فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 33
قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. (33)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنَّهُ: {قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أيْ: رَبِّ، إنَّ دخولَ السِّجْنُ أَسْهَلُ عَلَيَّ وأَهْوَنُ مِنَ الاسْتِجَابَةِ إِلَى مَا يَطْلُبْنَهُ مِنِّي مِنْ فِعِلِ الفَاحِشَةِ والْوُقُوعِ فِي مَعْصِيَتِكَ. فقد اسْتَعَاذَ يُوسُفُ ـ عليهِ السلامُ، بِاللهِ مِنْ شَرِهِنَّ، وَمِنْ كَيْدِهِنَّ. وفيهِ دَلالَةٌ أَنَّهُ قدْ كانَ مِنْهُنَّ مِنَ المُراوَدَةِ ودَعْوتِهِنَّ لهُ إلى أَنْفُسِهِنَّ ما كانَ مِنِ امْرَأَةِ العَزيزِ مِنَ المُراوَدَةِ والدُّعوةِ إلى نَفْسِها؛ حيثُ قالَ: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ"، وقالَ بعْدَ ذلك في الآيةِ: 51: {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ}، وكذلك قولُ امْرَأَةِ العَزيزِ في الآيةِ: 32 السابِقَةِ: {فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} أَيْ: كُنْتُنَّ لُمْتُنَّني فيهِ أَنْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ؛ وأَنْتُنَّ قد رَاوَدْتُنَّهُ عَنْ نَفْسِهِ.
وَقِيلَ: طَلَبَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ منهنَّ أَنْ تَخْلُوَ بِهِ لِلنَّصِيحَةِ فِي امْرَأَةِ الْعَزِيزِ، بقَصْدِ أَنْ تَعْذِلَهُ فِي حَقِّهَا، وَتَأْمُرَهُ بِمُسَاعَدَتِهَا، لَعَلَّهُ يستجِيب دعوتَها، فَصَارَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ منهنَّ تَخْلُو بِهِ فَتَقُولُ: يَا يُوسُفُ! اقْضِ لِي حَاجَتِي فَأَنَا خَيْرٌ لَكَ مِنْ سَيِّدَتِكَ، فتَدْعُوهُ لِنَفْسِهَا وَتُرَاوِدُهُ عن نفسِهِ، فَقَالَ: يَا رَبِّ كَانَتْ وَاحِدَةً فَصِرْنَ جَمَاعَةً.
وَقِيلَ: المُرادُ كَيْدُ امْرَأَةِ الْعَزِيزِ فِيمَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ الْفَاحِشَةِ، وَكَنَّى عَنْهَا بِخِطَابِ الْجَمْعِ إِمَّا لِتَعْظِيمِ شَأْنِهَا فِي الْخِطَابِ، وَإِمَّا لِيَعْدِلَ عَنِ التَّصْرِيحِ إِلَى التَّعْرِيضِ والتلميحِ، أوَ الْكَيْدِ الِاحْتِيَالِ وَالِاجْتِهَادِ، وَلِهَذَا سُمِّيَتِ الْحَرْبُ كَيْدًا لِاحْتِيَالِ النَّاسِ فِيهَا، قَالَ عُمَرُ بْنُ لَجَأٍ:
تَرَاءَتْ كَيْ تَكِيدَكَ أُمُّ بِشْرٍ ....................... وَكَيْدٌ بِالتَّبَرُّجِ مَا تَكِيدُ
وَقيلَ فِي الآيةِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النَّسْوَةَ اشْتَرَكْنَ مَعَ امْرَأَةِ العَزِيزِ فِي تَهْدِيدِ يُوسُفَ وَتَخْوِيفِهِ مِنْ عَاقِبَةِ إِصْرَارِهِ عَلَى الامْتِنَاعِ عَنْهَا، ورَغَبْنَّهُ فِي مُسَايَرَتِهَا، وَالاسْتِجَابَةِ لَهَا. وَذلك لمَّا قَالَتْ امرأةُ العزيزِ: {وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ} الآية: 32، السابقة. أيْ: أَنَّهُنَّ لَمَّا سَمِعْنَ هَذَا التَّهْدِيدَ اجْتَمَعْنَ عَلَى يُوسُفَ، وَقُلْنَ لَا صالِحَ لَكَ فِي مُخَالَفَةِ أَمْرِهَا، وَإِلَّا