ثَوْرٍ الشاعر:
فَلَمَّا لَوَيْنَ عَلَى مِعْصَمٍ ........................ وَكَفٍّ خَضِيبٍ وَأَسْوَارِهَا
فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسْجَدَتْ ..................... سُجُودَ النَّصَارَى لِأَحْبَارِهَا
وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالسُّجُودُ لُغَوِيٌّ لَا شَرْعِيٌّ، وَهَذَا الْخِلَافُ الْمَذْكُورُ جَارٍ أَيْضًا فِي سُجُودِ الظِّلَالِ، فَقِيلَ: سُجُودُهَا حَقِيقِيٌّ، وَاللهُ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لَهَا إِدْرَاكًا تُدْرِكُ بِهِ وَتَسْجُدُ للهِ بِهِ سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَقِيلَ: سُجُودُهَا مَيْلُهَا بِقُدْرَةِ اللهِ أَوَّلَ النَّهَارِ إِلَى جِهَةِ الْمَغْرِبِ، وَآخِرَهُ إِلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَادَّعَى مَنْ قَالَ هَذَا أَنَّ الظِّلَّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ لِأَنَّهُ خَيَالٌ فَلَا يُمْكِنُ مِنْهُ الْإِدْرَاكُ. فَإِنَّ اللهَ ـ جَلَّ وَعَلَا قَادِرٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ لِلظِّلِّ إِدْرَاكًا يَسْجُدُ بِهِ للهِ تَعَالَى سُجُودًا حَقِيقِيًّا، وَالْقَاعِدَةُ الْمُقَرَّرَةُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ هِيَ: حَمْلُ نُصُوصِ الْوَحْيِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إِلَّا بِدَلِيلٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ الْقَوْلَيْنِ:
أَنَّ أَحَدَهُمَا: أَنَّ السُّجُودَ شَرْعِيٌّ وَعَلَيْهِ فَهُوَ فِي أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ السُّجُودَ لُغَوِيٌّ بِمَعْنَى الِانْقِيَادِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ، وَعَلَيْهِ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى عُمُومِهِ، وَالْمُقَرَّرُ فِي الْأُصُولِ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَالْحَنَابِلَةِ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّ النَّصَّ إِنْ دَارَ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْحَقِيقَةِ اللُّغَوِيَّةِ حُمِلَ عَلَى الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ التَّحْقِيقُ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي تَقْدِيمِ اللُّغَوِيَّةِ، وَلِمَنْ قَالَ يَصِيرُ اللَّفْظُ مُجْمَلًا لِاحْتِمَالِ هَذَا وَذَاكَ، وَعَقَدَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ سَيِّدِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ حاجَ إِبْراهيم، صَاحِبُ (مَرَاقِي السُّعُودِ) بِقَوْلِهِ:
وَاللَّفْظُ مَحْمُولٌ عَلَى الشَّرْعِيِّ .............. إِنْ لَمْ يَكُنْ فَمُطْلَقُ الْعُرْفِيِّ
فَاللُّغَوِيُّ عَلَى الْجَلِيِّ وَلَمْ يَجِبْ بَحْثٌ عَنِ الْمَجَازِ فِي الَّذِي انْتُخِبْ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِسُجُودِ الْكُفَّارِ كَرْهًا سُجُودُ ظِلَالِهِمْ كَرْهًا، وَقِيلَ: الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ فَبَعْضُهُمْ يَسْجُدُ طَوْعًا، لِخِفَّةِ امْتِثَالِ أَوَامِرِ الشَّرْعِ عَلَيْهِ، وَبَعْضُهُمْ يَسْجُدُ كَرْهًا، لِثِقَلِ مَشَقَّةِ التَّكْلِيفِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ إِيمَانَهُ يَحْمِلُهُ عَلَى تَكَلُّفِ ذَلِكَ. وَاللهِ أَعلَم.
