فيضُ العليم ... سورةُ الرعد، الآية: 8
اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى} تَقَدَّمَ أَنَّ المُشركينَ طَلَبُوا آيَاتٍ أُخْرَى غَيْرَ التي جاءَ بِها رسولُ اللهِ محمَّدٌ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فبَيَّنَ لهمُ اللهُ تعالى في هذه الآيةِ المُبَارَكَةِ أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ، فَبَيَّنَ لهم أَنَّهُ يَعْلَمُ "مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى ... ". وهو انْتِقَالٌ إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى تَفَرُّدِهِ ـ سبحانَهُ، بِالْإِلَهِيَّةِ، فَهُوَ مُتَّصِلٌ بِقولِهِ في الآيةِ الثانية مِنْ هذِهِ السُّورَةِ المباركة: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ ...} فَهَذِهِ الآيةُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ. بعدَ أنْ قَامَتِ الْبَرَاهِينُ الْعَدِيدَةُ بِالْآيَاتِ السَّابِقَةِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ تَعَالَى بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، وَعَظِيمِ قُدْرَتِهِ الَّتِي أَوْدَعَ بِهَا فِي الْمَخْلُوقَاتِ دَقَائِقَ الْخِلْقَةِ، انْتَقَلَ الْكَلَامُ إِلَى إِثْبَاتِ الْعِلْمِ لَهُ ـ سبحانهُ وتَعَالَى، بِدَقَائِقِ الْأَشْيَاءِ وَعَظَائِمِهَا عِلْمًا عَامًّا تامًّا، وَلِذَلِكَ جَاءَ افْتِتَاحُ هذه الآيةِ عَلَى الْأُسْلُوبِ الَّذِي افْتَتَحَ بِهِ الْغَرَضَ السَّابِقَ فابْتُدِئَ بِاسْمِ الْجَلَالَةِ كَمَا ابْتُدِئَ بِهِ هُنَاكَ. وَجِيءَ هنا بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ الْمُفِيدِ لِلتَّجَدُّدِ وَالتَّكْرِيرِ لِإِفَادَةِ أَنَّ عِلْمَهُ هذا مُتَكَرِّرٌ مُتَجَدِّدُ التَّعَلُّقِ بِمُقْتَضَى أَحْوَالِ الْمَعْلُومَاتِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَالْمُتَكَاثِرَةِ عَلَى نَحْوِ مَا قُرِّرَ هناك فِي قَوْلِهِ: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ}. فَذُكِرَ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللهِ مَا لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ لَا يَعْلَمُهُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ يَوْمَئِذٍ وَلَا تُسْتَشَارُ فِيهِ آلِهَتُهُمْ عَلَى وَجْهِ الْمِثَالِ بِإِثْبَاتِ الْجُزْئِيِّ لِإِثْبَاتِ الْكُلِّيِّ، فَمَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى هِيَ أَجِنَّةُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ. وَلِذَلِكَ جِيءَ بِفِعْلِ الْحَمْلِ دُونَ الْحَبَلِ لِاخْتِصَاصِ الْحَبَلِ بِحَمْلِ الْمَرْأَةِ. و "مَا" هنا إِمَّا أَنْ تَكُونَ مَوْصُولَةً، وإِمَّا أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً، فَإِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً، فَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُهُ مِنَ الْوَلَدِ أَهُوَ ذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى، وَهل هو تَامُّ الخلقةِ أَوْ نَاقِصٌ، وَهلْ هو جميلُ المَنْظَرِ أَوْ قَبِيحٌ، طَوِيلٌ أَوْ قَصِيرٌ، إلى آخِرِهِ مِنَ الصفاتِ والأَحْوَالِ الْحَاضِرَةِ فيهِ وَالْمُتَرَقَّبَةِ. أَمَّا إِذَا كانتْ مَصْدَرِيَّةٌ فَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ حَمْلَ كُلِّ أُنْثَى وَأَحْوَالَهُ وأَوْقَاتَهُ ولَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ.