سُجِنْتَ ووَقَعْتَ فِي الصَّغَارِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ اجْتَمَعَ عَلى يوسُفَ أَنْوَاعٌ مِنَ الْوَسْوَسَةِ، أَحَدُهَا: كوَنُ زَلِيخَا فِي غَايَةِ الْحُسْنِ. وَثَّانِيها: أَنَّهَا كَانَتْ ذَاتَ مَالٍ وَثَرْوَةٍ، وَكَانَتْ عَلَى عَزْمٍ أَنْ تَبْذُلَ الْكُلَّ لِيُوسُفَ إذا ما أجابها إلى مَا طلَبَتْهُ منه. وَثَالِثُها: أَنَّ النِّسْوَةَ اجْتَمَعْنَ عَلَيْهِ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ كَانَتْ تُرَغِّبُهُ وَتُخَوِّفُهُ بِأُسلوبٍ، وَمَكْرُ النِّسَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ شَدِيدٌ، وَالرَّابِعُ: أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ خَائِفًا مِنْ شَرِّهَا وَإِقْدَامِهَا عَلَى قَتْلِهِ وَإِهْلَاكِهِ. فَقد اجْتَمَعَ ليُوسُفَ كلُّ أَساليبِ التَّرْغِيبِ عَلَى مُوَافَقَتِهَا، وَالتَّرهيبِ مِنْ مُخَالَفَتِهَا.
وقيلَ لمَّا طَلَبْنَ مِنْهُ أَيْضًا ما طَلَبَتْهُ مِنْهُ امْرَأَةُ العَزيزِ، كلُّهُنَّ أَوْ بعضٌ مِنْهنَّ، خَافَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَنْ تُؤَثِّرَ هَذِهِ الْأَسْبَابُ الْقَوِيَّةُ الْكَثِيرَةُ فِيهِ، وَإنَّ ما لَدَيْهِ مِنْ قُوَّةٍ بَشَرِيَّةٍ وَطَّاقَةٍ إِنْسَانِيَّةَ لَا تَفِي بِحُصُولِ هَذِهِ الْعِصْمَةِ الْقَوِيَّةِ، فَعِنْدَ هَذَا الْتَجَأَ إِلَى الله تَعَالَى وَقَالَ: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ".
والسِّجْنُ فِي غَايَةِ الْمَكْرُوهِ، وَمَا دَعَوْنَهُ إِلَيْهِ فِي غَايَةِ الْمَرغوبِ، لَكنَّه ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَحَبَّ الْمَشَقَّةَ وفضَّلَها على اللَّذَّةِ واخْتَارَهَا عَلَيْها لأَنَّ تِلْكَ اللَّذَّةَ كَانَتْ تَسْتَعْقِبُ آلَامًا عَظِيمَةً، كالذَّمُّ فِي الدُّنْيَا وَالْعِقَابُ فِي الْآخِرَةِ، وَذَلِكَ الْمَكْرُوهُ وَهُوَ اخْتِيَارُ السِّجْنِ كَانَ يَسْتَعْقِبُ سَعَادَاتٍ عَظِيمَةً، وَهِيَ الْمَدْحَ فِي الدُّنْيَا وَالثَّوَابَ الدَّائِمَ فِي الْآخِرَةِ، فَلِهَذَا السَّبَبِ قَالَ: "السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ".
وإِنَّما وَقَعَ في السِّجْنِ؛ لأَنَّهُ سَأَلَ رَبَّهُ السِّجْنَ فاسْتُجيبَ لَهُ في ذَلِكَ. وحُكِيَ أَنَّ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمَّا قَالَ: "السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ" أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ: (يَا يُوسُفُ! أَنْتَ حَبَسْتَ نَفْسَكَ حَيْثُ قُلْتَ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ، وَلَوْ قُلْتَ الْعَافِيَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ لَعُوفِيتَ). ونُقِلَ بِأَنَّهُ لَمَّا قَرَأَ رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، قولَهُ: "رَبِّ السِّجْنُ أَحَبّ إِلَىَّ ممّا يَدْعُونَني إِلَيْه" قال: ((رَحِمَ اللهُ أَخِي يُوسُفَ هَلَّا سَأَلَ اللهَ العَفْوَ والعافيَة)).
