فيض العليم ... سورة الرعد، الآية: 12
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} لَمَّا أَنْذرَ اللهُ تعالى عِبَادَه فيما تَقَدَّم بِأَنَّه لَا مَرَدَّ لِمَا أَرادَ أنْ يُنْزِلَ بِهم مِنْ عَذَابِ، أَتْبَعَ ذلكَ بِذِكْرِ هَذِهِ الْآيَاتِ لِأَنَّ فيها دَلَائِلُ عَلَى عظيمِ قُدْرَتِهِ وَبالغِ حِكْمَتِهِ، فحُدُوثَ الْبَرْقِ دَلِيلٌ عَجِيبٌ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ تَعَالَى وَذلك أَنَّ السَّحَابَ جِسْمٌ مُرَكَّبٌ ـ في مُعظَمِهِ، مِنْ حُبَيْباتٍ مَائِيَّةٍ رَطْبَةٍ، ممزوجةٍ بأَجزاء هَوَائِيَّةٍ وأُخْرَى ناريَّةٍ، والماءُ جِسْمٌ رَطْبٌ بارِدٌ، والنَّارُ جِسْم حارٌّ يَابِسٌ، وَظُهُورُ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ عَلَى خِلَافِ الْعَقْلِ فَلَا بُدَّ مِنْ صَانِعٍ مُخْتَارٍ عظيمِ القُدْرَةِ لِيُظْهِرُ الضِّدَّ مِنَ الضِّدِّ. والبَرْقُ: مَا يَرَاهُ الرائي مِنْ نُورٍ خاطفٍ لامِعٍ يَظْهَرُ مِنْ خِلالِ السَّحَابِ نَتيجَةَ احْتِكَاكِ سَحَابَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيِ الشُّحْنَةِ الكَهْرُبائيَّةِ، هذا ما فسَّر به عُلَمَاءُ الفيزياءِ هذه الظاهرةَ. وقدْ وَرَدَ في الأَثرِ أنَّ البَرْقَ لَمَعَانُ سَوْطٍ مِنْ نُورٍ يَزْجُرُ بِهِ المَلَكُ السَّحابَ، ولا تعارضَ. انْظُرْ سُنَنَ البَيْهَقِيِّ الكُبْرَى: بابَ ما جاءَ في الرَّعْدِ، (3/363 ـ رقم: 7267). وَأخرج ابْن أبي حَاتِم عَن أبي هُرَيْرَة ـ رَضِي الله عَنهُ ـ قَالَ: الْبَرْق اصطفاق البَرَدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (كِتَابُ العَظَمَةِ) عَن كَعْبٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: الْبَرْق تَصْفِيقُ الْمَلَكِ الْبَرَدَ، وَلَو ظَهَرَ لأَهْلِ الأَرْضِ لَصُعِقُوا. وَأخرج عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ والخَرَائطِيُّ، فِي مَكَارِم الْأَخْلَاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ مِنْ طُرُقٍ عَنْ عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ: الْبَرْقُ مَخَارِيقُ مِنْ نَارٍ بِأَيْدِي مَلَائِكَةِ السَّحَاب يَزْجُرُونَ بِهِ السَّحَابَ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي (كِتَابُ الْمَطَرِ)، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي (العَظَمَةِ)، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ) عَنْ أَبي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُول: ((إِنَّ اللهَ يُنشِئُ السَّحَابَ، فَيَنْطِقُ أَحْسَنَ النُّطْقِ، ويَضْحَكُ أَحْسَنَ الضَّحِكِ)). قَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ: النُّطْقُ: الرَّعْدُ، والضَّحِكُ: الْبَرْقُ. وَأَخْرَجَ الْعَقِيلِيُّ، وَضَعَّفَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يُنْشِئُ اللهُ السَّحَابَ، ثُمَّ يُنْزِلُ فِيهِ المَاءَ، فَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ ضَحِكِهِ، وَلَا شَيْءَ أَحْسَنُ مِنْ مَنْطِقِهِ، ومَنْطِقُهُ الرَّعْدُ، وضَحِكُهُ الْبَرْقُ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ بِجَادٍ الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ وَالْبَرْقُ طَرَفُ مَلَكٍ ْيُقَالَ لَهُ رُوفِيلُ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قال: ((إنَّ مَلَكًا مُوَكَّلًا بِالسَّحَابِ يَلُمُّ الْقَاصِيَةَ، وَيَلْحُمُ الرَّابِيَةَ، فِي يَدِهِ مِخْرَاقٌ، فَإِذَا رَفَعَ بَرَقَتْ، وَإِذَا زَجَرَ رَعَدَتْ، وَإِذَا ضَرَبَ صَعَقَتْ)).
