فيضُ العليم ..... سورة الرعد، الآية: 3
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3)
قولُهُ ـ جلَّ شأنُهُ: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} شُروعٌ فِي ذِكْرِ قُدْرَتِهِ ـ تعالى، وَحِكْمَتِهِ وَأَحْكَامِهِ فِي العَالَمِ السُّفْلِيِّ، بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ ـ سبحانَه، مثلَ ذِلِكَ في العَالَمِ العُلْوِيِّ، فَهُوَ الذِي مَدَّ الأَرْضَ وَبَسَطَها فهيَ مَبْسُوطَةٌ أَمَامَ عَيْنَيْكَ ممتدَّةٌ طُولًا وَعَرْضًا، وليسَ لها حافةٌ ولا نهايةٌ تنتهي إليها، وتقفُ عندها. وهذا معنى المَدِّ، فمن أَيْ نقطةٍ بَدَأْتَ السيرَ طولًا أَو عرضًا ستنتهي إِلى نفسِ النقطةِ التي انطلقتَ منها ولن تَجَدَ لها حافَّةً، ولا حدًّا تقفُ عندَه، فهي إذًا مكوَّرةٌ. وَأَيضً فالْمَدُّ: الْبَسْطُ وَالسِّعَةُ، وَمِنْهُ: ظِلٌّ مَدِيدٌ، وَمِنْهُ مَدُّ الْبَحْرِ وَجَزْرُهُ، وَمَدَّ يَدَهُ إِذَا بَسَطَهَا. وَالْمَعْنَى: خَلَقَ الْأَرْضَ مَمْدُودَةً مُتَّسِعَةً لِلسَّيْرِ وَالزَّرْعِ لِأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهَا أَسْنِمَةً مِنْ حَجَرٍ، أَوْ جِبَالًا شَاهِقَةً مُتَلَاصِقَةً لَمَا تَيَسَّرَ لِلْأَحْيَاءِ السَّيْرُ عَلَيْهَا والتنقُّلُ منْ مكانٍ إلى آخرَ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَغَيْرِهِ ولا الِانْتِفَاعُ بِهَا.
قولُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} أيْ: جِبَالًا ثَوَابِتَ لِكَيْلاَ تَمِيدَ بالإنسانِ فيضطربَ فيها وُجودُهُ ويَستحيلَ عليها مَعاشُهُ، فَقدْ أَرْسَاهَا بِجِبَالٍ رَاسِيَاتٍ ثابتاتٍ لِكَي يَحْفَظَ تَوَازُنَهَا، وَيَجْعَلَ اسْتِقْرَارَ الخَلْقِ عَلَيْها أَمْرًا هَيِّنًا مَيْسُورًا فَلاَ تَمِيدَ بِهِمْ، والرواسي هي جَمْعُ "رَاسٍ" وهوَ الشيْءُ الثابتُ، فَالْإِرْسَاءُ الثُّبُوتُ، قَالَ عَنْتَرَةُ:
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لِذَلِكَ حرة ............... ترسوا إِذَا نَفْسُ الْجَبَانِ تَطَلَّعُ
وَقَالَ جَمِيلٌ:
أُحِبُّهَا وَالَّذِي أَرْسَى قَوَاعِدَهُ ................. حُبًّا إِذَا ظَهَرَتْ آيَاتُهُ بَطَنَا
وقال الأحوص:
بهِ خالداتٌ ما يَرِمْنَ وهامِدٌ ................ وَأشْعَثُ أَرْسَتْهُ الوَليدةُ بالفِهْرِ
وتَطَّرِدُ صِيغَةُ جمعِ التَكْسيرِ (فَواعِل) في الإِناثِ ومَا لا يَعْقِلُ مِنَ البهائمِ وغيرها منْ مخلوقاتِ.
