فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 34
فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
قولُهُ ـ تعالى جَدُّهُ: { فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} استجاب لهُ ربُّه بحَسَبِ دُعائِهِ، وثَبَّتَهُ عَلى العِصْمَةِ والعِفَّةِ. وَ "اسْتَجَابَ" مُبَالَغَةٌ فِي "أَجَابَ"، كَمَا تَقَدَّمَ بيانُهُ في الآية: 32، عند قَوْلِهٍ: {فَاسْتَعْصَمَ}. وَصَرْفُ كَيْدِهِنَّ عَنْهُ معناهُ صَرْفُ أَثَرِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ ثَبَّتَهُ عَلَى الْعِصْمَةِ فَلَمْ يَنْخَدِعْ لِكَيْدِهَا، وَلَا لِكَيْدِ خَلَائِلِهَا فِي أَضْيَقِ الْأَوْقَاتِ.
لقَدْ حَصَلَ ليُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُرَغِّبَةِ فِي تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ بِالْمَالِ وَالْجَاهِ وَالتَّمَتُّعِ بِالْمَنْكُوحِ وَالْمَطْعُومِ، وَحَصَلَ فِي الْإِعْرَاضِ عَنْهَا جَمِيعُ الْأَسْبَابِ الْمُنَفِّرَةِ، وَقَدْ قَوِيَتِ الدَّوَاعِي فِي الْفِعْلِ وَضَعُفَتِ الدَّوَاعِي فِي التَّرْكِ، فَطَلَبَ مِنَ اللهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أَنْ يُحْدِثَ فِي قَلْبِهِ أَنْوَاعًا مِنَ الدَّوَاعِي الْمُعَارِضَةِ النَّافِيَةِ لِدَوَاعِي الْمَعْصِيَةِ إِذْ لَوْ لَمْ يَحْصُلْ هَذَا الْمُعَارِضُ لَحَصَلَ الْمُرَجِّحُ لِلْوُقُوعِ فِي الْمَعْصِيَةِ خَالِيًا عَمَّا يُعَارِضُهُ، وَذَلِكَ يُوجِبُ وُقُوعَ الْفِعْلِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ. فَاسْتَجَابَ اللهُ تَعَالَى لِدُعَائِهِ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ، إِذْ كَفَّتِ المَرْأَةُ عَنْ مُلاَحَقَتِهِ وَمُطَالَبَتِهِ بِالفَاحِشَةِ، وَعَصَمَهُ اللهُ مِنْهُنَّ.
قولُهُ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وَاللهُ تَعَالَى سَمِيعٌ لِمَنْ يَدْعُوهُ وَيَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، مُخْلِصًا لَهُ الدُّعَاءَ، جَامِعًا بَيْنَ مَقَامَيِ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، وَعَطْفُ جُمْلَةِ فَاسْتَجابَ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ اللهَ عَجَّلَ إِجَابَةَ دُعَائِهِ الَّذِي تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ في الآية: 33، السابقة: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ}. فَالسَّمْعُ مُسْتَعْمَلٌ فِي إِجَابَةِ الْمَطْلُوبِ، كما يُقَالُ: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ. "عَلِيمٌ" بِصِدْقِ إِيمَانِهِ وإخلاصِهِ في دُعائه ورجائهِ وتوجُّهِ قلبِهِ، خبيرٌ بِمَا يُصْلِحُ أَحْوَالَ عَبْدِهُ. وَتَأْكِيدُهُ بِ "إنَّ" وبضَمِيرِ الْفَصْلِ "هو" لِتَحْقِيقِ ذَلِك الْمَعْنى. وَجُمْلَةُ: "إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ" فِي مَوْضِعِ الْعلَّة لِ "فَاسْتَجابَ" الْمَعْطُوفِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ، أَيْ أَجَابَ دُعَاءَهُ بِدُونِ مُهْلَةٍ لِأَنَّهُ سَرِيعُ الْإِجَابَةِ وَعَلِيمٌ بِالضَّمَائِرِ الْخَالِصَةِ. وفِيهِ دَليلٌ عَلَى أَنَّ رَبَّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَتَخَلَّ عَنْ عِنَايَتِهِ بِتَرْبِيَتِهِ، أَقْصَرَ زَمَنٍ يَهْتَمُّ فِيهِ بِأَمْرِ نَفْسِهِ وَمُجَاهَدَتِهِ، وَمُؤَيِّدٌ لِقَوْلِهِ في الآية: 21 السابقةِ: {وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ}.
أَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ بَكْرِ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَلَى يُوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ عَرَفَتْهُ وَقَالَتْ: الْحَمْدُ للهِ الَّذِي صَيَّرَ العَبيدَ بِطَاعَتِهِ مُلُوكًا. وَجَعَلَ الْمُلُوكَ بِمَعْصِيَتِهِ عَبيدا.
قولُهُ تَعَالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} الفاءُ: حَرْفُ عطفٍ وتَفْريغٍ وتعقيبٍ. و "استجابَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ. و "لَهُ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. و "رَبُّهُ" فاعلُهُ مرفوعٌ به مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ {قال} منَ الآيةِ السابقةِ على كونِها مُسْتَأْنَفَةً فلا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "فَصَرَفَ" الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وتَفْريعٍ. و "صَرَفَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعُودُ على اللهِ تعالى. و "عَنْهُ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ. و "كَيْدَهُنَّ" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ مُضافٌ، وضميرُ جماعةِ الغائباتِ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ مضافٌ إليه، والجملة معطوفةٌ على جُملَةِ "استجابَ" المعطوفةِ على جملةِ {قال} المُسْتَأْنَفَةِ فلا مَحلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} إِنَّهُ: حرفٌ نَاصِبٌ ناسخٌ مُشبَّهٌ بالفِعلِ للتوكيدِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نَصْبِ اسْمِها. و "هُوَ" ضَميرُ فَصْلٍ للتوكيدِ. و "السَّمِيعُ" مرفوعٌ خبَرًا أَوَّلَ لِ "إنَّ". و "الْعَلِيمُ" مرفوعٌ خَبَرًا ثانيًا لهُ، وجُمْلَةُ "إنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ ما قَبْلَهَا فلا محلَّ لها من الإعرابِ.