فيض العليم ... سورة الرعد الآية: 20
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ
(20)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ} أَيْ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ الْمُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ. وهيَ مِنْ صِفَةِ ذَوِي الْأَلْبَابِ الوفاءُ بالعهدِ وأَوَّلُها ما كانَ بيْنَ العَبْدِ ومَوْلاهُ ـ سُبْحانَهُ. والعَهْدُ هُنَا اسْمُ الجِنْسِ، أَيْ: المُوفونَ بِجَمِيعِ عُهُودِ اللهِ، وَهِيَ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ.
قِيلَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وعَلَيْهِ فَيَجُوزُ التَّقْدِيرُ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ" صِفَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ. وَيَجُوزُ: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ صِفَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الآيةِ: 19، السابقةِ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يُرِيدُ الَّذِي عَاهَدَهُمْ عَلَيْهِ حِينَ كَانُوا فِي صُلْبِ آدَمَ ـ عليهِ السَّلامُ: {وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا: بَلى، شَهِدْنا} الآية: 172. مِنْ سُورةِ الْأَعْرَافِ. والْمُرَادَ بِعَهْدِ اللهِ كُلُّ أَمْرٍ قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ وَهُوَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْأَشْيَاءُ الَّتِي أَقَامَ اللهُ عَلَيْهَا دَلَائِلَ عَقْلِيَّةً قَاطِعَةً لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ وَالتَّغْيِيرَ. وَالْآخَرُ: الَّتِي أَقَامَ اللهُ عَلَيْهَا الدَّلَائِلَ السَّمْعِيَّةَ وَبَيَّنَ لَهُمْ تِلْكَ الْأَحْكَامَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ دَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ كُلُّ مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ. وَيَصِحُّ إِطْلَاقُ لَفْظِ الْعَهْدِ عَلَى الْحُجَّةِ بَلِ الْحَقُّ أَنَّهُ لَا عَهْدَ أَوْكَدُ مِنَ الْحُجَّةِ وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ حَلَفَ عَلَى الشَّيْءِ، فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، إِذَا ثَبَتَ بِالدَّلِيلِ وُجُوبُهُ لَا بِمُجَرَّدِ الْيَمِينِ، وَلِذَلِكَ رُبَّمَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُحَدِّثَ نَفْسَهُ إِذَا كَانَ ذَلِكَ خَيْرًا لَهُ، فَلَا عَهْدَ أَوْكَدُ مِنْ إِلْزَامِ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ ذَلِكَ بِدَلِيلِ الْعَقْلِ، أَوْ بِدَلِيلِ السَّمْعِ. وَلَا يَكُونُ الْعَبْدُ مُوفِيًا لِلْعَهْدِ إِلَّا بِأَنْ يَأْتِيَ بِكُلِّ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ كَمَا أَنَّ الْحَالِفَ عَلَى أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ لَا يَكُونُ بَارًّا فِي يَمِينِهِ إِلَّا إِذَا فَعَلَ الْكُلَّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الْإِتْيَانُ بِجَمِيعِ الْمَأْمُورَاتِ وَالِانْتِهَاءُ عَنْ كُلِّ الْمَنْهِيَّاتِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْوَفَاءُ بِالْعُقُودِ فِي الْمُعَامَلَاتِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ أَدَاءُ الْأَمَانَاتِ، وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْمُخْتَارُ الصَّحِيحُ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ وَالشَّرَائِعِ، فقد قَالَ ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلَامُ: ((مَنْ عَاهَدَ اللهَ فَغَدَرَ، كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ)). وَعَنْهُ أيضًا ـ عَلَيْهِ الصلاةُ والسَّلامُ: ((ثلاثةٌ أَنَا خَصْمُهم يَوْمَ القِيامَةِ، وَمَنْ كُنْتُ خَصْمَهُ خَصَمْتُهُ، رَجُلٌ أَعْطَى عَهْدًا ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا اسْتَوْفَى عَمَلَهُ وَظَلَمَهُ أَجْرَهُ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَاسْتَرَقَّ الْحُرَّ وَأَكَلَ ثَمَنَهُ)).
