فيض العليم ... سورة يوسف، الآية: 84
وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} تولَّى: صرفَ وجهَهُ وانْصَرَفَ، فإنَّ يَعْقُوبُ ـ عليه السَّلامُ، أَعْرَضَ عَنْ بَنِيهِ غاضِبًا لَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ أَسْرِ ابْنِهِ بِنْيامِينَ مُتَّهَمًا بالسَرِقَةِ، وذَلِكَ لأَنَّ حُزْنَهُ تَتَامَّ وبَلَغَ أَقْصاهُ، وتَهَيَّجَتْ أَشْجَانُهُ عَلَى يُوسُفَ. وَلَمَّا كَانَ التَّوَلِّي يَقْتَضِي ِاخْتِلَاءَهُ بِنَفْسِهِ، ذَكَرَ بَعْضَ أَحْوَالِهِ فقد تَجَدَّدَ أَسَفُهِ عَلَى ابْنِهِ يُوسُفَ ـ عَلَيْهِما السَّلَامُ.
قولُهُ: {وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} الأَسَفُ أَشدُّ الحُزْنِ، فقد قَالَ ذلكَ مُتَذَكِّرًا حُزْنَهُ القَدِيمَ عَلَى يُوسُفَ. والأَسَى يَبْعَثُ الأَسَى كَما قالَ مُتَمِّمُ بْنُ نُوَيْرَةَ عِنْدَمَا رَأَى قَبْرًا فَتَجَدَّدَ حُزْنُهُ عَلَى أَخَيهِ مَالِكٍ، وَقد لِيمَ عَلَى ذَلَكَ، فأَجابَ قائلًا:
فقال أَتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رَأَيْتَهُ .............. لِقَبْرٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوَى والدَّكَادِك
فقلتُ لَهُ إنَّ الأَسَى يَبْعَثُ الأَسَى ......... فَدَعْني فهذا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ
وَذكرَ الْقُرْآنُ تَحَسُّرَ يعقوبَ عَلَى يُوسُفَ ـ عَلَيْهِما السَّلَامُ، وَلَمْ يَذْكُرْ تَحَسُّرَهُ عَلَى ابْنَيْهِ الْآخَرَيْنِ بنيامينَ وروبينَ لِأَنَّ ذَلِكَ التَّحَسُّرَ هُوَ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْقِصَّة. وإنَّما أَسِفَ على يُوسُف مَعَ أَنَّ المُصيبةَ الحادثَةَ كانَتْ في أَخَوَيْهِ لأنَّ رُزْأَهُ بهِ كان ما يزالُ غَضًّا عِنْدَهُ وإِنْ تَقَادَمَ عَهْدُهُ، فهو قاعدةُ الأَرْزاءِ جميعًا، وهوَ الآخِذُ بِمَجامِعِ قَلْبِهِ فلا يَنْسَاهُ أَبدًا. روى الإمامُ عبْدُ الرَّزَّاقِ الصَنْعانيُّ، بسندِه عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ غَيْر هَذِهِ الأُمَّةِ الاسْتِرْجاعَ، أَلَا تَسْمَعُونَ إِلى قَوْلِ يَعْقوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: "يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ".