قولُهُ: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} أَيْ: إِنْ وَكَّلْتَنِي يَا رَبُّ إِلَى نَفْسِي فَلَيْسَ لِي مِنْهَا قُدْرَةٌ، وَلاَ أَمْلِكُ لَهَا ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلَّا بِحَوْلِكِ وَقُوَّتِكَ، فَإِنْ لَمْ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ، وَتَعْصِمُنِي مِنَ الفَاحِشَةِ، أَسْتَجِبْ لَهُنَّ، وَأَكُنْ بِذَلِكَ مِنَ الجَّاهِلِينَ الذِي تَسْتَخِفُّهُمُ الشَّهَوَاتُ، فَيَجْنَحُونَ إِلَى ارْتِكَابِ المُوبِقَاتِ، وَاجْتِرَاحِ السَّيِّئَاتِ.
قولُه: {أَصْبُ إليهنَّ} مِنْ صَبَا يَصْبُو إِذَا مَالَ وَاشْتَاقَ صَبْوًا وَصَبْوَةً، قَالَ زيدُ بْنُ ضَبَّةَ:
إِلَى هِنْدَ صَبَا قَلْبِي ................................ وَهِنْدُ مِثْلُهَا يُصْبِي
وَالصِّبَا ريحٌ تَهُبُّ عَلَى بِلَادِ الْعَرَبِ مِنْ مَشْرِقٍ، فتَصْبُو إِلَيْهَا النُّفُوسَ لِطِيبِ نَسِيمِهَا وَرَوْحِهَا، حَتَّى إِنَّ تَغَزُّلَ شُعَرَائِهِمْ بِهَا لَيُضَاهِي تَغَزُّلَهُمْ بِعَشِيقَاتِهِمْ رِقَّةً وَصَبَابَةً، وَلَا سِيَّمَا إِذَا اقْتَرَفَا وَامْتَزَجَا كَقَوْلِ الشاعر الدمشقي أَحمدِ بْنِ مُحمَّدٍ التَّغْلِبِيِّ المُتَوَفَّى سَنَةَ: /497/ للهجرةِ، المعروفِ بابْنِ الخيَّاطِ:
خُذَا مِنْ صِبَا نَجْدٍ أَمَانًا لِقَلْبِهِ ................. فَقَدْ كَادَ رَيَّاهَا يَطِيرُ بِلُبِّهِ
وهوَ مَطْلِعُ قَصيدةٍ لَطيفةٍ لهُ منها:
وَإِيَّاكُمَا ذَاكَ النَّسِيمَ فَإِنَّهُ .............. إِذَا هَبَّ كَانَ الْوَجْدُ أَيْسَرَ خَطْبِهِ
خليليَّ لَوْ أَحْبَبْتُما لَعَلِمْتُما .......... مَحَلَّ الهَوَى مِنْ مُغْرَمِ القلبِ صَبِّهِ
تَذَكَّرَ والذِكْرَى تَشُوقُ وذُو الهَوَى ...... يَتُوقُ وَمَنْ يَعْلَقْ بِهِ الحُبُّ يُصْبِهِ
غَرَامٌ عَلَى يَأْسِ الهَوَى ورَجائهِ ............ وشَوْقٌ عَلَى بُعْدِ المَزارِ وقُرْبِهِ
وفي الرَّكْبِ مَطْوِيُّ الضُّلوعِ عَلَى جَوًى ..... مَتَى يَدْعُهُ داعي الغَرامِ يُلَبِّهِ
إذا خَطَرَتْ مِنْ جانِبِ الرَّمْلِ نَفْحَةٌ ....... تَضَمَّنَ مِنْها داؤهُ دونَ صَحْبِهِ
قولهُ: {وأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} أَيْ مِنْ صِنْفِ السُّفَهَاءِ الذين يَعْمَلُونَ عَمَلَ الْجُهَّالِ، أَيْ مِمَّنْ يَرْتَكِبُون الْإِثْمَ وَيَسْتَحِقُّون الذَّمَّ، الَّذِينَ تَسْتَخِفُّهُمْ أَهْوَاءُ النَّفْسِ فَيَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ منهم، وَهِيَ ممَّا يُخَالِفُ مُقْتَضَى الْحِلْمِ وَالْأَنَاةِ والْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ، فَإِنْ لَمْ تَلْطُفْ بِي فِي اجْتِنَابِ الْمَعْصِيَةِ وَقَعْتُ فِيهَا.
وَقد دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ أَحَدًا لَا يَمْتَنِعُ عَنْ مَعْصِيَةِ اللهِ إِلَّا بِعَوْنِهِ سبحانَهُ، كما دَلَّ أَيْضًا عَلَى قُبْحِ الْجَهْلِ وَذَمِّ صَاحِبِهِ. وَهَو نَصٌّ صَرِيحٌ بِأَنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَا صَبَا إِلَيْهِنَّ، وَلَا أَحَبَّ أَنْ يَعِيشَ مَعَهُنَّ، وقد الْتَجَأَ إلى اللهِ ربِّهِ فصرف عنه كيدهنَّ فلم يَصْبُ إليهِنَّ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} قَالَ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوازًا تَقْديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى يُوسُفَ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "رَبِّ" مُنَادى مُضافٌ حُذِفَ مِنْهُ حَرْفُ النِّداءِ، مَنْصوبٌ وعلامَةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى ما قبلِ ياءِ المتكلِّمِ المحذوفةِ للتَّخْفيفِ. والياءُ المَحْذوفَةُ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ مُضافٌ إِلَيْهِ، وجُمْلَةُ النِّداءِ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ "قَالَ". و "السِّجْنُ" مَرفوعٌ بالابتداءِ، و "أَحَبُّ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وليْسَتْ "أحبُّ" هُنَا على بابِها مِنَ التَفْضيلِ لأَنَّه لَمْ يُحِبَّ ما يَدْعُونَهُ إِلَيْهِ قَطُّ، وإنَّما هَما أَمرانِ أحلاهما مرُّ، وكان عليه أنْ يختارَ فآثَرَ أهونَ الشَّرينِ عَلى الآخَرِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ بالقولِ عَلى كَوْنِها جَوابَ النِّداءِ. و "إِلَيَّ" جارٌّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَحَبُّ" وياء المتكلِّمِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. و "مِمَّا" مِنْ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَحَبُّ" أَيْضًا و " و "ما" اسمٌ مَوْصُولٌ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. أو هي نَكِرةٌ موصوفةٌ. و "يَدْعُونَنِي" فعلٌ مضارعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى سُّكونٍ مقدَّرٍ على الواوِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو نونُ النِّسْوَةِ، وهي ضميرٌ مبنيٌّ على الفتحِ في مَحلِّ رَفْعِ فاعلِهِ، والنونُ الثانيةُ للوقايَةِ، وياءُ المتكلِّم ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعولٍ بِهِ. و "إِلَيْهِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِ "يدعون"، وهوَ العائدُ عَلَى "ما" المَوْصُولَةِ، والجُمْلَةُ صِلَةٌ لِـ "ما" الموصولة فلا محلَّ لها من الإعراب، أَوْ صِفَةٌ لَها في محلِّ الجرِّ إنْ أُعْرِبَتْ نَكِرةً مَوْصوفَةً.