قِيلَ: كَانَ بَيْنَ مُعَاوِيَةَ بنِ أبي سُفيانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وَمَلِكِ الرُّومِ عَهْدٌ، فَأَرَادَ أَنْ يَذْهَبَ إِلَيْهِمْ وَيَنْقُضَ الْعَهْدَ فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى فَرَسٍ يَقُولُ: وَفَاءٌ بالعَهْدِ لا غَدْرَ. سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَنْبِذَنَّ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُ وَلَا يَحُلَّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَمَدُ وَيَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ)) قَالَ مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: عَمْرُو بْنُ عُيَيْنَةَ فَرَجَعَ مُعَاوِيَةُ.
قولُهُ: {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} أَيْ إِذَا عَقَدُوا عَهْدًا ليس فيه معصِيَةٌ للهِ لَمْ يَنْقُضُوهُ. والْمِيثَاقُ مَا وَثَّقَهُ الْمُكَلَّفُ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ بِه الْمَوَاثِيقُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَسَائِرِ الْكُتُبِ الْإِلَهِيَّةِ عَلَى وُجُوبِ الْإِيمَانُ بِنُبُوَّةِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عِنْدَ ظُهُورِهِ. فيُحْتَمَلُ أَنْ يُرادَ بِهِ جِنْسُ الْمَوَاثِيقِ، كَما يُحْتَمَلُ أَنْ يُكونَ أُشِيرَ إِلَى مِيثَاقٍ بِعَيْنِهِ، وهُوَ الَّذِي أَخَذَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ صُلْبِ أَبِيهِمْ آدَمَ. وأَخْرجَ ابْنُ جَريرٍ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ "الَّذين يُوفونَ بِعَهْد الله وَلَا ينقضون الْمِيثَاق" فَعَلَيْكُم بِالْوَفَاءِ بالعَهْدِ وَلَا تَنْقُضُوا الْمِيثَاق فَإِنَّ اللهَ قدْ نَهَى عَنهُ، وَقَدَّمَ فِيهِ أَشَدَّ التَقْدِمَةِ، وَذَكَرَهُ فِي بِضْعٍ وَعِشْرينَ آيَةً نَصِيحَةً لَكُمْ، وَتَقْدِمَةً إِلَيْكُم، وَحُجَّةً عَلَيْكُم، وَإِنَّمَا تَعْظُمُ الْأُمُورُ بِمَا عَظَّمَها اللهُ عِنْدَ أَهْلِ الْفَهْمِ وَأَهْلِ الْعَقْلِ، وَأَهْلِ الْعِلْمِ بِاللهِ. وَذَكَرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ: لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ.
وَقَالَ الْقَفَّالُ: الميثاقُ هُوَ مَا رُكِّبَ فِي عُقُولِهِمْ مِنْ دَلَائِلَ التَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّاتِ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، فَإِنَّ الْوَفَاءَ بِالْعَهْدِ قَرِيبٌ مِنْ عَدَمِ نَقْضِ الْمِيثَاقِ وَالْعَهْدِ، وَهَذَا مِثْلُ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ لَمَّا وَجَبَ وُجُودُهُ لَزِمَ أَنْ يَمْتَنِعَ عَدَمُهُ، فَهَذَانِ الْمَفْهُومَانِ مُتَغَايِرَانِ إِلَّا أَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ فَكَذَلِكَ الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَنْقُضَ الْمِيثَاقَ. فَالْحَاصِلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: "الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ" إِشَارَةٌ إِلَى مَا كَلَّفَ اللهُ الْعَبْدَ بِهِ ابْتِدَاءً. وَقَوْلَهُ: "وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ" إِشَارَةٌ إِلَى مَا الْتَزَمَهُ العَبْدُ مِنْ أَنواعِ الطاعاتِ بِحَسْبِ اختيارِهِ نَفْسِهِ كَالنَّذْرِ بِالطَّاعَاتِ وَالْخَيْرَاتِ.
قولُهُ تَعَالى: {الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ} الَّذِينَ: اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ خَبَرُهُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ}. أَوْ نَعْتٌ لِـ {أُولُو} مِنَ الآيةِ التي قَبْلَها، أَوْ بَدَلٌ مِنْهُ، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ (هُم)، أَوْ مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ (أَمْدَح). و "يُوفُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ فاعِلُهُ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "بِعَهْدِ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ "يوفون"، و "عَهْدِ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وهو مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" اسْمٌ مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ.
قولُهُ: {وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ} الواوُ: للعطفِ، و "لا" نافيةٌ لا عَمَلَ لها. و "يَنْقُضُونَ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النونِ في آخِرِهِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلُهُ. و "الْمِيثَاقَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يُوفُونَ" على كونِها صِلَةَ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.