قولُهُ: {وما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ} الْمُرَادُ وَمَا تَغِيضُهُ الْأَرْحَامُ إِلَّا أَنَّ الضَّمِيرَ حُذِفَ، والْغَيْضُ هُوَ النُّقْصَانُ، ويُقَالُ: غَاضَ المَاءُ، أَيْ نَقُصَ مِنْ نَفسِهِ، وغُضْتُ الماءَ أَيْ: أَنْقَصْتُهُ، فيأتي لازمًا ومتعدِّيًا. والزْيادةُ هُنَا الأْخُذُ، كما قَال تَعَالَى في سُورَةِ الكَهْفِ: {ولَبِثُوا في كَهْفِهم ثلاثَ مِئَةٍ سِنينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} الآيةَ: 25، وهو كقولِكَ: أَخَذْتُ حَقِّي مِنْ فلانٍ وَازْدَدْتُ مِنْهُ كَذَا. ولِغَيْضِ الرَّحِمِ وَازْدِيادِهِ وُجُوهٍ: فَإِنَّ الرَّحِمَ قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى وَاحِدٍ وَاثْنَيْنِ أَوَ أَكْثَرَ، والْوَلَدُ قَدْ يَكُونُ تَامًّا أَو خديجًا. ومُدَّةُ وِلَادَتِهِ قَدْ تَكُونُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ أَوَ أَزْيَدَ وقد تكونُ أقلَّ، ومَا يَنْقُصُ بِالسَّقْطِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتِمَّ وَمَا يَزْدَادُ بِالتَّمَامِ. ومَا يَنْقُصُ بِظُهُورِ دَمِ الْحَيْضِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إِذَا سَالَ الدَّمُ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ ضَعُفَ الْوَلَدُ وَنَقَصَ. وَبِمِقْدَارِ حُصُولِ ذَلِكَ النُّقْصَانِ يَزْدَادُ أَيَّامَ الْحَمْلِ لِتَصِيرَ هَذِهِ الزِّيَادَةُ جَابِرَةً لِذَلِكَ النُّقْصَانِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: كُلَّمَا سَالَ الْحَيْضُ فِي وَقْتِ الْحَمْلِ يَوْمًا زَادَ فِي مُدَّةِ الْحَمْلِ يَوْمًا لِيَحْصُلَ بِهِ الْجَبْرُ وَيَعْتَدِلَ الْأَمْرُ. وروى ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ: "يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ" قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا تَزْدَادُ عَلَى تِسْعَةٍ وَمَا نَقَصَ عَنِ التِّسْعَةِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَضَعَتْنِي أُمِّي وَقَدْ حَمَلَتْنِي فِي بَطْنِهَا سَنَتَيْنِ وَوَلَدَتْنِي وَقَدْ خَرَجَتْ ثَنِيَّتَيْ. وأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرَ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ" قَالَ: غَيْضُوضَتُهَا السِّقْطُ. وأَخرجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رضي اللهُ عنهُ، قال: "وَمَا تَزْدَادُ" ارْتِفَاعُ الْحَيْضِ فَلا تَرَاهُ حَتَّى تَلِدَ. وأَخرَجَ ابْنُ أَبي شيبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ وَابْنُ الْمُنْذرِ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ ـ رضي اللهُ عنهما: "يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ" قَالَ: حَمْلُهَا تِسْعَةُ أَشْهُرٍ "وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ" قَالَ: إِذَا رَأَتِ الدَّمَ حَشَّ الْوَلَدُ، وَإِذَا لَمْ تَرَ الدَّمَ عَظُمَ الوَلَدُ. وأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَأَبُو الشَّيْخ. وقالَ عِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: "ما تَغيضُ الأَرْحَامُ" الغَيْضُ نَقْصٌ في الوَلَدِ، و "ما تَزْدادُ" في مُقَابَلَةِ أَيَّامِ الحَيْضِ مِنْ أَيَّامِ الحَمْلِ، لأَنَّها كُلَّما حاضَتْ عَلَى حَمْلِها يَومًا ازْدادَتْ في طُهْرِهَا يَوْمًا حَتَّى يَسْتَكْمِلَ حَمْلُها تَسْعَةَ أَشْهُرٍ طُهْرًا. وهذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الحامِلَ قد تَحيضُ، وهوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ، وأَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِي ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وهوَ قولُ السيدةِ عائشةَ أُمِّ المؤمنينَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها وأرضاها، فإنَّها كانَتْ تُفْتِي النِّساءَ الحَوامِلَ بتركِ الصلاةِ إذا حِضْنَ. فإنَّ دَمَ الْحَيْضِ فَضْلَةٌ تَجْتَمِعُ فِي بَطْنِ الْمَرْأَةِ فَإِذَا امْتَلَأَتْ عُرُوقُهَا مِنْ تِلْكَ الْفَضَلَاتِ فَاضَتْ وَخَرَجَتْ، وَسَالَتْ مِنْ دَوَاخِلِ تِلْكَ الْعُرُوقِ، ثُمَّ إِذَا سَالَتْ تِلْكَ الْمَوَادُّ امْتَلَأَتْ تِلْكَ الْعُرُوقُ مَرَّةً أُخْرَى. وقالَ السُّدِّيُّ وقَتادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "ومَا تَغيضُ الأَرْحامُ" مَنْ وَلَدَتْهُ قَبْلُ "وَمَا تَزْدادُ" مَنْ تَلِدُهُ مِنْ بَعْدُ.