وقدْ بيَّنَ ـ سبحانهُ وتعالى، علَّةَ جعلِها راسياتٍ فقالَ في الآيَة: 31، مِنْ سُورةِ الأنْبِياءِ: {وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} أَيْ: حتَّى لا تَضطَّرِبَ الأَرْضُ بِهِم، لأَنَّها خُلِقتْ متَحَرِّكَةٍ غيرَ ثابتةٍ، فهي عُرْضَةٌ للاضطِّرابِ، ولَوْلا الجِبَالُ الرَّواسيَ لَمَادَتْ الأَرْضُ بهم. فهذِهِ الأِرْضُ لَهَا مُحيطٌ؛ ولَهَا مَرْكَزٌ؛ ولَهَا أَقْطارٌ تقصُرُ كلَّما اقْتَرَبَتْ مِنْ المَرْكَزِ، ويتكونُ جَوْفها مِنْ مَوادَّ مُتَعَدِّدَةٍ، مُنْصهِرةٍ للارْتَفاعِ الشديدِ في درَجَةِ الحَرارَةِ كلَّما اقتربنا منْ المركزِ؛ يَدُلُّنا عَلى ذَلِكَ كُتَلُ الحُمَمِ التي تَقْذِفُها فُوَّهاتُ البَراكِينِ. وقدْ اقتضَتْ حكمتُهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى أَنْ يَجْعَلَ باطِنَ الأَرْضِ سائلًا، رَحْمَةً بِنَا؛ فإذا نَقَلْنَا الحِجَارَةَ وغيرَها منْ موادَّ ومعادنَ مختلفةٍ مِنَ الجَبَالِ البَعيدَةِ لِنَرْفَعَ بِهَا الأَبْنِيةَ المُرْتَفِعَةِ أو غيرِ ذلك من حاجاتِ الإنسانِ؛ فَقَدْ نَقْلْنا أَثقالًا ضخمةً منْ مكانٍ إلى آخرَ، الأَمْرُ الذي يترتَّبُ عليهِ اختلالٌ في التوازِنِ على سطحِ الأرضِ، لكنَّ حكمةَ اللهِ ورحمتَه بِخَلْقِهِ جعلتْ باطِنَ الأَرْضِ المنصهرَ السَّائلَ يَنْتَقِلُ مِنْ المَنْطِقَةِ التي زَادَ عَلَيْها الثِّقَلُ إِلى الأخرَى التي خَفَّ مِنْ فَوْقِها الثِقَلُ فَيَتَحَقَّقُ التَوَازُنُ، ولولا ذَلِكَ لَتَسَاقَطَتِ العِمَاراتُ الشاهِقَةُ المُرْتَفِعَةُ أَثْنَاءَ دَوَرانِ الأَرْضِ، بِسَبَبِ قانُونِ الطَرْدِ المَرْكَزِيِّ في الأجسامِ الكُرَويَّةِ، وقدْ شَرَحَ عُلَمَاءُ الحَرَكَةِ ذَلِكَ فَقَالوا: إِنَّ كُلَّ شَيْءٍ مُسْتَديرٍ يَتَحَرَّكُ؛ إِنَّما تَنْشَأُ عَنْ حَرَكَتِهِ عَمَلِيَّةٌ سَمَّوها الطَّرْدَ الذّاتِيَ أو المركزيَّ؛ لأنَّكَ حينَ تَضَعُ جسمًا ما على شيْءٍ مُسْتَديرٍ يَتَحَرَّكُ تَكونُ لَهُ كَثَافَةٌ وثِقَلٌ عَلَى المَنْطِقَةِ التي يُوجَدُ فيها، ويَصِلُ هَذَا الثِقَلُ إِلى المَرْكَزِ، ولكيْ تَسْتَمِرَّ الحَرَكَةُ الدائريَّةُ مُتَوازِنَةً لا بُدَّ أَنْ يُطْرَدَ هذا الثِّقَلُ عَنِ الشَّيْءِ المُسْتَديرِ. ولِذَلِكَ شاءَتْ حِكمةُ الحقِّ ـ سُبْحانَهُ، أَنْ يَجْعَلَ نِصْفَيِ الكُرَةِ الأَرْضِيَّةِ مِنْ أَيِّ مَوْقِعٍ تَتَخَيَّلُهُ، مُساوِيًا في الوَزْنِ النِّصْفَ المُقَابِلَ الآخَرَ، ومَهْما نَقَلْتَ أَثقالًا مِنْ مَوْقِعٍ إِلى آخَرَ، فإنَّ الوَزْنَ يَتَعادَلُ نَتِيجَةً لِحَرَكَةِ السَّوائِلِ التي في باطِنِ الأَرْضِ.
وَقد دَلَّلَ الحَقُّ تَعَالى، في هَذِهِ الآيةِ الكَريمَةِ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِه بِخَلْقِ الْجِبَالِ وفي سُورَةِ الغاشِيَةِ أَيضًا فقالَ: {أَفَلَا يَنْظُرونَ إلى الإِبِلِ كيفَ خُلِقتْ * وإلى السماءِ كيفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وإلى الأرضِ كيف سُطِحَتْ} الآياتِ: 17 ـ 20، فذكرَ الجِبَالَ لِمَا فِي خَلْقِهَا مِنَ الْعَظَمَةِ الْمُشَاهَدَةِ بِخِلَافِ خِلْقَةِ الْمَعَادِنِ وَالتُّرَابِ فَهِيَ خَفِيَّةٌ.