و "خوفًا" أَيْ: مِمَّا قَدْ يَنْشَأُ عَنِ البَرْقِ مِنَ الصَّواعِقِ وأُمُورٍ هائلَةِ الضَرَرِ. و "طَمَعًا" أي: في نُزولِ الغَيْثِ الذي غَالِبًا ما يتبعُ البَرْقَ. والمرادُ بالخوفِ وَالطَّمَعِ، أَنَّ وُقُوعَ الصَّوَاعِقِ يُخَوِّفُ عِنْدَ لَمْعِ الْبَرْقِ، وَيُطْمِعُ فِي الْغَيْثِ. وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخ، عَنْ قَتَادَة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْله تعالى: "هُوَ الَّذِي يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا" قَالَ: "خَوْفًا" للْمُسَافِر، يَخَافُ أَذَاهُ ومَشَقَّتَهُ، و "طَمَعًا" للمُقيمِ يَطْمَعُ فِي رِزْقِ اللهِ، ويَرْجُو بَرَكَةَ الْمَطَرِ ومَنْفَعَتَهُ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يُريكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا" قَالَ" "خوفًا" لأَهْلِ الْبَحْرِ، وَ "طَمَعًا" لأَهْلِ الْبَرِّ. وقريبٌ منْهُ ما رُويَ عنِ بْنِ عبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما. وَقَرِيبٌ مِنْهُ أيضًا مَا ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ وَهُوَ: خَوْفًا لِلْبَلَدِ الَّذِي يَخَافُ ضَرَرَ الْمَطَرِ لَهُ، وَطَمَعًا لِمَنْ يَرْجُو الِانْتِفَاعَ بِهِ. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ: خَوْفًا مِنَ الْعِقَابِ، وَطَمَعًا فِي الثَّوَابِ. وَأَخرْجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يريكم الْبَرْق خوفًا وَطَمَعًا" قَالَ: الْخَوْفُ: مَا يُخَافُ مِنَ الصَّوَاعِقِ، والطَمَعُ: الْغَيْثُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّهُ كَنَّى بِالْبَرْقِ عَنِ الْمَاءِ، لَمَّا كَانَ الْمَطَرُ يُقَارِبُهُ غَالِبًا وَذَلِكَ مِنْ بَابِ إِطْلَاقِ الشَّيْءِ مَجَازًا عَلَى مَا يُقَارِبُهُ غَالِبًا، كقَولِ أُميَّة بن أبي الصَّلْت:
رجلٌ وثَوْرٌ تَحْتَ رِجْلِ يَمِينِهِ .............. والنَّسْرُ لِلْأُخْرَى وَلَيْثٌ مُرْصَدُ
قولُهُ: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} يُنْشِئُ السَّحابَ: يَخْلُقُهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقالَ" قَالَ: الَّذِي فِيهِ المَاءُ. والسَّحابُ: الغَيْمُ المُسْحَبُ، وهوَ اسْمُ جِنْسٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ، وَيُفْرَدُ وَيُجْمَعُ، و "الثِّقالَ" الحاملُ للمَطَرِ المُثْقَلُ بِهِ.
