فيض العليم .... سورة هود، الآية: 119
إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ
(119)
قولُهُ ـ جَلَّ ثَناؤهُ: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} لَمَّا قالَ تعالى في الآيةِ السابقةِ {ولا يزالونَ مُخْتَلِفينَ} اسْتَثْنَى هُنَا فِئَةً مِنْ خَلْقِهِ شَمِلَتْهم رَحْمَتُهُ الخاصَّةُ مِنَ الِاخْتِلَافِ المَذْكور، الذي يَطالُ أُصُولَ الدِّينِ. وَمَعْنَى الاختلافِ الْعُدُولُ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ، لِأَنَّ الْحَقَّ لَا يَقْبَلُ التَّعَدُّدَ وَلا الِاخْتِلَافَ. فعَقَّبَ عُمُومَ {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بِاسْتِثْنَاءِ مَنْ ثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَلَمْ يُخَالِفُوهُ بِقَوْلِهِ: "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" أَيْ: الذينَ عَصَمَهُمْ اللهُ مِنْ ذاك الِاخْتِلَافِ. وهمُ الذِينَ رَحِمَهُمُ رَبُّكَ، يَعْنِي: أَهْلَ الحَقِّ، فَإِنَّهُمْ يَبْقَوْنَ مُتَمَسِّكِينَ بِمَا جَاءَهُمْ بِهِ المُرْسَلُونَ، وَيَظلُّونَ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ، لأَنَّ عِلْمَهُ ـ تعالى شأْنُهُ، قَدْ سَبَقَ بأَنَّ النَّاسَ سَيَكُونُونَ مُخْتَلِفِينَ، وَأَنَّ مِنْهُمْ فَرِيقًا سَيَعْمَلُ عَمَلَ أَهْلِ الجَنَّةِ، فيَكُونُ مَصِيرَهُمْ وَمَأْوَاهُمُ الجَنَّةُ. فإنَّهُ تعالى لَمَّا خَلَقَ الخلقَ عَلَى جِبِلَّةٍ قَاضِيَةٍ بِاخْتِلَافِ الْآرَاءِ وَالنَّزَعَاتِ، وَكَانَ مُرِيدًا لِمُقْتَضَى تِلْكَ الْجِبِلَّةِ، وَعَالِمًا بِهِ، كَانَ الِاخْتِلَافُ عِلَّةً غَائِيَّةً لِخَلْقِهِمْ، وَالْعِلَّةُ الْغَائِيَّةُ لَا يَلْزَمُهَا الْقَصْرُ عَلَيْهَا بَلْ يَكْفِي أَنَّهَا غَايَةُ الْفِعْلِ، وَقَدْ تَكُونُ مَعَهَا غَايَاتٌ كَثِيرَةٌ أُخْرَى فَلَا يُنَافِي مَضْمونُ هذِهِ الآيةِ قَوْلَهُ في سُورةِ الذّارِياتِ: {وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} الآيَةَ: 56، لِأَنَّ الْقَصْرَ هُنَالِكَ إِضَافِيٌّ، أَيْ: إِلَّا بِحَالَةِ أَنْ يَعْبُدُونِي لَا يُشْرِكُوا، وَالْقَصْرُ الْإِضَافِيُّ لَا يُنَافِي وُجُودَ أَحْوَالٍ أُخْرَى غَيْرَ مَا قَصَدَ الرَّدَّ عَلَيْهِ بِالْقَصْرِ. وَفُهِمَ مِنْ هَذَا أَنَّ الِاخْتِلَافَ الْمَذْمُومَ الْمُحَذَّرَ مِنْهُ هُوَ الِاخْتِلَافُ فِي أُصُولِ الدِّينِ الَّذِي يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ اعْتِبَارُ الْمُخَالِفِ خَارِجًا عَنِ الدِّينِ وَإِنْ كَانَ يَزْعُمُ أَنَّهُ مِنْ مُتَّبِعِيهِ، فَإِذَا طَرَأَ هَذَا الِاخْتِلَافُ وَجَبَ عَلَى الْأُمَّةِ حَسْمُهُ وقَصْمُهُ، وَبَذْلُ الْوُسْعِ فِي إِزَالَتِهِ مِنْ بَيْنِهِمْ بِكُلِّ وَسِيلَةٍ مِنْ وَسَائِلِ الْحَقِّ وَالْعَدْلِ، بِالْإِرْشَادِ وَالْمُجَادَلَةِ الْحَسَنَةِ وَالْمُنَاظَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يُنْجِعْ ذَلِكَ فَبِالْقِتَالِ كَمَا فَعَلَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، فِي قِتَالِ الْمُرْتدِّينَ الَّذِينَ جَحَدُوا فرْضَ الزَّكَاةِ، وامْتَنَعوا مِنْ أَدائها، وَكَمَا فَعَلَ عَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قِتَالِ الحَرورِيَّةِ الْخوارجِ الَّذِينَ كَفَّرُوا الْمُسْلِمِينَ وخَرَجُوا عَلَى جَمَاعَتِهم. وقال أَبو إِسْحاق الزجَّاجُ في كتابِهِ (مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرابُهُ): (3/83): "مَنْ" اسْتِثْناءٌ عَلَى مَعْنَى: (لكنْ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ فإنَّهُ غَيْرُ مُخالِفٍ). واخْتِيارُ الشَّيْخِ أَبي حَيَّان: أَنَّه اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ. وقالَ الفرَّاءُ في مَعَاني القُرآنِ: (2/31): {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} يَعْنِي أَهْلَ الباطِلِ، "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" أَهْل الحَقِّ، وهوَ قوْلُ مُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فقدْ أَخْرُجُ عنه ابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو الشَّيْخِ أنَّه قالَ: {وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ} هم أَهْلُ الْبَاطِلِ. و "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" قَالَ: هم أَهْلَ الْحَقِّ، "وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ" قَالَ: لِلرَّحْمَةِ. وقالَ عِكْرِمَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" يَعْني أَهْلَ الأَهْواءِ والبِدَعِ، و "إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" أَهْلُ السُّنَّةِ والجَمَاعَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ البُسْتيُّ، وَأَبُو الشَّيْخ، عَنِ مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، قَالَ: "قُلْتُ لِلْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَوْلُهُ: "وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ" قَالَ: النَّاسُ مُخْتَلِفُونَ عَلَى أَدْيَانٍ شَتَّى، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ، فَمَنْ رَحِمَ غَيْرَ مُخْتَلِفِينَ"، "وَلذَلِك خلقهمْ" قَالَ: للِاخْتِلَاف. وأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنِ الْحَسَنِ ـ رضيَ اللهُ عنه، قَالَ: لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ فِي الرِّزْقِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ قَالَ: خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ فَرِيقًا يُرْحَمُ فَلَا يَخْتَلِفُ، وَفَرِيقًا لَا يُرْحَمُ يَخْتَلِفُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تعالى: فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ.
قولُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَالْكَلِمَةُ هُنَا بِمَعْنَى الْكَلَامِ. وكَلِمَةُ اللهِ: هي تَقْدِيرُهُ وَإِرَادَتُهُ، وتَمَامُ كَلِمَةِ اللهِ تَعالى: مَجَازٌ فِي الصِّدْقِ وَتَحَقُّقِ الوُقوعِ، وَقَدْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا "كَلِمَة" لِأَنَّهَا سَبَبٌ فِي صُدُورِ كَلِمَةِ (كُنْ) وَهِيَ أَمْرُ التَّكْوِينِ. فَالْمُخْتَلِفُونَ منَ البَشَرِ الذينَ ذكرَهمُ اللهُ في الآيةِ التي قبلَها هُمْ نَصِيبُ جَهَنَّمَ. وَقَدْ قَضَى اللهُ تعالى، أَنْ يَمْلَأَ جَهَنَّمَ مِنَ الإنسِ والجِنِّ جَمِيعًا لأَمْرٍ يريدُهُ وحِكْمَةٍ يَرَاهَا ـ سبحانَهُ وتعالى.
قولُهُ تَعَالى: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} إلَّا: أَداةُ اسْتِثْنَاءٍ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ بمعنى "الذي" مبنيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الاسْتِثْناءِ مِنْ (واو) {يَزَالُونَ} في الآيةِ التي قبلَها. و "رَحِمَ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهِرِ على آخرِهِ، و "رَبُّكَ" فاعِلٌ مرفوعٌ وهو مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلَةُ صِلَةُ المَوْصولِ، والعائدُ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: منْ رَحِمَهُ رَبَّكَ. وهذا الاسْتِثْناءُ ظاهرُهُ أَنَّهُ مُتصلُ، وهوَ اسْتِثْناءٌ مِنْ فاعِلِ {يَزالون} أَوْ مِنَ الضَّميرِ في {مُخْتَلِفينَ}. وجَوَّزَ الحُوفِيُّ أَنْ يَكونَ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا، أَيْ: لَكِنْ مَنْ رَحِمَ اللهُ لم يَخْتَلِفُوا، ولا ضَرورَةَ تَدْعُو إلى ذَلِكَ.
