فيض العليم ... سورة الرعدِ الآية: 23
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} جَنَّاتُ عَدْنٍ: جَنَّاتُ إِقامَةٍ. قالَ ابْنُ مَسْعودٍ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُ: "جَنَّاتُ عَدْنٍ" بُطنانُ الجَنَّةِ، أي: وَسَطُها، وبُطْنانُ الأَوْدِيَةِ: المَواضِعُ التي يَسْتَنْقِعُ فِيها مَاءُ السَّيْلِ فَيَكْرُمُ نَبَاتُها، واحِدُها بَطْنٌ. وقالَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: هِيَ وَسَطُ الجَنَّةِ وقَصَبَتُها، مُسانَدَةً بِعَرْشِ الرَّحْمَنِ، غَرَسَها الرَّحْمَنُ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، بِيَدِهِ. ورَوى عَطاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أنَّهُ قال: هِيَ قَصَبَةُ الجَنَّةِ، وسَقْفُها عَرْشُ الرَّحمن. وقالَ الضَّحَاكُ: هِيَ مَدينَةُ الجَنَّةِ، وفِيها الرُّسُلُ والأَنْبياءُ والشُهَداءُ وأَئِمَّةُ الهُدَى، والنَّاسُ حوْلَهم بَعْدُ، والجَنَّاتُ حوْلَها. وقالَ مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ: عَدْنُ: أَعْلَى دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ، وفِيها عَيْنُ التَسْنيمِ، والجِنانُ حَوْلَها مُحْدِقَةٌ بِها، وهِيَ مُغَطَّاةٌ مِنْ يَوْمِ خَلَقَها اللهُ حَتَى يَنْزِلَهَا أَهْلُها الأَنْبِياءُ والصِّدِّيقونَ والشُهَداءُ والصَّالِحُونَ، وفيها قُصُورُ الدُرِّ والياقوتِ والذَّهَبِ، فَتَهُبُّ رِيحٌ طَيِّبَةٌ مِنْ تَحْتِ العَرْشِ فَتَدْخُلُ عَلَيْهم كُثْبانُ المِسْكِ الأَبْيَضِ. وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ العاصِ ـ رضي اللهُ عنهما: إِنَّ في الجَنَّةِ قَصْرًا يُقالُ لَهُ: عَدْن، حَوْلَهُ البُروجُ والمُروجُ، لَهُ خَمْسَةُ آلافِ بابٍ، عَلَى كُلِّ بابٍ خَمْسَةُ آلافِ حِبْرَةٍ (بُردةٌ يَمانيَّةٌ)، لا يَدْخُلُهُ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ. أخرجه ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ.
فَعَلَى قَوْلِ المُفَسِّرينَ وأَهْلِ الأَثَرِ: جَنَّاتُ عَدْنٍ مَخْصوصَةٌ مِنْ سائرِ الجَنَّاتِ، كَمَا ذَكَرْنَا، وعَلى قولِ أَهْلِ اللُّغَةِ: هِيَ عامَّةٌ؛ لأَنَّ الجَنَّاتِ كُلُّها جَنَّاتُ إِقامَةٍ، إِذْ أَهْلُها مُخَلَّدونَ فِيها لا يَظْعَنُونَ عَنْها.
ويُقالُ: عَدَنَ فُلانٌ بِالمَكانِ، أيْ: أَقامَ بِهِ يَعْدِنُ عُدُونًا، والعَرَبُ تقولُ: تَرَكْتُ الإِبِلَ عَوادِنَ بِمَكانِ كَذَا، إذا لَزِمَتِ الإبِلُ ذلكَ المَكانَ وأَلِفَتْهُ فلمْ تَبْرَحْهُ، ومِنْهُ (المَعْدِنُ) لإنْباتِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، الجَوْهَرَ فِيهِ، وإِنْباتِهِ إِيَّاهُ في الأَرْضِ حَتَّى عَدَنَ (ثَبَتَ) فِيها.
قولُهُ: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} بُشْرَى مِنَ اللهِ تَعَالى لِمَنْ كَانَ لَهُ سَلَفٌ صَالِحٌ، أَوْ خَلَفٌ صَالِحٌ، أَوْ زَوْجٌ صَالِحٌ، مِمَّنْ تَحَقَّقَتْ فِيهم تِلْكَ الصَّفاتُ سالفةُ الذكرِ أَنَّهُ إِذَا صَارَ إِلَى الْجَنَّةِ لَحِقَ بِصَالِحِ أُصُولِهِ أَوْ فَرُوعِهِ أَوْ زَوْجِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 21، من سورةِ الطور: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}. وقال: "آبَائهم" عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ كَمَا قَالُوا: الْأَبَوَيْنِ، فهو يشملُ الأمَّهاتِ أَيْضًا.
قولُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} وَفي هَذَا تكْريمٌ لهُمْ وتَنْوِيهٌ بِهِمْ، لأَنَّ تَرَدُّدَ الملاكةِ عَلَيْهِمْ هو لا شكَّ بأمرِ ربهم، مرسلينَ منه سبحانه، وهو مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ إِكْرَامِهِ تعالى لهم. وَ "مِنْ كُلِّ بابٍ" كِنَايَةٌ عَنْ كَثْرَةٍ غِشْيَانِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُمْ بِحَيْثُ لَا يَخْلُو بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ بُيُوتِهِمْ لَا تَدْخُلُهُ المَلَائِكَةُ. ولَمَّا كَانَ هَذَا الدُّخُولُ مَجْلَبَةً للسُرورِ فقد كَانَ كَثِيرًا مُتَكَرِّرًا فِي الْأَمْكِنَةِ والْأَزْمِنَةِ لِأَنَّهُمْ مَا دَخَلُوا مِنْ كُلِّ بَابٍ إِلَّا لِأَنَّ كُلَّ الأَبوابِ مَشْغُولةٌ بِطَائِفَةٍ مِنْهُمْ.
قولُهُ تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} جَنَّاتُ: خَبَرٌ مرفوعٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَقْديرُ: هِيَ جَنَّاتُ عَدْنٍ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلًا مِنْ جملةِ قولِهِ: {عُقْبَى الدَّارِ} منَ الآيةِ السابقةِ لها، أَوْ عَطْفَ بَيَانٍ مِنْها، وأَنْ تكونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، وأَنْ تَكونَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ "يَدْخُلونها" وتَحْتمِلُ الاستئنافَ أَيضًا، وهو مضافٌ، و "عَدْنٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "يَدْخُلُونَهَا" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ: وواوُ الجماعةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِه، و "ها" ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، والجملةُ في مَحَلِّ الرَّفعِ صِفَةً لِـ "جَنَّاتُ"، ولَكِنَّها جُمْلَةٌ سَبَبِيَّةٌ، أَوْ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ جَنَّاتِ فَهُوُ مُضَافٌ.
قولُهُ: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ}الواو: واوُ المَعِيَّةِ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ عَطْفًا عَلَى ضميرِ الفاعلِ فِي "يَدْخُلُونَهَا"، وإنَّمَا ساغَ العَطْفُ بِلا تَوْكيدٍ، لِوُجودِ الفَصْلِ بالضَّميرِ المَنْصوبِ، فَقَدْ أَغْنَى الفَصْلُ بالمَفْعُولِ عَنِ التَأْكيدِ بالضَّميرِ المُنْفَصِلِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ في مَحلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِ مَعَهُ، وَهوَ مَرْجُوحٌ. و "صَلَحَ" فعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "مَنْ"، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ لبيانِ الجنسِ، متعلِّقٌ بحالٍ مِنْ فاعِلِ "صَلَحَ"، و "آبَائِهِمْ" مَجرورٌ بحرفِ الجرِّ مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليْهِ، والميمُ للجمعِ المذكَّرِ. و "وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ" مَعْطُوفانِ عَلَى "آبَائِهِمْ" ولهما مثل إعرابِهِ.
قولُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ} الواوُ: للاستِئْنَافِ، وَ "الْمَلَائِكَةُ" مَرفوعٌ بالابتِداءِ. و "يَدْخُلُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ تقدمَ إعرابُهُ آنفًا وفاعِلُهُ. و "عَلَيْهِمْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، والهاءُ: مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ، و "مِنْ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ أيضًا، و "كلِّ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ مضافٌ. و " بَابٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إليه. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرَأَ الجُمهورُ: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بالجمعِ، وقَرَأَ ابراهيمُ النَّخَعِيُّ: "جنَّةُ عدنٍ" بالإِفرادِ.
قرأ الجمهور: {صلَحَ} بفتحِ اللامِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ "صَلُحَ" بِضَمِّها، وهِيَ لُغَةٌ مَرْجُوحَةٌ.
قرأ الجمهورُ: {وذُريَّاتِهم} بالجمعِ، وَقَرَأَ عِيْسَى الثَّقَفِيُّ: و "ذُريَّتِهم" بالإفرادِ.