قولُهُ: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} يَعْنِي: أَنَّ ظَلالَ السَّاجِدينَ للهِ تَعالى، طَوْعًا وكَرْهًا، تَسْجُدُ لَهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَيضًا طَوْعًا. قالَ مُجاهِدٌ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ: ظِلُّ المُؤْمِنِ يَسْجُدُ طَوْعًا وهوَ طائعٌ، والكافِرِ يَسْجُدُ ظِلُّهُ للهِ طَوْعًا وهُوَ كَارِهٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ: "وظِلالُهُم بالغُدُوِّ وَالْآصَالِ" يَعْنِي حِينَ يَفِيءُ ظِلُّ أَحَدِهم عَنْ يَمِينِهِ أَو شِمَالِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنْ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وظِلالُهُمْ بِالغُدُوِّ وَالْآصَالِ" قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ ظِلالَ الْأَشْيَاءِ كُلِّهَا تَسْجُدُ للهِ، وَقَرَأَ: {سُجَّدًا للهِ وَهُمْ داخِرُونَ} الآية: 48، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ، قَالَ: تِلْكَ الظلال تسْجُدُ للهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وظِلالُهم بالغُدُوِّ وَالْآصَالِ" قَالَ: ظِلُّ الْكَافِرِ يُصَلِّي، وَهُوَ لَا يُصَلِّي. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: إِذا طَلَعَتِ الشَّمْسُ يَسْجُدُ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ نَحْوَ الْمَغْرِبِ، فَإِذا زَالَتِ الشَّمْسُ سَجَدَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ نَحْوَ الْمَشْرِقِ حَتَّى تَغيب. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ "وَظِلالُهُمْ" قَالَ: أَلَا تَرَى إِلَى الْكَافِرِ فَإِنَّ ظِلالَهُ جَسَدُهُ كُلُّهُ أَعْضاؤُهُ مُطِيعَةٌ للهِ غيرَ قَلْبِهِ. وقالَ الواحِدِيُّ: كُلُّ شَخْصٍ مُؤْمِنٍ أَوْ كافِرٍ ظِلُّهُ يَسْجُدُ للهِ تَعَالى. وَقالَ القُشَيْرِي: ذَلِكَ سُجُودُ شَهَادَةٍ، لا سُجُود عِبَادَةٍ، فإِنِ امْتَنَعَ مِنْ إِقامَةِ الشَّهَادَةِ قِوْمٌ قالَةً فَقَدْ شَهِدَ كُلُّ جِزْءٍ مِنْهم مِنْ حَيْثُ البُرْهانِ والدَّلالَةِ، فَكُلُّ مَخْلوقٍ مِنْ عَيْنٍ وأَثَرٍ، حَجَرٍ ومَدَرٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فمِنْ حَيْثُ البُرهانِ للهِ ساجِدٌ، وَمِنْ حَيْثُ البَيَانِ للواحِدِ شَاهِدٌ. وقالَ تَعَالى في الآيةِ: 48، مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ}. وقِيلَ: ظِلالُهم، أَيْ: أَشْخَاصُهم، بالغُدُوِّ والآصالِ، أَيْ: بالبُكَرِ والعَشَايا. وقِيلَ: سُجُودُ الظِّلِّ تَذْليلُهُ لِمَا أُرِيدَ لَهُ. وقد خُصَّ هَذانِ الوَقْتَانِ ـ وإِنْ كانَ سُجُودُهُما دائمًا، لأَنَّ الظَّلالَ إِنَّما تَعْظُم وتَكْبَرُ فيهِما.
و "الغُدوِّ" البُكْرُ، وهوَ الزَّمَانُ الَّذِي يَغْدُو فِيهِ النَّاسُ، أَيْ يَخْرُجُونَ إِلَى حَوَائِجِهِمْ أَوَّلَ النَّهارِ، وهو إِمَّا مَصْدَرٌ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ، أَيْ وَقْتُ الْغُدُوِّ وَإِمَّا جَمْعُ غَدْوَةٍ، فَقَدْ حُكِيَ جَمْعُهَا عَلَى غُدُوٍّ، وَتَقَدَّمَ فِي آخِرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ.
و "الآصالِ" جَمْعُ "أُصُلٍ"، وهُوَ آخِرُ النَّهَارِ، أَيْ مَا بَيْنَ العَصْرِ إِلى غُروبِ الشَّمٍسِ مِنْ كلِّ يَوْمٍ. فَالْآصَالُ: جَمْعُ أَصِيلٍ، وَهُوَ وَقْتُ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ فِي آخِرِ الْمَسَاءِ، وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذِكْرِهِمَا اسْتِيعَابُ أَجْزَاءِ أَزْمِنَةِ الظِّلِّ.
ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ "بِالْغُدُوِّ" مَصْدَرًا، ويُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ جَمْعَ غَدَاةٍ، وَ "الْآصَالِ" جَمْعُ أُصُلٍ بِضَمَّتَيْنِ وَهُوَ جَمْعُ أَصِيلٍ، وَهُوَ مَا بَيْنَ الْعَصْرِ وَالْغُرُوبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيِّ:
لَعَمْرِي لَأَنْتَ الْبَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ............. وَأَقْعُدُ فِي أَفْيَائِهِ بِالْأَصَائِلِ
وَالظِّلَالُ: جَمْعُ ظِلٍّ، وَهُوَ صُورَةُ الْجِسْمِ الْمُنْعَكِسِ إِلَيْهِ نُورٌ. وَالضَّمِيرُ رَاجِعٌ إِلَى مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَخْصُوصٌ بِالصَّالِحِ لَهُ مِنَ الْأَجْسَامِ الْكَثِيفَةِ ذَاتِ الظِّلِّ تَخْصِيصًا بِالْعَقْلِ وَالْعَادَةِ، وَهُوَ عَطْفٌ عَلَى مَنْ، أَيْ يَسْجُدُ من فِي السَّمَوَات وَتَسْجُدُ ظِلَالُهُمْ.