قولُهُ: {وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ} وَجَدَّدَ لَهُ حُزْنُهُ الجَدِيدُ عَلَى (بِنْيامينَ) ابْنِهِ الأَصْغَرِ، حُزْنَهُ الدَّفِينَ عَلَى يُوسُفَ، وَعَمِيَتْ عَيْنَاهُ مِنْ شِدَّةِ الحُزْنِ، فقَد أَصَابَتْهُمَا غِشَاوَةٌ بَيْضَاءُ مِنْ كَثْرَةِ البُكَاءِ. فإنَّ العَبْرَةَ إِذا كثُرَتْ مَحَقَتْ سَوادَ العَيْنِ وَقَلَبَتْهُ بَيَاضًا كَدِرًا. قيلَ قدْ عَمِيَ بَصَرُهُ، وقيلَ كانَ يُدْرِكُ إِدْراكًا ضَعِيفًا. وابْيِضَاضُ الْعَيْنَيْنِ كِنَايَةٌ عَنْ عَدَمِ الْإِبْصَارِ، قَالَ الْحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ اليَشْكُرِيُّ:
قَبْلَ مَا الْيَوْمِ بَيَّضَتْ بِعُيُونِ النَّــ ................. ــاسِ فِيهَا تَغَيُّضٌ وَإِبَاءُ
والْبُكَاءَ مِنَ الْحُزْنِ أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فَلَا يُسْتَغْرَبُ صُدورُهُ مِنْ نَبِيٍّ. وأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يَا أَسَفَى على يُوسُفَ" قَالَ: يَا حَزَنَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يَا أَسْفَى عَلى يُوسُفَ" أَنَّهُ قَالَ أَيضًا: يَا حَزَنَا عَلى يُوسُفَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ" قَالَ: يَا جَزَعَا. وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ سعيدٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ يُونُسَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لمَّا مَاتَ سَعيدُ بْنُ الْحِسَنِ حَزِنَ عَلَيْهِ الْحَسَنُ حُزْنًا شَدِيدًا، فَكُلِّمَ الْحَسَنُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَا سَمِعْتُ اللهَ عَابَ عَلى يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، الْحُزْنَ!. وَأَخْرَجَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ، عَنِ الْحَسَنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ مُنْذُ خَرَجَ يُوسُفُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، إِلَى يَوْمِ رَجَعَ ثَمَانُونَ سَنَةً لَمْ يُفَارِقُ الْحُزْنُ قَلْبَهُ، ودُموعُهُ تَجْرِي عَلَى خَدَّيْهِ، وَلمْ يَزَلْ يَبْكي حَتَّى ذَهَبَ بَصَرُهُ. وَاللهِ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ يَوْمئِذٍ خَلِيقَةٌ أَكْبَرَ عَلى اللهِ مِنْ يَعْقُوبَ ـ عليْهِ السلامُ. وأَخْرَجَ الطَبَرِيُّ عَنِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رضي اللهُ عنهُ، يرفعُهُ إلى رسول اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أنَّهُ سأَلَ جبريلَ ـ عليه السَلامُ: مَا بَلَغَ مِنْ وَجْدِ يَعْقوبَ على يوسُفَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ؟ قالَ: وَجْدَ سَبْعينَ ثَكْلَى. قالَ: فمَا كانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ؟ قالَ: أَجْرُ مِئَةِ شَهيدٍ، وما ساءَ ظَنُّهُ باللهِ ساعَةً قَطُّ. وفيهِ دَليلٌ على عَدَمِ حُرْمَةِ التَأَسُّفِ والبُكاءِ عِنْدَ الشدائدِ والنَّوائِبِ، فإنَّ الكَفَّ عَنْ ذَلِكَ مِمَّا لا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْليفِ، لأَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بَكَى وَلَدَهُ إبْراهيمَ فيما روى الإمامُ البُخاريُّ من حديثِ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رضي اللهُ عنه، وقالَ: ((القَلْبُ يَحْزَنُ والعَيْنُ تَدْمَعُ ولا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ، وإِنَّا عَلَيْكَ يا إِبْراهيمُ لَمَحْزونونَ)) وإِنَّما الذي لا يَجوزُ ما يَفْعَلُهُ الجَهَلَةُ مِنَ الصِّياحِ والنِياحَةِ ولَطْمِ الخُدودِ والصُّدورِ وشَقِّ الجُيوبِ وتَمْزِيقِ الثِّيابِ وغيرِه. فَإنَّ اسْتِيلَاءَ الْحُزْنِ عَلَى الْإِنْسَانِ لَيْسَ بِاخْتِيَارِهِ، حتَّى يَكُونَ ذَلِكَ دَاخِلًا تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَقَدْ يَصِيرُ التَّأَوُّهُ وَالْبُكَاءُ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهِ.
