فيض العليم ... سورةُ يوسُفُ، الآية: 57
وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
قولُهُ ـ جلَّ وعلا: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} يُخْبِرُ ـ سبحانَهُ وتعالى، أَنَّ مَا ادَّخَرَهُ في الآخِرَةِ لِنَبِيِّهِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، هو أَكْثَرُ وأَعْظَمُ وأَجَلُّ، مِمَّا خَوَّلَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فيه، وبَسْطِ سلطانِهِ عليهِ، وما أنعَمَ به عليهِ مِنَ النُّفُوذِ في الدُنْيا. وهو كَمَا قالَ في حَقِّ نبيِّهِ سُلَيْمَانَ، عَلَيْهِ السَّلامُ، بما تفضَّلَ به عليه: {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} سورة (ص)، الآيتان: 93 و 40. وقيل المعنى: أَنَّ أَجْرَ الآخِرَةِ خَيْرٌ مِنَ التَشَاغُلِ في الدُنْيَا الفَانِيَةِ الزَّائلَةِ. وعَلَى هَذا المعنى يُحْمَلُ قولُهُ: "ولَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ" وإنْ لَّمْ يَكُنْ في التَشَاغُلِ بالدُنْيا خَيْرٌ، فالعَرَبُ تقولُ: زَيْدٌ أَعْقَلُ الرَّجُلَيْنِ، وإِنْ لَّمْ يَكُنْ للثاني عَقْلٌ البتَّةَ، ومِنْ ذلكَ قولُهُ تَعَالى في سورةِ الفُرقانِ: {أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا} الآية: 24، ولا خَيْرَ في مُسْتَقَرِّ أَصْحابِ النَّارِ البَتَّةَ. لِأَنَّ أَجْرَ الْآخِرَةِ دَائِمٌ ثابتٌ، وَأَجْرُ الدُّنْيَا متحوِّلٌ مُنْقَطِعٌ.
قولُهُ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} ولَثَوَابُ اللهُ في الآخِرَةِ "للذينَ آمنوا" باللهِ ورَسُولِهِ وصَدَقوا في إيمانِهم، خيرٌ مِمَّا أَعْطَى اللهُ نبيَّهُ يُوسُفَ في الحياةِ الدُنْيا مِنْ تَمْكينٍ في أَرْضِ مِصْر، و "كانوا يَتَّقونَ"، اللهَ، فَيَخافونَ عِقابَهُ على مُخِالَفَةِ أَمْرِهِ واسْتِحْلالِ مَحَارِمِهِ، فَيُطِيعونَهُ في كلِّ مَا أَمَرَهُمْ بِهِ ونَهاهمْ عَنْهُ. وَالتَّعْبِيرُ فِي جَانِبِ الْإِيمَانِ بِصِيغَةِ الْمَاضِي وَفِي جَانِبِ التَّقْوَى بِصِيغَةِ الْمُضَارِعِ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ عَقْدُ الْقَلْبِ الْجَازِمُ فَهُوَ حَاصِلٌ دُفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمَّا التَّقْوَى فَهِيَ مُتَجَدِّدَةٌ بِتَجَدُّدِ أَسْبَابِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَاخْتِلَافِ الْأَعْمَالِ والأَزْمَانِ. وَظَاهِرُ الْآيَةِ الْعُمُومُ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ مُتَّقٍ.
أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم وَأَبُو الشَّيْخ عَن مَالكِ بْنِ دِينَارٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَأَلتُ الْحَسَنَ البَصْرِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقلتُ: يَا أَبَا سَعيدٍ قَوْلُهُ: "ولَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ للَّذينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ" مَا هِيَ قَالَ: يَا مَالِكُ اتَّقوا الْمَحَارِمَ، خَمُصَتْ بُطُونُهم، تَرَكُوا الْمَحَارِم وهُمْ يَشْتَهونَها.
قولُهُ تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ. واللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، أوِ ابتِدائيَّةٌ للتوكيدِ. و "أَجْرُ" مُبْتَدَأٌ مرفوعٌ وهو مضافٌ، و "الآخِرَةِ" مضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ. و "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ، وهذه الجُمْلَةُ الإسْمِيَّةُ واقعةٌ في جوابِ القَسَمِ فلا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قولُهُ: {لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} لِلَّذِينَ: اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ "خَيْرٌ". و "اللذينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "آمَنُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الرفعِ فاعلٌ، والألفُ فارقةٌ، والجملةُ الفعليَّةُ هذه صِلَةُ المَوصولِ فلا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "وَكَانُوا" الواوُ: للعطفِ، و "كانوا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُها، والألفُ الفارقةُ، و "يتَّقونَ" فعلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، والواوُ الدالَّةُ على الجماعَةِ ضميرٌ متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، وجُمْلَةُ "يَتَّقُونَ" في محلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "كان"، وجُمْلَةُ "كان" مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ الصِّلَةِ.