قولُهُ: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} عِنْدَهُ: الْعِنْدِيَّةِ إِمَّا هِيَ الْعِلْمُ لقولِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، قَوْلُهُ: "وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ" يَعْنِي ذَلِكَ يَعْلَمُهُ. وَالمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى يَعْلَمُ كَمِّيَّةَ كُلِّ شَيْءٍ وَكَيْفِيَّتَهُ عَلَى الوَجْهِ الْمُفَصَّلِ الْمُبَيَّنِ، ووُقُوعُ التَّغْيِيرِ مُمْتَنِعٌ فِي تِلْكَ الْمَعْلُومَاتِ. وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الْعِنْدِيَّةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّصَ كُلَّ حَادِثٍ بِوَقْتٍ مُعَيَّنٍ وَحَالَةٍ مُعَيَّنَةٍ بِمَشِيئَتِهِ الْأَزَلِيَّةِ وَإِرَادَتِهِ السَّرْمَدِيَّةِ، وأَنَّهُ تَعَالَى وَضَعَ أَشْيَاءَ كُلِّيَّةً وَأَوْدَعَ فِيهَا قُوًى وَخَوَاصَّ، وَحَرَّكَهَا بِحَيْثُ يَلْزَمُ مِنْ حَرَكَاتِهَا الْمُقَدَّرَةِ بِالْمَقَادِيرِ الْمَخْصُوصَةِ أَحْوَالٌ جُزْئِيَّةٌ مُعَيَّنَةٌ وَمُنَاسَبَاتٌ مَخْصُوصَةٌ مُقَدَّرَةٌ، كما هو الحالُ اليومَ، في الأَجهزةِ الإلكترونيَّةِ التي تُبَرْمَجُ فتَعْمَلُ وِفْقَ البرنامجِ الموضوعِ لها وَيَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفْعَالُ الْعِبَادِ وَأَحْوَالُهُمْ وَخَوَاطِرُهُمْ، لكنَّ الأَصحَّ عِنْدَنا أَنَّهُ ـ سُبْحَانَهُ، هوَ الفاعلُ وَحْدَهُ في كلِّ الوجودِ وكلِّ موجودٍ، وهو المحرِّكُ لكلِّ دقيقةٍ وجَلِيلَةِ في كُلِّ لَحْظَةٍ وكلِّ وَقْتٍ، وأَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ إِنَّما يَجْري بِقدْرٍ وقَدَرٍ لَا يُجَاوِزُهُ أَبدًا وَلَا يَنْقُصُ عَنْهُ، كَمَا هُوَ مُقَدَّرٌ في سابقِ علمِهِ ـ سبحانَهُ وتعالى، وهو كما قَالَ في سُورَةِ القَمَرِ: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ * وما أمْرُنَا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبَصَرِ} الآيتانِ: 49 و 50، وَكمَا قَالَ فِي الآية الثانيةِ مِنْ سُورةِ الْفُرْقَانِ: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}. وأَخرجَ ابْنُ جريرٍ، وابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، قالَ: قَوْلُهُ تعالى: "وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ" أَيْ بِأَجَلٍ، حَفِظَ أَرْزَاقَ خَلْقِهِ وَآجَالَهِمْ وَجَعَلَ لِذَلِكَ أَجَلًا مَعْلُومًا. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتِمٍ عَنْ مَكْحُولٍ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: الْجَنِينُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ لَا يَطْلُبُ وَلا يَحْزَنُ وَلا يَغْتَمُّ، وَإِنَّمَا يَأْتِيهِ رِزْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ مِنْ دَمِ حَيْضَتِهَا، فَمِنْ ثَمَّ لَا تَحِيضُ الْحَامِلُ، فَإِذَا وَقَعْ إِلَى الأَرْضِ اسْتَهَلَّ، وَاسْتِهْلالُهُ اسْتِنْكَارًا لِمَكَانِهِ، فَإِذَا قُطِعَتْ سُرَّتُهُ، حَوَّلَ اللهُ رِزْقَهُ إِلَى ثَدْي أُمِّهِ، فَيَأْكُلُهُ، فَإِذَا هُوَ بَلَغَ، قَالَ هُوَ الْمَوْتُ، أَوِ الْقَتْلُ، قَالَ: أَنَّى لِي بِالرِّزْقِ؟ فَيَقُولُ مَكْحُولٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَا وَيْحَكَ، غَذَّاكَ وَأَنْتَ فِي بَطْنِ أُمِّكَ، وَأَنْتَ طِفْلٌ صَغِيرٌ، حَتَّى إِذَا اشْتَدَدْتَ، وَعَقَلْتَ، قُلْتَ: هُوَ الْمَوْتُ أَوِ الْقَتْلُ، أَيْنَ لِي بِالرِّزْقِ. ثُمَّ قَرَأَ مَكْحُولٌ هذه الآيةَ: "يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ". والْمِقْدَارُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ بِقَرِينَةِ الْبَاءِ، أَيْ بِتَقْدِيرٍ، وَمَعْنَاهُ: التَّحْدِيدُ وَالضَّبْطُ.
قولُهُ تَعَالى: {اللهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى} اللهُ: لفظُ الجلالةِ مرفوعٌ بالابْتِداءِ، و "يعلمُ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ على "الله" تعالى، وجُمْلَةُ "يَعْلَمُ" في محلِّ الرفعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. ويَجوزُ أنْ يُعْرَبَ لفظُ الجَلالَةِ خَبَرًا لمُبْتَدَأٍ مَحذوفٍ تقديرُهُ (هو)، وهذا إنَّما يصحُّ عَلَى قوْلِ مَنْ فَسَّر {هادٍ} منَ الجملةِ التي قبلَها بِأَنَّهُ هوَ اللهُ تَعَالى، فَكَأَنَّ هَذِهِ الجُمْلَةَ جاءتْ تَفْسِيرًا لَهُ. و "مَا" إِمَّا مَوْصُولَةٌ اسميةً، والعائدُ مَحْذوفٌ، أَيْ: ما تَحْمِلُهُ. ويجوزُ أَنْ تَكونَ مَصْدَرِيَّةً فلا عَائِدَ. ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ اسْتِفْهامِيَّةً، وفي مَحَلِّها حينئذٍ وجهانِ، الأوَّلُ: أَنَّها في مَحَلِّ رَفْعٍ بالابْتِداءِ، وخبرُها "تحملُ" والجُمْلَةُ مُعَلِّقةٌ للعِلْمِ. والثاني: أَنَّها نَكِرةٌ موصوفةٌ مبنيَّةٌ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بِهِ لِـ "يَعْلَمُ"؛ لأَنَّهُ بِمَعْنَى عَرَفَ، وهوَ أَوْلى، لأَنَّهُ غيرُ مُحْوِجٍ إِلى حَذْفِ عائِدٍ، ولا سِيَّمَا عِنْدَ البَصْرِيِّينَ فإنَّهم لا يُجيزونَ قولَكَ: (زَيْدُ ضَرَبْتَ). و "تَحْمِلُ" فعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، و " كُلُّ" فاعِلُهُ مرفوعٌ وهو مُضافٌ، و "أُنْثَى" مجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وعَلامَةُ جَرِّهِ الكَسْرَةُ المُقَدَّرةُ عَلى الأَلِفِ للتعذُّرِ، والجُمْلَةُ الفِعلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا"، أَوْ صِفَةٌ لَها، والعائدُ هنا أوِ الرّابِطُ محذوفٌ والتَقْديرُ: ما تَحمِلهُ كلُّ أُنْثى.
قوْلُهُ: {وما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "مَا" مثلُ "مَا" الأُولى مَعْطُوفَةٌ عَلَيْها. و "تَغِيضُ" فِعْلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، و "الْأَرْحَامُ" فاعلُهُ مرفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" المَوْصولِ، والعائدُ مَحْذوفٌ والتقديرُ: وما تَغِيضُهُ الأَرْحامِ. و "ومَا" كسابقتِها معطوفةٌ عَلَيها. و "تَزْدَادُ" مثلُ "تغيض" معطوفٌ عليهِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ تقديرُه (هي) يَعُودُ عَلى "الْأَرْحَامُ"، والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" المَوْصولةِ، والعائدُ مَحذوفٌ والتَقديرُ: وما تَزْدادُهُ الأَرْحامُ.
قولُهُ: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ} الوَاوُ: للاسْتِئنافِ، و "كُلُّ" مرفوعٌ بالابتِداءِ مُضافٌ، و "شَيْءٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عِنْدَهُ" منصوبٌ على الظَّرْفِيَّةِ مُتَعلِّقةٌ بِصِفَةٍ لِـ "شَيْءٍ"، وهو مُضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. وقالَ أَبو البَقاءِ العُكْبُريُّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "كُلُّ". و "بِمِقْدَارٍ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقدَّرٍ لِلمُبتَدَأِ: "كلُّ"، و "مِقْدارٍ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.