فيض العليم ... سورة الرعد الآية: 19
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
(19)
قولُهُ ـ جلَّ منْ قائلٍ: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} نَفْيٌ لاسْتِوَاءِ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ جاءَ فِي صُورَةِ الِاسْتِفْهَامِ تَنْبِيهًا عَلَى غَفْلَةِ الضَّالِّينَ عَنْ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ، كَقَوْلِهِ في سورةِ السجدةِ: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كانَ فاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ} الآيَة: 18. وهو تَفْرِيعٌ عَلَى جُمْلَةِ {لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى} الْآيَة: 18، السابقةِ. وقد اسْتُعِيرَ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ اسْمُ الْأَعْمَى لِأَنَّهُ انْتَفَى عِلْمُهُ بِشَيْءٍ ظَاهِرٍ بَيِّنٍ فَأَشْبَهَ الْأَعْمَى، فالْكَافُ لِلتَّشَابُهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّمَاثُلِ. وَالِاسْتِوَاءُ الْمُرَادُ بِهِ التَّمَاثُلُ فِي الْفَضْلِ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْعَمَى.
وأَخرجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ" قَالَ: هَؤُلَاءِ قومٌ انْتَفَعوا بِمَا سَمِعُوا مِنْ كِتَابِ اللهِ وعَقَلُوهُ وَوَعَوهُ "كَمَنْ هُوَ أَعْمَى" قَالَ: عَن الْحَقِّ فَلَا يُبْصِرُهُ وَلَا يَعْقِلُهُ.
قولُهُ: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} التذكُّرُ هنا بمعنى التفكُّرِ والتدبُّرِ، أَيْ لَا غَيْرَ أُولِي الْأَلْبَابِ، فالْقَصْرُ بِـ "أَنَّما" إِضَافِيٌّ، و "أُولو الأَلْبابِ" أُولو العُقولِ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ "أولُو الْأَلْبَابِ" يَعْنِي مَنْ كَانَ لَهُ لُبٌّ أَوْ عَقْلٌ. وهذا تَعْلِيلٌ لِلْإِنْكَارِ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الِانْتِفَاءِ بِأَنَّ سَبَبَ عَدَمِ عِلْمِهِمْ بِالْحَقِّ أَنَّهُمْ لَيْسُوا أَهْلًا لِلتَّذَكُّرِ، لِأَنَّ التَّذَكُّرَ مِنْ شِعَارِ أُولِي الْأَلْبَابِ، أَيِ الْعُقُولِ. فَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ بِأَنَّهُمْ لَا عُقُولَ لَهُمْ إِذِ انْتَفَتْ عَنْهُمْ فَائِدَةُ عُقُولِهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّمَا عَاتَبَ اللهُ تَعَالَى أُولي الْأَلْبَابِ لِأَنَّهُ يُحِبهُمْ، وَوَجَدْتُ ذَلِكَ فِي آيَةٍ مِنْ كِتابِ اللهِ تَعَالَى: "إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَاب".
وأخرَجَ ابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "إِنَّمَا يتَذَكَّر أولُوا الْأَلْبَابِ" فَبَيَّنَ مَنْ هُمْ فَقَالَ: {الَّذين يُوفونَ بِعَهْد اللهِ}.
قولُهُ تَعَالَى: {أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ} الهمْزَةُ: للاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ دَاخِلَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ. الفَاءُ: عَاطِفةٌ عَلى ذَلِكَ المَحْذوفِ، والتَّقديرُ: أَيَسْتَوي المُؤْمِنُ والكافِرُ، و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصولٌ بمعنى "الذي" مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتداءِ. و "يَعْلَمُ" فعلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "مَنْ"، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ. و "أَنَّمَا" أنَّ: حَرْفٌ ناصبٌ مَصدَرِيٌّ مُشبَّهٌ بالفِعلِ. و "ما" اسْمٌ مَوصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "أَنَّ". و "أُنْزِلَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ لمجهولِ، مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، ونائبُ فاعلِهِ ضَميرٌ مُستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ على "ما". و "إِلَيْكَ" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِـ "أُنْزِلَ"، والكافُ ضميرٌ متصلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ يَتَعَلَّقُ أيضًا بـ "أُنْزِلَ" أَوْ بحالٍ مِن ضميرِ نائبِ الفاعل، و "ربَّ" اسمٌ مجرورٌ بحرف الجرِّ وهو مضافٌ، والكافُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. والجُملةُ الفعليَّةُ هذه صِلَةُ "ما" المَوصولةِ. و "الْحَقُّ" خَبَرُ "أنَّ" مرفوعٌ، وجُملةُ "أنَّ" في تَأْويلِ مَصْدرٍ سادٍّ مَسَدَّ مَفعولَيْ "علم" والتَقديرُ: أَفَمَنْ يَعْلَمُ كونَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ منْ ربِّكَ الحَقُّ.
قولُهُ: {كَمَنْ هُوَ أَعْمَى} الكَفُ: حرفُ جَرٍّ وتشبيهٍ متعلِّقٌ بخبرِ "مَنْ" المَوْصُولَةِ في قولِهِ: "أَفَمَنْ يَعْلَمُ"، و "منْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بخرف الجرِّ، و "هو" ضَميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ. و "أعمى" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وعَلامَةُ رفعِهِ الضَّمَّةُ المُقَدَّرَةُ على آخرِهِ لتعذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ المَحْذوفَةِ، والجُمْلةُ المَحْذوفَةُ جُمْلَة ٌإِنْشائِيَّةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا محلَّ لها.
قولُهُ: {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} إِنَّمَا: أَداةُ حَصْرِ ونَفْيٍّ بِمَعْنَى مَا النَّافِيَةِ وإِلَّا المُثَبِّتَةِ. و "يَتَذَكَّرُ" فعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ و "أُولُو" فاعلٌ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِه الواوُ لأنَّهُ مُلْحَقٌ بِجَمْعِ المُذَكَّرِ، وهو مضافٌ، و "الْأَلْبَابِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ مَا قَبْلَها.