وَمَعْنَى سُجُودِ الظِّلَالِ أَنَّ اللهَ خَلَقَهَا مِنْ أَعْرَاضِ الْأَجْسَامِ الْأَرْضِيَّةِ، فَهِيَ مُرْتَبِطَةٌ بِنِظَامِ انْعِكَاسِ أَشِعَّةِ الشَّمْسِ عَلَيْهَا وَانْتِهَاءِ الْأَشِعَّةِ إِلَى صَلَابَةِ وَجْهِ الْأَرْضِ حَتَّى تَكُونَ الظِّلَالُ وَاقِعَةً عَلَى الْأَرْضِ وُقُوعَ السَّاجِدِ، فَإِذَا كَانَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَأْبَى السُّجُودَ للهِ أَوْ يَتْرُكُهُ اشْتِغَالًا عَنْهُ بِالسُّجُودِ لِلْأَصْنَامِ فَقَدْ جَعَلَ اللهُ مِثَالَهُ شَاهِدًا عَلَى اسْتِحْقَاقِ اللهِ السُّجُودَ إِلَيْهِ شَهَادَةً رَمْزِيَّةً. وَلَوْ جَعَلَ اللهُ الشَّمْسَ شَمْسَيْنِ مُتَقَابِلَتَيْنِ عَلَى السَّوَاءِ لَانْعَدَمَتِ الظِّلَالُ، وَلَوْ جَعَلَ وَجْهَ الْأَرْضِ شَفَّافًا أَوْ لَامِعًا كَالْمَاءِ لَمْ يظْهر الظل عَلَيْهِ بَيِّنًا. ونقلَ الشيخُ أبو حيَّانٍ الأندلسُيُّ عَنِ الفَرَّاءِ: الظِلُّ في الأَصْلِ مَصْدَرٌ، ثمَّ أُطْلِقَ علَى الخَيالِ الذي يَظهَرُ للجُرْمِ طُولُهُ بِسَبَبِ انْخِفاضِ الشَّمْسِ، وقِصَرُهُ بِسَبَبِ ارْتِفاعِهَا، فهوَ مُنْقادٌ للهِ تَعَالى في طُولِهِ وقِصَرِهِ، ومَيْلِهِ مِنْ جانِبٍ. ثمَ قالَ: والحاصِلُ أَنَّها جَارِيَةٌ عَلى مُقْتَضَى إِرادَتِهِ تَعَالى ومَشِيئَتِهِ، مِنَ الامْتِدادِ والتَقَلُّصِ، والفَيْءِ والزَّوالِ. فَهَذَا مِنْ رُمُوزِ الصَّنْعَةِ الَّتِي أَوْجَدَهَا اللهُ وَأَدَقَّهَا دِقَّةً بَدِيعَةً. وَجَعَلَ نِظَامَ الْمَوْجُودَاتِ الْأَرْضِيَّةِ مُهَيَّئَةً لَهَا فِي الْخِلْقَةِ لِحِكَمٍ مُجْتَمِعَةٍ، مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ رُمُوزًا دَالَّةً عَلَى انْفِرَادِهِ تَعَالَى بِالْإِلَهِيَّةِ، وَعَلَى حَاجَةِ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَيْهِ، وَجَعَلَ أَكْثَرَهَا فِي نَوْعِ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ نَوْعَهُ مُخْتَصٌّ بِالْكُفْرَانِ دُونَ الْحَيَوَانِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَللهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. "للهِ" جرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسْجُدُ"، ولفظُ الجلالةِ "الله" اسمٌ مَجْرورٌ بهِ. و "يَسْجُدُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، و "مَنْ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرَّفْعِ فاعِلٌ بهِ، والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِلَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ "مَنْ"، و "السَّمَاوَاتِ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "وَالْأَرْضِ" حَرْفُ عَطْفٍ، و "الأرضِ" اسْمٌ مَعْطوفٌ عَلى "السَّمَاوَاتِ" مجرورٌ مثلُهُ.
قولُهُ: {طَوْعًا وَكَرْهًا} حالانِ مِنْ "مَنْ" المَوْصُولَةِ، ولكنَّهُ في تَأْويلِ مُشْتَقٍّ؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهْمْ طائِعينَ ورَاضِينَ بالسُّجُودِ، وحالَ كَوْنِهِم كَارِهِينَ؛ أَيْ: غَيْرَ رَاضينَ بِهِ. ويَجُوزُ أنْ يكونَ مَفعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، ويجوزُ أنْ يكونَ نَصْبًا عَلَى المَصْدَرِ المُؤَكِّدِ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ.
قولُهُ: {وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ} وَظِلَالُهُمْ: مَعْطُوفٌ عَلَى "مَنْ" المَوْصُولَةِ. و "بِالْغُدُوِّ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ بمعنى "في" الظَّرْفِيَّةِ أي: في هذين الوقتين، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسْجُدُ"، و "الغُدُوِّ" مَجْرُورٌ بهِ. و "وَالْآصَالِ" حرفُ عطفٍ و "الآصالِ" معطوفٌ عَلَى "الغدوِّ" مجرورٌ مثله.
قرأَ الجمهورُ: {الْآصَالِ}، وقرَأَ أَبو مِجْلَزٍ: و "الإِيصالِ" بالياءِ قَبْل الصَّادِ. وخَرَّجَها ابْنُ جِنِّيٍّ عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرُ "آصَلَ" ك "ضارَبَ"، أَيْ: دَخَلَ في الأَصِيلِ، كَأَصْبَحَ، أَيْ: دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ.