فيض العليم ... سورة الرعد، الآية: 24
سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} تَحِيَّةٌ يُقْصَدُ مِنْهَا تَأْنِيسُ أَهْلِ الْجَنَّةِ. وهَذَا التَّكْرِيمُ بِالسَّلَامِ بِسَبَبِ صَبْرِكُمْ على طاعةِ ربِّكم وعن معصيتِهِ، وصَبْرِكم عَلى مَا ابْتَلاكُمُ اللهُ بِهِ مِنْ مَصائِبِ الدُنْيا، ومَشَاقِّ الحَياةِ ومَتاعِبِها ومَصاعِبِها.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصنعانيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ أَبي عُمْرَان الْجُونِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ" قَالَ: عَلَى دِينِكُمْ، و "فَنِعْمِ عُقْبَى الدَّارِ" قَالَ: فَنِعمَ مَا أَعْقَبَكُمُ اللهُ تَعَالَى مِنَ الدُّنْيَا الْجَنَّةُ.
وَأخرج ابْن أبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تعالى: "سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ" قَالَ: صَبَرُوا عَلَى فُضُولِ الدُّنْيَا.
وَأَخْرجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْحَارِثِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ" قَالَ: عَلَى الْفَقْرِ فِي الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَالْبَزَّارُ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ حِبَّان، وَأَبُو الشَّيْخِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبِ الإِيمانِ)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو ـ رضيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ خَلْقِ اللهِ تَعَالَى فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرينَ الَّذينَ تُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وتُتَّقَى بِهِمُ المَكارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهم وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ، لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً، فَيَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِمَنْ يَشَاءُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ: ائْتُوهُمْ فَحَيُّوهم، فَتَقولُ الْمَلَائِكَةُ: رَبَّنَا نَحْنُ سُكَّانُ سَمَائِكَ وخِيرَتَكَ مِنْ خَلْقِكَ، أَفَتَأْمُرُنَا أَنْ نَأْتيَ هَؤُلَاءِ فَنُسَلِّمَ عَلَيْهِم؟. قَالَ اللهُ تَعَالَى: إِنَّ هَؤُلَاءِ عبَادِي كَانُوا يَعْبُدُونَني فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا، وتُسَدُّ بِهِمُ الثُّغُورُ، وتُتَّقَى بِهِمُ المَكَارِهُ، وَيَمُوتُ أَحَدُهُمْ وَحَاجَتُهُ فِي صَدْرِهِ لَا يَسْتَطِيعُ لَهَا قَضَاءً.
فَتَأْتيهِمُ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَيَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ "سَلام عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنعم عُقبى الدَّار".
قولُهُ: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} عُقْبَى الدَّارِ: أَيْ: العاقِبَةُ المَحْمُودَةُ في الدَّارِ الآخِرَةِ. يُبَيِّنُ لنا اللهُ تَعَالَى أَنَّ ما أَعَدَّهُ في الآخرةِ مِنْ دارِ الخُلْدِ والإقامةِ الدائِمَةِ والنعيمِ المقيمِ للمُؤمِنِينَ الصَّابِرينَ مِنْ عِبادِهِ، والذينَ تقدَّمَ ذِكْرُهم ووَصْفُهم، إنَّما هو أَفضلُ الدارِ وخيرُ الإقامة، وهذا تَفْرِيعَ ثَنَاءٍ عَلَى حُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ. وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ مَقَامِ الْخِطَابِ عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ دَارُ عُقْبَاكُمْ.
وأَخرَجَ ابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ يَأْتِي أُحُدًا كُلَّ عَامٍ، فَإِذا تَفَوَّهَ الشِّعْبَ، سَلَّمَ عَلَى قُبُورِ الشُّهَدَاءِ، فَقَالَ: "سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ".
وَأَخْرجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَأْتِي قُبُورَ الشُّهَدَاءَ عَلَى رَأْسِ كُلِّ حَوْلٍ، فَيَقُولُ: "سَلامٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ" وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ، وَعُثْمَانُ ـ رضيَ اللهُ عنهم.
قولُهُ تعالى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ} سَلَامٌ: مَرْفُوعٌ بالابْتِداءِ، وسَوَّغَ الابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ قَصْدُ الدُّعاءِ. و "عَلَيْكُمْ" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بخبَرِ المبتدَأِ، والكافُ: ضَميرُ الخطابِ متَّصلٌ بهِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المذكَّرِ. وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقَولَ لِقَولٍ مَحْذوفٍ هو حالٌ مِنْ فاعِلِ "يَدْخُلُونَ"، والتَقْديرُ: والمَلائكةُ يَدْخُلونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ حَالَةَ كَوْنِهم قائلينَ: سَلامٌ عَلَيْكم. و "بِمَا" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ للسَبَبِيَّةِ، مُتَعلِّقٌ بالاسْتِقْرارِ الذي تعلَّقَ بِهِ الخَبَرُ، أَيْ: هَذَا الثَوابُ الجَزيلُ بِمَا صَبَرْتمْ. ويَجوزُ أنْ تكونَ بَدَلِيَّةً، أَيْ: بَدَلَ صَبْرِكم. و "ما" مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ بِسَبَبِ صَبْرِكم، وَهوَ عِنْدَ العُكْبُريِّ لا يَتَعَلَّقُ بِـ "سَلامٌ" لأَنَّهُ لا يُفْصَلُ بَيْنَ المَصْدَرِ ومَعْمولِهِ بالخَبَرِ، وقدْ أَجَازَهُ الزمخشريُّ، والتقديرُ: نُسَلِّمُ عَلَيْكم، ونُكْرِمُكم بِصَبْرِكم. لأنَّ ذلك المنعَ إنَّما يكونُ في المَصْدَرِ المُؤَوَّلِ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفِعْلٍ، وَهَذا المَصْدَرُ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ. و "صَبَرْتُمْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ تاءُ الفاعِلِ، وهيَ ضَمِيرٌ متَّصِلٌ بهِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المذكَّرِ. والجُمْلَةُ صِلَةُ "ما" المَصْدَرِيَةِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ، و "ما" مَعَ صِلَتِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرورٍ بالباءِ والتقديرُ: بِسَبَبِ صَبْرِكم في الدُنْيا عَلَى مَشَاقِّ التَكاليفِ.
قولُهُ: {فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} الفاءُ: للعطفِ. و "نعمَ" فِعْلٌ مَاضٍ لإنْشاءِ المَدْحِ، مبنيٌّ على الفتحِ. و "عُقْبَى" فَاعِلُهُ مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الضمَّةُ المقدَّرةُ على آخرِهِ لِتَعَذُرِ ظُهُورِهَا عَلَى الأَلِفِ، وهوَ مُضافٌ، و "الدَّارِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وجُمْلَةُ "نعمَ" في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ هُوَ المَخْصوصُ بالمَدْحِ، والتقديرُ: "جنَّاتُ عَدْنٍ" وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "سَلَامٌ عَلَيْكُمْ" عَلَى كَوْنِها مَقُولًا لِقَوْلٍ مَحْذوفٍ.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {فنِعْمَ} بِكَسْرِ النُّونِ وسُكُونِ العَيْنِ، وقرَأَ ابْنُ يَعْمُرَ بفَتْحِها وكَسْرِها، وَهُوَ الأَصْلُ كَمَا في قَوْلِ الشَّاعِرِ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ فِي وَصْفِ الخَيْلِ:
خَالَتِي والنَّفْسُ قِدْمًا إِنَّهم ............... نَعِمَ السَّاعُون في القومِ الشُّطُرْ
وقرَأَ ابْنُ وَثَّابٍ بالفَتْحِ والسُّكونِ، وهِيَ تَخْفيفُ الأَصْلِ، ولُغَةُ تَميمٍ، يُسَكِّنُونَ عَيْنَ "فَعِل" مُطْلَقًا.