فيض العليم ... سورة الرعد، الآية: 26
اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} الْبَسْطُ: مُسْتَعَارٌ لِلْكَثْرَةِ وَلِلدَّوَامِ. وَالْقَدْرُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْقِلَّةِ. أَيْ: إِنَّ الله ـ سُبْحانَهُ وتعالى، هو الذي يُوَسِّعُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَهو الذي يُقَتِّرُ (يقدِرُ) رزقَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبادِهِ، فَإِذَا كَانَ هَؤُلاَءِ المُشْرِكُونَ يَسْتَعْلُونَ، بِأَمْوَالِهِمْ، عَلَى المُسْلِمِينَ الفُقَرَاءِ، فَلْيَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ هُوَ الذِي يَبْسُطُ الرِّزْقَ وَيُوسِعُهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَيُقَتِّرُ الرِّزْقَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنَ الحِكْمَةِ والعَدْلِ، لِحِكْمَةٍ مُتَّصِلَةٍ بِأَسْبَابِ الْعَيْشِ فِي الدُّنْيَا، وَلِذَلِكَ اتِّصَالٌ بِحَالِ الْكَرَامَةِ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ. وَلِذَلِكَ جَاءَ التَّعْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: "لِمَنْ يَشاءُ"، وَمَشِيئَتُهُ تَعَالَى وَأَسْبَابُهَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهَا أَحَدٌ. ثمَّ إِنَّ سَعَةَ الرِّزْقِ لبعضِ الكافرينَ لَيْسَ تَكْريمًا لَهُمْ، كَمَا أَنَّ التَضْييقَ على بَعْضِ المُؤْمِنينَ في الرِّزْقِ لَيْس إِهانةً لَهُمْ، وإِنَّما كُلٌّ مِنَ الأَمْرَيْنِ صَادِرٌ مِنْهُ تَعَالى لِحِكَمٍ إِلَهِيَّةٍ يَعْلَمُها ـ سُبْحانَهُ، وربَّما وَسَّعَ عَلَى الكافِرِ إِمْلاءً واسْتِدْراجًا لَهُ، وضَيَّقَ عَلَى المُؤْمِنِ زِيادَةً لهُ في الأَجْرِ. وقِيلَ: المَعْنَى أَنَّهُ ـ سبحانَهُ، يُعْطِي كُلًّا مِنْ خلقِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، والمُرادُ بالرِّزْقُ هُنَا الدُنْيَوِيُّ وحسْبُ لأنَّهُ المناسِبُ للسياقِ. وقِيلَ: إِنَّهُ شَامِلٌ للرِّزْقَيْنِ معًا الحِسِّيِّ والمَعْنَوِيِّ، الدُنْيَوِيِّ والأُخْرَوِيِّ.
قولُهُ: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} وفَرِحَ هؤلاءِ الكُفَّارُ بِمَا آتاهُمُ اللهُ تعالى في حياتِهِمُ الدُنْيَا إمهالًا لَهُمْ منهُ سُبْحانَهُ واسْتِدْراجًا كَمَا جاءَ في سُورَةِ (المُؤْمِنُونَ) قولُهُ تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ} الآيتانِ: (55) و (56).
قولُهُ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} تحْقيرٌ منهُ تعالى لهذه الحياةِ الدُّنْيا وزِينَتِها بالنِّسْبَةِ إِلَى مَا ادَّخَرَهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، للمُؤْمِنينَ مِنْ عِبادِهِ في الدَّارِ الآخِرَةِ. فقدْ أَخْرَجَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ مِنْ حَديثِ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، مَرَّ بِجَدْيٍ أَسَكٍّ (صَغِيرِ الأُذُنَيْنِ) مَيِّتٍ وَمُلْقَى فِي الطَّرِيقِ فَقَالَ: ((وَاللهُ لَلدُّنْيا أَهْوَنُ عَلَى اللهِ مِنْ هَذَا عَلَى أَهْلِهِ حِينَ أَلْقُوهُ)) صحيحُ مُسْلِمٌ برقم: (2957).
وأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ عَنِ المُسْتَوْرِدِ أَخي بَنِي فِهْرٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَا الدُنْيا في الآخِرَةِ إِلَّا كَمِثْلِ مَا يَجْعَلُ أَحَدُكم أُصْبُعَهُ هَذِهِ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بِمَ تَرْجِعُ)) وأَشَارَ بِالسَّبَّابَةِ. المُسْنَدُ: (4/228) ورواهُ مُسْلِمٌ في صَحيحِهِ برقم: (2858).
ورَوَى التِرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ، والطَبَرانيُّ، وأَبو نُعَيْمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ قالَ، قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: ((لَوْ كانَتِ الدُّنْيا تَعْدِلُ عنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْها شَرْبَةً)). سُنَنُ التِرْمِذِيِّ بِرَقَمِ: (2320).
وأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ في: (1/301) مِنْ مُسْنَدِهَ، والحاكمُ في: (4/309) مِنْ مُسْتَدْرَكِهِ وصَحَّحَهُ، ووافَقَهُ الذَّهَبِيُّ مِنْ حَديثِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قالَ: دَخَلَ عُمَرُ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وهوَ عَلَى حَصِيرٍ، قَدْ أَثَّرَ في جَنبِهِ، فقالَ: يا نَبِيَّ اللهِ لَوِ اتَّخَذْتَ فِراشًا أَوْثَرَ مِنْ هَذَا؟ فقال ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((مَا لِي وللدُّنْيَا، إِنَّما مَثَلي ومَثَلُ الدُّنيا كَرَاكبٍ سَافَرَ في يَوْمٍ صَائِفٍ، فاسْتَظَلَّ تَحْتَ شَجَرةٍ، ثمَّ رَاحَ عَنْها وَتَركَهَا)). قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ: "اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ" في مُشْرِكِيِّ مَكَةَ.
قولُهُ تَعَالى: {اللهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} الله: لفظُ الجلالةِ "اللهُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ. و "يَبْسُطُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "اللهُ" تعالى، و "الرزْقَ" مَفْعُولٌ بهِ منصوبٌ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا للمُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لِمَنْ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلق بـ "يَبْسُطُ"، و "مَنْ" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "يَشَاءُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "اللهُ" تعالى. وهذه الجملةُ صِلَةُ الاسْمِ الموْصُولِ "مَنْ"، والعائدُ مَحْذوفٌ والتَقْديرُ: لِمَنْ يَشاءُ البَسْطَ لَهُ. و "وَيَقْدِرُ" الواوُ حرفُ عطفٍ، و "يَقْدِرُ" مثلُ "يَبْسُطُ" معطوفٌ عليهِ.
قولُهُ: {وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا} الوَاوُ: للاستئنافِ، و "فَرِحُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الرفعِ لاتِّصالِهِ بواو الجماعة، وهو ضميرٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ، فاعِلُهُ، والألفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "بِالْحَيَاةِ" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ به، و "الحياةِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "الدُّنْيَا" صِفَةٌ لِـ "الْحَيَاةِ" مجرورةٌ مثلها، وعلامةُ الجَرِّ الكسْرةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ، لتعَذُّرِ ظهورِها على الألفِ.
قولُهُ: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ} الواوُ: للاسْتِئْنَافِ. و "ما" نَافِيَةٌ مهملةٌ لا عملَ لها. و "الْحَيَاةُ" مرفوعٌ بالابتداءِ. و "الدُّنْيَا" صِفَةٌ لـ "الْحَيَاةُ" مرفوعَةٌ مثلها، وعلامةُ رفعِها الضمَّةُ المُقدَّرةُ على آخِرِها، لتعَذُّرِ ظهورها على الألفِ. و "في" حَرْفُ جَرٍّ ومُقَايَسَةٍ بِمَعْنَى الباءِ، متعلِّقٌ بِمَحْذُوفِ حالٍ مِنَ المُضافِ المَحْذوفِ الوَاقِعِ مُبْتَدَأُ. والتَقْديرُ: وما نَعِيمُ الحَياةِ الدُنْيا حَالَةَ كَوْنِهِ مُقاسًا بَنَعيمِ الآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ. و "الْآخِرَةِ" مَجْرورٌ بِها. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ، أَوْ أداةُ حصرٍ. و "مَتَاعٌ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ.
قرأَ الجمهور: {ويَقدِرُ} بكسْرِ الدالِ، وقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، رَضَيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما {وَيَقْدُرُ} بِضَمِّها.