فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 63

موسوعة فيض العليم ... سورةُ يوسف ، الآية: 63


فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ
(63)


قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} أي: لمَّا رَجَعُوا مِنْ مِصْرَ مُمْتَارينَ، واختلفوا في نُزُلِهِمُ الذي رَجَعوا إِلى أَبيهم فيه عَلى قولين: أحدهما: بِالْعَرَبَات، مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ بِغَوْرِ الشَّامِ، وَبَعْضٌ يَقُولُ: كَانَ بِالأَوْلاجِ، مِنْ نَاحِيَةِ الشِّعْبِ أَسْفَلَ مِنْ حِسْمَى. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ في تَفسيرِهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ أنَّه قَالَ: ثُمَّ خَرَجُوا حَتَّى قَدِمُوا عَلَى أَبِيهِمْ، وَكَانَ مَنْزِلُهُمْ فِيمَا ذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، بِالْعَرَبَات، مِنْ أَرْضِ فِلَسْطِينَ بِغَوْرِ الشَّامِ، وَبَعْضٌ يَقُولُ: كَانَ بِالأَوْلاجِ، مِنْ نَاحِيَةِ الشِّعْبِ أَسْفَلَ مِنْ حِسْمَى وَكَانَ صَاحِبَ بَادِيَةٍ لَهُ بِهَا شَاءٌ وَإِبِلٌ.
قولُهُ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} بادروا بما كان أهم الأشياء عندهم من التوطئة لإرسال أخيهم معهم، وذلك قبل فتح متاعهم وعلمهم بإحسان العزيز إليهم من رد بضاعتهم. وأخبروا بما جرى لهم مع العزيز الذي على إهراء مصر، وأنهم استدعى منهم العزيز أن يأتوا بأخيهم حتى يتبين صدقهم أنهم ليسوا جواسيس، وقَولُهم: "يَا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ" فِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُمْ لَمَّا طَلَبُوا الطَّعَامَ لِأَبِيهِمْ وَلِلْأَخِ الْبَاقِي عِنْدَهُ مُنِعُوا مِنْهُ، فَقَوْلُهُمْ: مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ إِشَارَةٌ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُنِعَ الْكَيْلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ: {فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي} الآية: 60، السابقة مِنْ هذهِ السورةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ: "فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ" قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: يَكْتَلْ بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ، وَالْقِرَاءَةُ الْأُولَى تُقَوِّي الْقَوْلَ الْأَوَّلَ، وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ تُقَوِّي الْقَوْلَ الثَّانِيَ. فَقولُهم: مُنِعَ مِنَّا الكَيْلُ، أَيْ: سَيُمْنَعُ مِنَّا الكَيْلُ إِنْ عُدْنَا بِغَيْرِ أَخِينا لأَنَّ مَلِكَ مِصْرَ أَلْزَمَنَا بِهِ وطَلَبَهُ مِنَّا، إِمَّا لِيَراهُ أَوْ لِيَعْرِفَ صِدْقَنَا مَنْهُ. ويَكونُ "مُنِعَ" يُرادُ بِهِ المُسْتَأْنَفَ، وإِلَّا فَقَدْ كِيلَ لَهم. وجاؤوا أَبَاهمْ بِالمِيرَةِ، لكنْ لَمَّا أُنْذِروا بِمَنْعِ الكَيْلِ قالوا: "مُنِعَ".
قوْلُهُ: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ضَمِنُوا لأَبيهِمْ حِفْظَ أَخِيهم وحِياطَتَهُ تَرْغِيبًا لَهُ في إِرْسَالِهِ مَعَهمْ. فلَمْ يَثِقْ بِضمانهم لِمَا سَلَفَ منْ أَمِرِ يوسف.
قولُهُ تعالى: {فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ} الفاءُ: هيَ الفَصيحةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوابِ شَرْطٍ تقديرُهُ، إِذا عَرَفْتَ مَا قالَ يُوسُف لهم، وما عاهَدَ عَلَيْهم مِنَ الإتيانِ بالأَخِ، وما قالوا لَهُ مِنْ مُراوَدَتِهِ مِنْ أَبيهِ، وَأَرَدْتَ بَيانَ مَا قالوا لأَبِيهمْ بعدَ ما رَجَعوا إلى بِلادِهم، فأقول: "لَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ"، و "لمَّا" حرْفُ شَرْطٍ غيرُ جازِمٍ. و "رَجَعُوَا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ الفارقةُ. و "إِلَى" حرف جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِهِ، و "أَبِيهِمْ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأَنَّهُ من الأَسْماءِ الخَمْسَةِ، وهو مُضافٌ، و "هم" الهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه، والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ، والجُملةُ في محلِّ الجزمِ فعلُ شَرْطٍ لِ "لَمَّا".