قولُهُ: {وَأَنْهَارًا} وَأَجْرَى فِيهَا الأَنْهَارَ وَالعُيُونَ لِيَسْقِيَ مَا فِيهَا مِنْ نَبَاتٍ وَشَجَرٍ، يُخْرِجُ مِنْ كُلِّ الثَمَرَاتِ. فَقد جَمَعَ الحَقُّ ـ سُبْحَانَهُ وتعالى، بَيْنَ بين النقيضَينِ: الرَّواسيَ (الثوابتِ)، والأَنْهارِ (السائِلَةِ) المتحركة. والأنهارُ تَحْمِلُ المِياهَ العَذْبة؛ وتصبُّ في البِحارِ التي تَحْوي مياهًا مالِحَةً، وهذا يعني أنَّ مجاريها أعلى من مستوى سطحِ ماء البحرِ، ولو كانَ الأَمْرُ معكوسًا؛ لَطَغى مَاءُ البَحْرِ عَلَى ماءِ النَّهرِ، ولَمَا اسْتَطْعْنَا أَنْ ننتفعَ بمياه الأنهارِ فنشربَ منها أَوْ نسقي المَوَاشي والزروعَ، ولا انعدمتِ الحياةُ على سطحِ الأرضِ أو أصبحت شِبْهَ مستحيلةً، فسُبْحانَ مَنْ خلقَ فقدَّر. إِذًا فإنَّ للنَّهْرِ مُهِمَّةً يُؤَدِّيها قَبْلَ أَنْ يَصُبَّ في البَحْرِ كما شاءَها لَهُ خالِقُهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى.
قولُهُ: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} مِنَ: هَنا للتَّبْعِيضِ، وَدُخُولُها عَلَى "كُلِّ" جَرَى عَلَى طريقِةِ الْعَرَبِ فِي ذِكْرِ أَجْنَاسِ غَيْرِ الْعَاقِلِ كَقَوْلِهِ في الآية العاشرةِ مِنْ سُورةِ لُقمان: {وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}. لِأَنَّ حَقَائِقَ الْأَجْنَاسِ لَا تَنْحَصِرُ وَالْمَوْجُودُ مِنْهَا مَا هُوَ إِلَّا بَعْضُ جُزْئِيَّاتِ الْمَاهِيَّةِ لِأَنَّ مِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ انْقَضَتْ وَمِنْهَا جُزْئِيَّاتٍ سَتُوجَدُ ـ واللهُ أعلم. و "زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ" نَوْعَيْنَ وَضَرْبَيْنِ، والتثنيةُ للتحقيق، وَنُكِّرَ لِلتَّنْوِيعِ، أَيْ جَعَلَ زَوْجَيْنِ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ. فَقد جَعَلَ ـ سُبْحَانَهُ، مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ زَوْجِينِ اثْنَيْنِ ذَكَرًا وَأُنْثَى حِينَ تَكَوُّنِهَا لِتَتَزاوجَ وتتَكاثرَ. فإِنَّ كَلِمَةَ الزَّوْجَيْنِ تَعْنِي الذَّكَرَ والأُنْثَى، وذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالى في الآيَةِ: 39، مِنْ سُورَةِ القِيامَةِ: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى}. والْوَقْفُ عَلَى "وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ" لانْتِهَاء تَعْدَادُ الْمَخْلُوقَاتِ الْمُتَّصِلَةِ بِالْأَرْضِ. وَيُعَضِّدُهُ نَظِيرُهُ فِي الآيةِ الحادية عَشْرَةَ مِنْ سورةِ النَّحلِ، وهو قَوْلُهُ تَعَالَى: {يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}. وَإِنَّمَا ذُكِرَتِ الثَّمَراتِ لِأَنَّهَا مَوْقِعُ مِنَّةٍ مَعَ الْعِبْرَةِ كَما في قَوْلِهِ من سورة الأعراف: {فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ} الآية: 57، وَالْمُرَادُ بِـ "الثَّمَراتِ" هِيَ وَأَشْجَارُهَا.