قولُهُ: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} الواو: عاطفة. "إلَّا" هي "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ مَبْنِيٌّ بِسُكونٍ على النُّونِ المُدْغَمَةِ في لامِ "لا" النافيَةِ. و "تَصْرِفْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "إنْ" الشَّرْطِيَّةِ كَوْنَها فِعْلَ شَرْطٍ لها، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستتِرٌ فيه وجوبًا تقديرُهُ "أنت" يَعودُ على اللهِ تعالى. و "عَنِّي" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِـ "تَصْرِفْ". وياءُ المتكلِّمِ ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. "كَيْدَهُنَّ" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ وهو مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ جرِّ مضافٍ إليهِ، والنونُ للنِّسْوَةِ. و "أَصْبُ" فعلٌ مُضَارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "إنْ" الشَرْطِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ جَوابًا لَهَا، وعَلامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ منْ آخرهِ ، وهو الواو فإنَّه في الأصلِ "أصبو". وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ "أنا" يَعودُ على يُوسُفَ ـ عليهِ السلامُ، و "إِلَيْهِنَّ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ، ونونُ جماعةِ النساءِ، وجُمْلَةُ الشَّرْطِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عطْفًا عَلى جُمْلَةِ قولِهِ: "السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ" عَلى كَوْنِها مَقولَ "قَالَ". و "وَأَكُنْ" الواوُ للعطفِ و "أَكُنْ" فعلٌ مُضارِعٌ ناقِصٌ معطوفٌ عَلَى "أَصْبُ" وحذِفَتْ واوُهُ لالتقاءِ الساكنين فإنَّ أَصْلَهَ "أَكونُ" فلمَّا سَكَنَتِ النونُ للجزمِ بالشرطِ تعذّر النطقُ بِساكِنَيْنِ فحذفَتِ الواوُ، واسْمُ الفعل الناقص "كان" ضَميرٌ مستترٌ فيه وجوبًا تقديرُهُ "أنا" يَعودُ عَلى يُوسُفَ أيضًا. و "مِنَ" حرفُ جرٍّ متَعلِّقٌ بخبرِ "كان" المُقدَّرِ، و "الْجَاهِلِينَ". مجرورٌ ب "من" وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالِمُ، والنونُ عِوضًا عن التنوين في الاسمِ المفرَدِ.
قرَأَ العامَّةُ: {رَبِّ السِّجْنُ} بكسْرِ الباءِ لأَنَّهُ مُضافٌ لِياءِ المُتَكَلِّمِ، اجْتُزِئَ عَنْها بالكَسْرَةِ وهيَ الفُصْحى. و "السِّجْنُ" بِكَسْرِ السِّينِ ورَفْعِ النُّونِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، والخَبَرُ "أحبُّ" كما تقدَّمَ في الإعرابِ. والسِّجْنُ الحَبْسُ، والمَعْنَى: دُخولُ السِّجْنِ، كما تقدَّمَ في التفسيرِ. وقرَأَ بَعْضُهم: "رَبُّ" بِضَمِّ الباءِ وجَرِّ النُّونِ عَلَى أَنَّ "رَبُّ" مُبْتَدَأٌ و "السجنِ" خفضٌ بالإِضافَةِ، و "أَحَبُّ" خَبَرُهُ أيضًا، والمَعْنَى: مُلاقاةُ صاحِبِ السِّجْنِ ومُقاسَاةُ عذابِهِ أَحَبُّ إِلَيَّ.
وَحَكَى أَبُو حَاتِمٍ أَنَّ أميرَ المؤمنينَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَرَأَ: "السَّجْنُ" بِفَتْحِ السِّينِ وَحُكِيَ عَنْ طارق مولاهُ وابْنِ أَبِي إِسْحَاقَ وزيدِ بْنِ عَلِيٍّ والزُّهْرِيِّ وابْنِ هُرْمُز وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجَ، وَيَعْقُوبَ أَنّهم قرؤوا بها جميعًا، وَهُوَ مَصْدَرُ سَجَنَهُ سَجْنًا. أَيْ: الحَبْسُ أَحَبُّ إِلَيَّ.
وقرأَ العامَّةُ: {أَصْبُ} بِتَخْفيفِ الباءِ مِنْ "صَبا يَصْبو" أيْ: رَقَّ شَوْقُهُ. والصَّبْوَةُ: المَيْلُ إلى الهَوَى، ومِنْهُ "الصَّبا" لأَنَّ النُّفوسَ تَصْبو إِلَيْها أَيْ: تَميلُ، لِطِيبِ نَسيمِها ورَوْحِها، يُقالُ: صَبَا يَصْبُو صَباءً وصُبُوًّا، وصَبِيَ يَصْبَى صَبًا، والصِّبا بالكَسْرِ اللَّهْوُ واللَّعِبُ.