قولُهُ تَعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا} هُوَ: ضميرٌ منفصلٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الرفعِ، مُبْتَدَأٌ. و "الَّذِي" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ، خَبَرُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "يُرِيكُمُ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ عَنِ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المقدَّرةُ على آخِرِهِ لثِقَلِ ظهرها على الياءِ. وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى الاسْمِ المَوْصُولِ، وكافُ الخِطابِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ، لأَنَّ فِعْلَ الإرَاءةَ هنا بَصَرِيَّةٌ فيَتَعَدَّى بِالهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولَيْنِ، والمِيمُ عَلامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ، و "البرقَ" مفعولُهُ الثاني منصوبٌ بهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "خَوْفًا" وَ "طَمَعًا" حالانِ مِنَ الكافِ في "يُرِيكُمُ"؛ أَيْ: حَالَ كَوْنِكمْ خَائِفينَ وطامِعِينَ، ويَجُوزُ أَنْ يَكُونَا مَصْدَرَيْنِ نَاصِبُهُمَا مَحْذُوفٌ، أَيْ: يَخَافُونَ خَوْفًا ويَطْمَعُونَ طَمَعًا. وَذَكَرَ العُكْبُرِيُّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ، ومَنَعَ الزَمَخْشَريُّ ذَلِكَ؛ لِعَدَمِ اتِّحادِ الفاعِلِ، يَعْنِي: أَنَّ فاعِلَ الإراءَةِ هوَ اللهُ تَعَالَى، وَفاعِلُ الخَوْفِ والطَّمَعِ، هوَ ضَميرُ المُخاطَبينَ، فاخْتَلَفَ فاعِلُ الفِعْلِ المُعَلّلِ وفاعِلُ العِلَّةِ، ويُمْكِنُ أَنْ يُرَدَّ اعْتراضُ الزمَخشَرِيِّ بِأَنَّ المَفْعُولَ فِي قُوَّةِ الفاعِلِ، فإنَّ مَعْنَى يُريكم: يَجْعَلُكُمْ رائينَ فَتَخافونَ وتَطْمَعُونَ، ومثلُهُ في المَعْنَى قَوْلُ النَّابِغَةِ الذُبْيانيِّ:
وحَلَّتْ بيوتي في يَفاعٍ مُمَنِّعٍ ............. تَخال به راعي الحَمولةِ طائرا
حِذاراً على أن لا تُنال مَقَادَتي ............ ولا نِسْوتي حتى يَمُتْنَ حَرائِرا
فـ "حِذارًا" مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وفاعِلُهُ هوَ المُتَكَلِّمُ، والفِعْلُ المُعَلِّلُ "حَلَّتْ" فاعِلُهُ "بيوتي"، فقدِ اخْتَلَفَ الفاعِلُ، لَكِنْ لَمَّا كانَ التَقْديرُ: وأَحْلَلْتُ بُيوتي حِذارًا، صَحَّ ذَلِكَ. وجَوَّزَ الزَمخشَرِيُّ: ذَلِكَ أَيْضًا عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ فَقالَ: إلاَّ عَلَى تَقْديرِ حَذْفِ المُضافِ، أَيْ: إِرادَةَ خَوْفٍ وطَمَعٍ. وجَوَّزَهُ أَيْضًا عَلَى أَنَّ بَعْضَ المَصَادِرِ نابٌ عَنْ بَعْضٍ، يَعْنِي: أَنَّ الأَصْلَ: يُريكُمُ البَرْقَ إِخافَةً وإِطْماعًا؛ فإنَّ المُرْئِيَّ والمُخِيفَ والمُطْمِعَ هُوَ اللهُ تَعَالى، ونَابَ "خوفًا" عَنْ "إِخَافَةً"، و "طَمَعًا" عَنْ "إِطْماعًا" نَحْوَ: قولِهِ في سورةِ نوحٍ: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرْضِ نَبَاتًا} الآية: 17، وذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ اتِّحادَ الفاعِلِ لَيْسَ بِشَرْطٍ.
قولُهُ: {وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ} الوَاوُ: للعطفِ، و "يُنْشِئُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ عَنِ الناصِبِ والجازمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ الضمَّةُ الظاهرَةُ على آخِرِهِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ الاسْمِ الموصولِ، و "السَّحَابَ" مَفعولٌ بِهِ مَنْصوبٌ. و "الثِّقَالَ" صِفَةٌ لِـ "السَّحَابَ" مَنْصُوبَةٌ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يُرِيكُمُ" عَلَى كَوْنِها صِلَةَ المَوْصُولِ.