قولُهُ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ}أَيْ: يُلْبِسُ النَّهَارَ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ. فَقَدْ جَعَلَ اللهُ ـ سبحانَهُ، اللَّيْلَ يَتْبَعُ النَّهَارَ حَثِيثًا متتابِعًا يحثُّ أَحدُهُ الآخرَ، بِدُونِ انْفِصَالِ. وَجِيءَ فِيهِ بِالْمُضَارِعِ لِيَدُلَّ عَلَى التَّجَدُّدِ لِأَنَّ جَعْلَ الْأَشْيَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا جَعْلٌ ثَابِتٌ مُسْتَمِرٌّ، فإِغْشَاءُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارَ أَمْرٌ مُتَجَدِّدٌ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ بِأَعْرَاضِ أَحْوَالِ الْأَرْضِ. وَذِكْرُهُ مَعَ آيَاتِ الْعَالَمِ السُّفْلِيِّ ولم يذكرْهُ في الآية السابقةِ لها مع العالَمِ العُلْويِّ فِي غَايَةِ الدِّقَّةِ الْعِلْمِيَّةِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ مِنْ أَعْرَاضِ الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ وَلَيْسَا مِنْ أَحْوَالِ السَّمَاوَاتِ، فالشَّمْسُ وَالْكَوَاكِبُ الأُخْرَى لَا تَتَغَيَّرُ أحْوالُهَا بِضِيَاءٍ وَظُلْمَةٍ.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} الْإِشَارَةُ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ تعالى في الآية الثانية السابقةِ: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ}، إِلَى هُنَا بِتَأْوِيلِ الْمَذْكُورِ، وَالمَعْنَى: إنَّ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ مِنْ عَجَائِبِ خَلْقِ اللهِ تعالى، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ لَدَلائِلُ وَحُجَجٌ لِمَنْ يَتَفَكَّرُ في خلقِهِ سبحانَهُ وَيَعْتَبِرُ، وَقد جَعَلَ الْأَشْيَاءَ الْمَذْكُورَاتِ ظُروفًا لِـ "آيَات" لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ تَتَضَمَّنُ آيَاتٍ عَظِيمَةً يَجْلُوهَا النَّظَرُ الصَّحِيحُ وَالتَّفْكِيرُ الْمُجَرَّدُ عَنِ الْأَوْهَامِ. وَفِي هَذَا إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الَّذِينَ نَسَبُوا أَنْفُسَهُمْ إِلَى التَّفْكِيرِ مِنَ الذين يقولونَ بالطَّبيعَةِ فنَفَوُا الْفَاعِلَ الْمُخْتَارَ وقالوا إِنَّ هذه الموجوداتِ قَدْ صَدَرَتْ عَنِ الطَّبيعَةِ نَفْسِها فإنَّ تَفْكِيرهم قَاصِرٌ وهو أقربُ إلى الأوهامِ منهُ إلى التفكيرِ المنطقيِّ السليمِ والمستَنِدِ إلى الحقائقِ العلميَّةِ فقد اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْعِلَلُ وَالْمَوَالِيدُ، بِأَصْلِ الْخَلْقِ وَالْإِيجَادِ.
قولُهُ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ} وَهُوَ: الواو: حرفُ عطْفٍ، أو للاستئنافِ، و "هو" ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ في محلِّ الرفعِ بالابْتِداءِ، و "الَّذِي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ في محلِّ الرفعِ، خبَرُ المبتدأِ، والجُمْلَةُ الاسميَّةُ هذه معطوفةٌ على جملةِ {اللهُ الذي} مِنَ الجملةِ التي قَبْلَها، على كونِها مستأنَفةً، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وفي الحالينَ لا مَحَلَّ لها منَ الإعرابِ. و "مَدَّ" فَعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الاسمِ الموصولِ، و "الْأَرْضَ" مفعولٌ بهِ منصوبٌ، وهذه الجملةُ الفعليَّةُ صِلَةُ المَوْصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا} الوَاوُ: للعطفِ، و "جَعَلَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعله ضميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى المَوْصولِ. والجملةُ معطوفَةٌ عَلَى جملةِ قولِهِ "مَدَّ" على كونِها صلةَ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "فِيهَا" حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلَ"؛ لأَنَهُ بِمَعْنَى خَلَقَ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "رَوَاسِيَ" مَفْعُولٌ بِهِ منصوبٌ، وَقد جِيءَ فِي جَمْعِ رَاسٍ بِوَزْنِ فَوَاعِلَ لِأَنَّ الْمَوْصُوفَ بِهِ غَيْرُ عَاقِلٍ، وَوَزْنُ فَوَاعِلَ يَطَّرِدُ فِيمَا مُفْرَدُهُ صِفَةٌ لِغَيْرِ عَاقِلٍ مِثْلَ: صَاهِلٍ وَبَازِلٍ .. . و "وَأَنْهَارًا" مَنصوبٌ عَطْفًا عَلَى "رَوَاسِيَ".
