وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
(82)
قولُهُ ـ تعالى شأْنُهُ:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} أَيْ: أَرْسِلْ إِلى أَهْلِ القريةِ التي كنَّا فيها واسْأَلْهُمْ عَنِ القِصَّةِ، وتفاصيلِ أحداثها ووقائعِها، والقريةُ هي مصرٌ بعينها كما قالَ ابْنُ عبَّاسٍ وعامَّةُ المُفَسِّرينَ وأَهْلِ التَأْويلِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم جميعًا، ذكرَ ذلك الطبريُّ: 13/37، والقُرْطُبِيُّ: 9/246، والبَغَوِيُّ: 4/267، والفَخْرُ الرازِيُّ: 18/190، وغيرُهم. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ ذلك عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِي الله عَنهُ. وقالَ الكَلْبِيُّ: هيَ قرْيَةٌ مِنْ قُرَى مِصْرَ، لَحِقَهمُ المُنَادي عِنْدَهَا مُؤَذِّنًا فيهمْ، إِنَّكمْ لَسَارِقونَ. وقد حُذِفَ ذِكْرُ الأَهْلِ هُنَا إِيجازًا لأَنَّ الحالَ تَشْهَدُ بِهِ.
قولُهُ: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} قالَ مجاهدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: العِيرُ الحَميرُ. وقيلَ هي قافلَةُ الإبِلِ، سُمِّيتْ عِيرًا عَلى وَجْهِ التَّشْبيهِ، أَيْ: سَلْ أَصْحَابَ العِيرِ الذينَ كانُوا مَعَنَا مِنْ أَرْضِ كَنْعانَ، وهمْ جِيرانُ يَعْقوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فإنَّ القِصَّةَ مَعْروفةٌ فيما بَيْنَهُم لأَنَّهم كانوا حاضِرينَ، فقد سَمِعُوا بالقِصَّةِ وشَهِدوا أَحداثَها ووَقائِعَها. وقِيلَ: كانَ أَصْحابُ تِلْكَ العِيرِ مِنْ صَنْعاءَ باليَمَنِ. وقِيلَ: بِأَنَّهم أَرادوا مِنْ أَبيهم أَنْ يَسْأَلَ القَرْيَةَ وهي جَمَادٌ، ونَفْسَ العِيرِ وهيَ حَيَواناتٌ بَهيمَةٌ لأَنَّهُ نَبِيٌّ، وقدْ أَنْطَقَ اللهُ الجَمَادَ والحيوانَ للأنْبِيَاءِ بِمَا يُحْدِثُ فِيهم مِنَ المَعْرِفَةِ تَأْيِيدًا لأَنْبِيائهِ، فيَكونُ ذلك أَوْضَحَ بُرْهانًا على صدقِهم. وقيلَ: إِنَّ الشَّيْءَ إِذَا ظَهَرَ ظُهُورًا تَامًّا كَامِلًا فَقَدْ يُقَالُ فِيهِ، سَلِ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ والجبالَ وَجَمِيعَ الْأَشْيَاءِ عَنْهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قد بَلَغَ فِي الظُّهُورِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لمْ يَبَقَ لِلشَّكِّ فِيهِ مَجَالٌ.
قولُهُ: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} أيْ: وَإِنَّا لَصَادِقُونَ في قَوْلِنا هذا وما قدِ ادَّعَيْنَاهُ على أخينا بنيامينَ، مُؤَكِّدينَ قَوْلَهمْ بِ "إنَّ" وباللامِ المزحلقةِ، وهوَ تَأْكيدٌ في مَحَلِّ القَسَمِ.
وقد رَجَعُوا بِذَلِكَ القَوْلِ إِلَى أَبيهم، فاتَّهَمَهم بالخِيانةِ قائلًا: لقدْ أَصْبَحْتُم كالذِّئابِ، يَأْكُلُ بَعْضَكم بَعْضًا، فَكُلَّمَا خَرَجْتُمْ، نَقَصْتُمْ واحِدًا، مرَّةً نَقَصْتُمْ يُوسُفَ، ومَرَّةً شَمْعونَ، وهذه المرَّةَ نَقَصْتُمْ بِنْيامِينَ.
قولُهُ تعالى:{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} الواو: للعطفِ، و "اسْأَلْ" فِعْلُ أمرٍ مبنيٌّ على السكونِ، وحُرِّكَ بالكَسْرِ لالتقاءِ ساكِنَيْنِ، وفاعلُهُ ضميرٌ مستترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ "أَنتَ" يَعودُ عَلى أَبيهم، و "القريةَ" مَفعولٌ بهِ مَنصْوبٌ، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ {إِنَّ} عَلَى كونِها جَوابَ النِّداءِ. و "الَّتِي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ صْفةً لِـ "الْقَرْيَةَ". و "كُنَّا" فعلٌ ماضٍ ناقصٌ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، وهي ضميرُ جماعةِ المتكلِّمينَ متَّصلٌ بهِ مَبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ اسمِها. و "فِيهَا" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخَبَرِها المحذوفِ، والتقديرُ: كنا موجودينَ فيها، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. وجمْلةُ "كان" صلةُ المَوْصولِ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب.