قولُهُ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} الواوُ: استئنافيَّةٌ، وَ "لِذَلِكَ" اللامُ حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِما بَعْدَهُ، وهِيَ لامُ العاقِبَةِ والصَّيْرورَةِ، لأَنَّ حِكْمَةَ خَلْقِهم لَيسَ هَذا، إِنَّما هِيَ التي حَدَّدَها ـ سُبْحانَهُ وتعالى، بِقولِهِ في الآيَةِ: 56، مِنْ سُورَةِ الذَّارياتِ: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} ولأَنَّهُ لَوْ خَلَقَهم لَهُ، لَم يُعَذِّبْهم عَلَى ارْتِكابِ الباطِلِ. و "ذا" اسْمُ إِشارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، واللامُ للبعدِ والكافُ للخطابِ، وفي المُشارِ إِلَيْهِ أَقوالٌ كَثيرَةٌ أَظْهَرُها: أَنَّهُ الاخْتِلافُ المَدْلولُ عَلَيْه بِ {مختلفين} كَقَوْلِ أَبي قَيْسٍ الأَسْلِتِ الأَنْصارِيِّ:
إِذا نُهِيَ السَّفيهُ جَرَى إِلَيْهِ ................ وخَالَفَ، والسَّفِيهُ إِلَى خِلَافِ
فرَجَعَ الضميرُ مِنْ "إِلَيْهِ" على السَّفَهِ المَدْلولِ عَلَيْهِ بِلَفْظِ "السَّفيهَ"، و عَلَيْهِ فَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضافٍ، أَيْ: ولِثَمَرَةِ الاخْتِلافِ خَلَقَهم. و "خَلَقَهُمْ: فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ الفتحِ، وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيهِ جوازًا يَعودُ على اللهِ تعالى، وضميرُ الغائبين "هم" مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولِهِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعرابِ. وَتَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ عَلَى عَامِلِهِ فِي قَوْلِهِ: وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ لَيْسَ لِلْقَصْرِ بَلْ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
قولُهُ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} الواوُ: للعطفِ، و "تَمَّتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ، والتاءُ للتأنيثِ، و "كَلِمَةُ" فاعلٌ مرفوعٌ مضاف، و "رَبِّكَ" مجرورٌ بالإضافةِ إِليهِ، مضافٌ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إليه. والجملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "خَلَقَ" على كونِها مُسْتَأْنَفَةً لا محلَّ لها من الإعرابِ.
قولُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "أَمْلَأَنَّ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، لاتِّصالِهِ بِنُونِ التَوْكيدِ الثَّقيلةِ، في محلِّ الرَّفْعِ لِتَجَرُّدِهِ عَنِ النَّاصِبِ والجازِمِ، وفاعِلُهُ ضَميرُ المعظِّمِ نفسَهُ، وهو مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ: "أَنا" يَعودُ عَلَى اللهِ تعالى. و "جَهَنَّمَ" مَفعولٌ بِهِ منصوبٌ. و "مِنَ الْجِنَّةِ" جارٌّ ومجرورٌ مُتَعَلِّقٌ بـ "أملأنَّ". والجِنَّةُ والجِنُّ: قيلَ: واحِدٌ، والتاءُ فيهِ للمُبالَغَةِ. وقِيلَ: الجِنَّةُ جَمْعُ جِنٍّ، وهوَ غَريبٌ، فَيَكونُ مِثلَ "كَمْء" للجَمْعِ و "كَمْأَةٌ" للواحِدِ. و "النَّاسِ" مَعْطوفٌ عَلى "الجِنَّةِ". و "أَجْمَعِينَ" تَأْكِيدٌ معنويٌّ للناسِ، مجرورٌ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنّهُ ملحقٌ بجمعِ المُذَكَّرِ السالمِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ جَوابٌ لقَسَمٍ مَحْذوفٍ تَقْديرُهُ: وعِزَّتي وجَلالي: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ}، وجُمْلَةُ القَسَمِ المَحْذوفِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بَدَلًا مِنْ "كَلِمَةُ رَبِّكَ".