قولُهُ: {وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} الواوُ: عاطفةٌ. و "منْ" حرفُ جَرٍّ، والظاهرُ أَنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالفعلِ "جَعَلَ" الثاني المَذْكورِ بَعْدَهُ، أَيْ: وَجَعَلَ فيها زوجيْنِ اثْنَيْنِ مِنْ كُلٍ. ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِمَحْذوفٍ عَلى أَنَّهُ حالٌ مِنِ "اثنين"؛ لأَنَّهُ في الأَصْلِ صِفَةٌ لَهُ. ويجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِـ "جَعَلَ" الأُولى عَلى أَنَّهُ مِنْ عَطْفِ المَفْرَداتِ، يَعْنِي عَطَفَ عَلى مَعْمُولِ "جعلَ" الأُولى، فيَتِمَّ الكلامُ عندَ قولِهِ: "وَمِن كُلِّ الثمراتِ" ويكونُ الوقفُ عليهِ، والتَقديرُ: أَنَّهُ جَعَلَ في الأَرْضِ كَذَا وكَذَا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ، ويَكونُ "جَعَلَ" الثانيَ اسْتِأْنَافًا. و "كلِّ" مَجْرورٌ بحرفِ الجرِّ، مُضافٌ، و "الثَمَراتِ" مجرورٌ بالإضافةِ إليهِ. و "جَعَلَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلَى "اللهُ" تعالى. و "فِيهَا" في: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "جَعَلَ" والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "زَوْجَيْنِ" مَفْعولٌ بهِ لِـ "جَعَلَ" منصوبٌ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ مثنّى والنونُ عِوَضٌ عنِ التنوينِ في الاسْمِ المفردِ. و "اثْنَيْنِ" صِفَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِـ "زَوْجَيْنِ" منصوبةٌ مثلَهُ وعلامةُ النَّصبِ الياءُ أَيضًا لأنَّهُ مُلحقٌ بالمثنّى، وجُمْلَةُ "جَعَلَ" هذه معطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "جَعَلَ" الأُولى على كونِها صلةَ الموصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} يُغْشِي: فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ مقدَّرةٌ على آخرِهِ لثِقَلِها على الياءِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يعودُ على "الله" تعالى، و "الليلَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصوبٌ، أَوْ منصوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ، والتَّقْديرُ: يُغْشي النَّهارَ باللَّيْلِ. و "النَهارَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ. وجملةُ "يُغشي" في محلِّ النَّصبِ على الحالِ مِنْ فاعلِ "مَدَّ" ويجوزُ قَطْعُها فَتُعرَبُ مُستأْنفةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} إِنَّ: حَرْفُ نَصْبٍ ونَسْخٍ وتوكيدٍ مُشَبَّهٌ بالفعلِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرِ "إِنَّ" في محلِّ الرفعِ مُقَدَّمٌ عَلَى اسْمِها، و "ذَلِكَ" اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، واللامُ للبُعدِ والكافُ للخطابِ. و "لَآيَاتٍ" اللامُ: المزحلقةُ للتوكيدِ، أو حرفُ ابْتِداءٍ، و "آيَاتٍ" اسْمُ "إِنَّ" مُؤَخَّرٌ منصوبٌ وعلامةُ نصبِهِ الكسرةُ نيابةً عنِ الفتحةِ لأنَّهُ جمعُ المؤنَّثِ السالمُ. و "لِقَوْمٍ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بصفَةٍ لِـ "آياتٍ"، و "قومٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ. و "يتفكَّرون" فِعْلٌ مضارعٌ مَرْفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخرِهِ لأنَّهُ منَ الأفعالِ الخمسةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجَمَاعَةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مَبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ رَفْعِ فاعِلِهِ، والجمْلَةُ في محلِّ الجَرِّ صِفَةٌ لِـ "قومٍ"، وجُمْلَةُ "إِنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرها مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ قولَهُ تعالى: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} بِسُكُونِ الْغَيْنِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ، مُضَارِعُ "أَغْشَى". وَقَرَأَ الأَخَوان (حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ)، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَيَعْقُوبُ، وَخَلَفٌ: "يُغَشِّي" بِفتحِ الغينِ وتَشْدِيدِ الشِّينِ، مُضَارِعُ "غَشَّى".