ويَحْتمِلُ قولُهُ تَعالى: "وَسْئَلِ القرية" أَربعةَ أَوْجُهٍ َكَمَا تَقَدَّمَ في التَّفْسيرِ، أَشْهَرُها مَا قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ والتَّقْديرُ: واسْأَلْ أَهْلَ القريَةِ وأَهْلَ والعِيرِ، وهوَ مِنَ المَجازِ الشائعِ، عَلى خِلافٍ في المَسْأَلَةِ: هَلِ الإِضْمارُ مِنْ بابِ المَجازِ أَوْ غَيْرِهِ؟ والمُشْتَهَرُ أَنَّهُ قِسْمٌ مِنْهُ، وعليهِ أَكْثَرُ النَّحْوِيينَ. وقالَ بعضُهم: هذا مِنَ الحَذْفِ ولَيْسَ مِنَ المَجازِ، لأَنَّ المَجازَ لَفْظَةٌ اسْتُعِيرَتْ لِغَيْرِ ما هِي لَهُ، وحَذْفُ المُضافِ هوَ عَيْنُ المَجازِ وعُظْمُهُ، وهو مَذْهَبُ سِيبَوَيهِ وغيرِهِ مِنْ أهلِ هذا العلْمِ. وقالَ فَخْرُ الدينِ الرّازِيُّ: إِنَّ المَجَازَ والإِضْمارَ قِسْمانِ لا قَسِيمانَ، فهُمَا مُتَبايِنَانَ. وقيل: إِنَّهُ مَجازٌ، ولكنَّهُ مِنْ بابِ إِطْلاقِ اسْمِ المَحَلِّ عَلى الحالِّ فيهِ للمُجاوَرَةِ، كالزاويَةِ. وقيلَ: إنَّهُ حَقيقةٌ لا مَجَازَ فيها، لأَنَّهُ يَجوزُ أَنْ يَسْأَلَ القَرْيَةَ نَفْسَها والإِبِلَ أَيْضًا فَتُجيبُهُ، وهوَ شأنٌّ مِنْ شُؤونِ النُّبُوَّةِ وبابٌ منْ أبوابِ الإعجازِ، إذْ قدْ ينطِقُ اللهُ البهائمَ والجماداتِ لأَنْبِيهِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، تَأْييدًا لَهْم في صِدْقِ إِنْبائهم عَنِ مَوْلاهم ـ جلَّ جلالُهُ، ويعقوبُ ـ عَلَيهِ السَّلامُ، نَبِيٌّ مِنَ الأنبياءِ. وَفِيهِ وَجْهٌ رابعٌ، وَهُوَ أَنَّ الشَّيْءَ إِذَا ظَهَرَ ظُهُورًا تَامًّا كَامِلًا فَقَدْ يُقَالُ فِيهِ، سَلِ عَنْهُ السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ والجبالَ وَجَمِيعَ الْأَشْيَاءِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ قد بَلَغَ فِي الظُّهُورِ إِلَى الْغَايَةِ الَّتِي لمْ يَبَقَ لِلشَّكِّ فِيهِ مَجَالٌ.
قولُهُ: {وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا} الوَاوُ: للعطفِ، و "الْعِيرَ" مَفعولٌ بهِ منصوبٌ عَطفًا عَلَى "الْقَرْيَةَ". و "الَّتِي" كسابِقتِها اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ النَّصْبِ صْفةً لِـ "العيرَ". و "أَقْبَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متحرِّكٍ هو "نا" الجماعةِ، وهي ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعٍ بالفاعِليَّةِ. و "فِيهَا" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ ب "أقبلَ"، والهاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ في محلِّ الجرِّ بحرفِ الجرِّ. وجمْلةُ "أَقْبَلَ" صِلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "التي" لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} الوَاوُ: حرفُ عطفٍ، و "إِنَّا" حرْفُ نَصْبٍ ونسخٍ مشبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ، و "نا" ضميرٌ متَّصلٌ بهِ مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ نصبِ اسْمِها. و "لَصَادِقُونَ" اللامُ حَرْفُ ابْتِداءٍ أو هي المزحلقةُ للتوكيدِ، و "صادقون" خبرُ "إنَّ" مرفوعٌ وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالمُ، والنونُ عوضٌ عن التنوينِ في الاسْمِ المُفرَدِ، وهذه الجًمْلَةُ الاسْمِيَّة في محلِّ النَّصبِ عطْفًا عَلى جُملةِ "وَاسْأَلِ" على كونِها مَقُولَ القولِ ل {قولوا}.