قولُهُ: {قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ} و "قَالُوا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعة، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والأَلِفُ الفارقةُ، والجملة جَوابُ "لَمَّا" في محَلِّ النَّصْبِ بالقولِ لجوابِ إذا المُقَدَّرَةِ. و "يَا" أَداةُ نداءٍ، و أَبَانَا" منصوبٌ على النداءِ مُضافٌ وعلامةُ نصبِهِ الألفُ لأنَّهُ منَ الأسماءِ الخمسةِ، و "نا" ضميرُ جماعةِ المُتَكلِّمينَ، مُتَّصِلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ، وجُمْلَةُ النِداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالُوا". و "مُنِعَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للمجهولِ، مبنيٌّ على الفتحِ، و "مِنَّا" مِنْ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "مُنِعَ"، و "نا" ضَميرُ المُتَكَلِّمينَ المتَّصلُ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، و "الْكَيْلُ" نائبُ فاعِلٍ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ ل "قَالُوا" عَلَى كَوْنِهَا جَوابَ النِّداءِ.
قولُهُ: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّفْريعِ، و "أرسلْ": فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ؛ وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ وُجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ عَلَى يَعْقوبَ ـ عليهِ السلامُ. و "مَعَنَا" منصوبٌ على الظرفيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِ "أَرْسِلْ" أَوْ بحالٍ مِنْ "أَخَانَا" وهو مُضافٌ، وضَميرُ المُتَكلمينَ "نا" في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. و "أَخَانَا" مفعولٌ بِهِ منصوبٌ، وعلامةُ نصبِهِ، الألِفُ لأنَّهُ مِنَ الأسماءِ الخمسَةِ، وهو مُضافٌ، و "نا" ضَميرُ المُتَكلمينَ متَّصِلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليهِ. والجملةُ الفِعْلِيَّةُ مَعْطوفَةً مُفرَّعةٌ على جملةِ قولِهِ: "مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ" على كَوْنِها مَقولًا لِ "قَالُوا". و "نَكْتَلْ" فعلٌ مضارعٌ مجزومٌ بالطَّلَبِ السابقِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "نحن" يعودُ عَلى إِخْوةِ يوسُف، والجُملَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقولَ القولِ ل "قَالُوا".
قولُهُ: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} الوَاوُ: حاليَّةٌ، و "إِنَّا" حرفٌ ناصِبٌ ناسِخٌ مشَبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، و ضميرُ المتكلِّمينَ "نا" متَّصلٌ بهِ في محلِّ نَصْبِ اسْمِهِ. و "لَهُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلقٌ بِمَا بَعْدَهُ، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. و "لَحَافِظُونَ" اللامُ حَرْفُ ابْتِداءٍ، المزحلقةُ للتوكيدِ، و "حافظونَ" خبرُ "إنَّ" مَرْفوعٌ وعَلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ، والنونُ عوضٌ عن التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذه في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَرْسِلْ" عَلَى كَونِها مَقولَ القولِ لِ "قَالُوا".
قرَأَ العامَّةُ: {نَكتَلْ} بالنونِ، أَيْ: نَكْتَلْ نَحْنُ، وهوَ مَجزومٌ على أنَّهُ جَوابُ الأَمْرِ كما تقدَّمَ. وَقَرَأَ الأَخَوانِ (حمزةُ والكِسائيُّ): "يَكْتَلْ" بالياءِ مِنْ تَحْتِ، أَيْ: يَكْتَلْ أَخُونَا.
قالَ يَعْقوبُ بْنُ السكِّيتِ: وزْنُ "نكتلْ" "نَفْتَلْ"، لأَنَّ التَصْرِيفِيِّينَ نَصُّوا على أَنَّهُ إذا كان في الكَلِمَةِ حَذْفٌ أَوْ قَلْبٌ حُذِفَتْ في الزِّنَة وقُلِبَتْ فنَقولُ: وَزْنُ "بِعْتُ": " فِعْتُ"، ووزنُ "قُمْتُ": "فُعْتُ"، وَوَزْنُ "عِدْ": عِلْ، ووزْنُ "ناءَ": "فَعَلَ"، وإنْ شِئْتَ أَتَيْتَ بالأَصْلِ.