قولُهُ: {فَهُوَ كَظِيمٌ} الكظْمُ الإمْسَاكُ، أَيْ: سَاكِتٌ لا يَشْكو أَمْرَهُ إِلى مَخْلوقٍ. قالَهُ قَتَادَةُ ـ رضيَ اللهُ عنهُ، وغَيْرُهُ. وقالَ الضَّحَّاكُ ـ رضي اللهُ عَنْهُ: "فَهُوَ كَظِيمٌ" أي: كَميدٌ حَزينٌ. وقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَكْظُومِ، وَمَعْنَاهُ الْمَمْلُوءُ مِنَ الْحُزْنِ مَعَ سَدِّ طَرِيقِ نَفَسِهِ، فقد كانَ يَعقوبُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كاظِمًا لِغَيْظِهِ عَلَى بَنِيهِ، وَيَحْمِلُ مُصَابَهُ وَهُوَ صَامِتٌ لاَ يَشْكُو إِلَى مَخْلُوقٍ في الدنيا مَا يُعَانِيهِ. و "كظيم" إِمَّا أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى (مَفْعولٍ) كما قالَ تَعالى في سُورَةِ القَلَمِ: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُوم} الآيةَ: 48، أَيْ: مملوءٌ غَيْظًا، فهوَ مِنْ كَظْمِ السِّقَاءِ، إِذَا اشْتَدَّ عَلَى مَلْئِهِ، أَوْ تَكونُ بِمَعْنَى (فاعِلٍ) كقولِهِ تعالى في الآية: 134، مِنْ سورةِ آلِ عمران: {وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ} وهوَ مِنْ قولِ العَرَبِ: كَظَمَ البَعيرُ جِرَّتَهُ إِذا رَدَّها في جَوْفِهِ.
قالَ الإمامُ فخرُ الدينِ الرازيُّ في مفاتيح الغيب أَوِ التَّفْسير الكبير: (18/499): وَاعْلَمْ أَنَّ أَشْرَفَ أَعْضَاءِ الْإِنْسَانِ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهَا كَانَتْ غَرِيقَةً فِي الْغَمِّ فَاللِّسَانُ كَانَ مَشْغُولًا بقوله: يا أَسَفى وَالْعَيْنُ بِالْبُكَاءِ وَالْبَيَاضِ وَالْقَلْبُ بِالْغَمِّ الشَّدِيدِ الَّذِي يُشْبِهُ الْوِعَاءَ الْمَمْلُوءَ الَّذِي شُدَّ وَلَا يُمْكِنُ خروج الماء منه وهذا مُبَالَغَةٌ فِي وَصْفِ ذَلِكَ الْغَمِّ.
قولُهُ تَعَالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ} الوَاوُ: للعطفِ، و "تَوَلَّى" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ المقدَّرِ على آخرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِهِ على الأَلِفِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يعودُ عَلى يَعْقوبَ ـ عليْهِ السَّلامُ. و "عَنْهُمْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ ب "تولَّى"، وضميرُ الغائبينِ "هم" في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ، والجُمْلَةُ هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "قالَ".
قولُهُ: {وَقالَ يَا أَسَفى عَلى يُوسُفَ} الواوُ: للعطفِ، و "قالَ" فعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ عطْفًا عَلى "توَلَّى"، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلَى يَعْقوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "يا" أَداةُ نِداءٍ. و "أسفى" مُنَادى مُضاف مَنْصوبٌ، وعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرَةٌ عَلى مَا قَبْلِ ياءِ المُتَكَلِّمِ المُنْقَلِبَةِ أَلِفًا للتَّخْفيفِ بَعْدَ قَلْبِ الكَسْرَةِ فَتْحَةً، ومثلُها: يا ويْلَتي، ويا حَسْرَتي، وقد مَنَعَ مِنْ ظُهورِ الفتحةِ اشْتِغَالُ المَحَلِّ بِالحَرَكَةِ المُنَاسِبَةِ، و "أَسَفى" مُضافٌ، وياءُ المُتَكَلِّمِ المُنْقَلِبَةُ أَلِفًا ضميرٌ متَّصلٌ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وإنَّما قُلِبَتْ لأَنَّ الصَّوتَ مَعَهَا أَتَمُّ، ونِداؤهُ على سَبيلِ المَجَازِ، كَأَنَّهُ قالَ: هَذا أَوانُكَ فاحْضُرْ، وهو نحوَ قولِهِ تَعَالى في الآيةِ: 56 من سورةِ الزُّمَرِ: {يا حَسْرَتَا}. وقِيلَ: هذِهِ أَلِفُ الندْبَةِ، وحُذِفَتْ هاءُ السَّكْتِ وَصْلًا. والتَّجانُسُ بَيْنَ لَفْظَتَيْ الأَسَفِ ويُوسُفَ مِمَّا يَقَعُ مَطْبوعًا غَيْرَ مُتَعَمَّلٍ فَيَمْلُحُ ويَبْدُعُ، ونَحْوهُ قولُهُ تعالى في الآية: 38، مِنْ سورةِ التوبةِ: {اَثَّاقَلْتُمِ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ}، ونحو قولِهِ في سورةِ الأنعام: {يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} الآية: 26، ونحو قولِهِ في سورةِ الكهفِ: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} الآية: 104، ونحو قولِهِ في سورةِ النملِ: {وجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ} الآية: 22. ويُسَمَّى هذا النَّوعُ من الجِنَاسِ ب (تجنيس التَّصريف)، وهوَ أَنْ تَشْتَرِكَ الكَلِمَتانِ في لَفْظٍ ويُفَرَّقَ بَيْنَهُما بِحَرفٍ لَيْسَ في الأُخْرَى. وَنِدَاءُ يعقوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، للْأَسَفِ هُنَا مِنَ المَجَازِ. فقَدْ نَزَّلَ الْأَسَفَ مَنْزِلَةَ مَنْ يَعْقِلُ. و "عَلَىَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَسَفَى"، و "يُوسُفَ" اسْمٌ مجرورٌ بحرفِ الجرِّ، وعلامةُ جرِّهِ الفتْحةُ نِيابَةً عنِ الكَسْرَةِ لأِنَّه اسْمٌ ممنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ، وجُمْلَةُ النِّداءِ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على أَنَّها مَقولَ "قالَ".
قولُهُ: {وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ} الوَاوُ: للعطفِ، و "ابْيَضَّتْ" فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ الظاهِرِ، والتَّاءُ السَّاكِنَةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، و "عَيْنَاهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ وعلامةُ رَفْعِهِ الأَلِفُ لأَنَّهُ مُثَنَّى، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. و "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِ "ابْيَضَّ"، و "الْحُزْنِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "قال"، أَوْ حالٌ مِنْ فاعِلِ "قال".
قولُهُ: {فَهُوَ كَظِيمٌ} الفاءُ: للعَطفِ والتَّعْلِيلِ، و "هُوَ" ضميرٌ منفصلٌ في محلِّ الرفعِ بالابتِداءِ، و "كَظِيمٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ هذه معطوفةٌ عَلى جُمْلَةِ "ابْيَضَّ".
قرأَ الجمهورُ: {مِنَ الحُزْنِ} بِضَمَّةٍ وَسُكُونٍ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ ومُجاهِدٌ ـ رضي اللهُ عنهم جميعًا: (مِنَ الحَزَنِ) بِفَتْحَتَيْنِ، وقرأَ قتادَةُ ـ رضي اللهُ عنه: (مِنَ الحُزُنِ) بِضَمَّتَيْنِ، فـ (الحُزْنُ) و (الحَزَنُ) ك (العُدْمِ) و (العَدَمِ)، و (البُخْلِ) و (البَخَلِ)، وأَمَّا الضَمَّتانِ فالثانيةُ إِتْباعٌ. وقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَاخْتَلَفُوا فِي الْحُزْنِ وَالْحَزَنِ فَقَالَ قَوْمٌ: الْحُزْنُ الْبُكَاءُ وَالْحَزَنُ ضِدُّ الْفَرَحِ، وَقَالَ قَوْمٌ: هُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ أَصَابَهُ حُزْنٌ شَدِيدٌ، وَحَزَنٌ شَدِيدٌ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ أَهْلِ اللُّغَةِ، وَرَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي عَمْرٍو قَالَ: إِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ فَتَحُوا الْحَاءَ وَالزَّايَ كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ التوبة: {تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا} الآيَةِ: 92، وَإِذَا كَانَ فِي مَوْضِعِ الْخَفْضِ أَوِ الرَّفْعِ ضَمُّوا الحاءَ كقولِهِ تعالى هنا: "وابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ" وكقولِهِ بعدَ ذلك في الآية: 86، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبَارَكَةِ: {إنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ}.