فيض العليم .... سورة هود، الآية: 115
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قولُهُ ـ تعالى جدَّهُ: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} لَمَّا أَمَرَ اللهُ تعالى في الآيةِ السابقةِ، نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بإقامةِ الصلاةِ أَتْبَعَهُ هُنَا بالأَمْرِ بالصَّبْرِ لأَنَّهُما أَمْرانِ مُتَلازِمانِ فإنَّ إِقامَةَ الصَّلاةِ، والحفاظَ عَلَيها يَحْتَاجُ إلى صَبْرٍ، كأَنَّهُ قِيلَ: أَقِمِ الصَّلاةَ، أَيْ أَدِّها تَامَّةً، ودَاوِمْ عَلَيْها، فيكونُ نَظيرَ قولِهِ في سورة: طه: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصَّلاةِ واصْطَبَرْ عَلَيْهَا} الآية: 132، والخطابُ هنا للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، للتَشْريفِ، وإلَّا فهوَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، كان يجدُ راحةَ نفسِهِ وقرَّةَ عينِهِ في الصلاةِ، ومعلومٌ أنَّه كان يقولُ لمؤذِّنِهِ بلالاً ـ رضي اللهُ عنهُ: ((أرِحنا بها يا بلال)) وكان يقولُ: ((... وجُعِلتْ قرَّةُ عيني في الصلاة)) وكان إذا حَزَبَهُ أمرٌ هُرِعَ إلى الصلاةِ، ولكنَّهُ إذا كانْ النبيُّ مأمورٌ بالصبرِ رأى أَتْباعُهُ ذَلِكَ واجبًا عَلَيْهم مِنْ بابٍ أَوْلى، فَالْمَقْصُودُ هُوَ وَأُمَّتُهُ ـ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، بِقَرِينَةِ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: "فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ" لِمَا فِيهِ مِنَ الْعُمُومِ وَالتَّفْرِيعِ الْمُقْتَضِي جَمْعَهُمَا أَنَّ الصَّبْرَ مِنْ حَسَنَاتِ الْمُحْسِنِينَ وَإِلَّا لَمَّا كَانَ لِلتَّفْرِيعِ مَوْقِعٌ. هذا وَإنَّ مِنَ البَلاغَةِ القُرْآنِيَّةِ أَنَّ الأَوَامِرَ بِأَفْعالِ الخَيْرِ أُفْرِدَتْ للنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهَ وسَلَّمَ، وإنْ كانَتْ عامَّةً في المَعْنَى، والمَنَاهِي جُمِعَتْ للأُمَّةِ، ومَا أَعْظَمَ شَأْنَ الرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، عِنْدَ رَبِّهِ ـ جَلَّ وعَلا. ثمَّ إنَّ الصَّبْرَ لا يَكونُ عَلى الطاعَةِ وحَسْبُ، ولَكِنَّهُ يَكونُ عَنِ المَعْصِيَةِ أَيْضًا، ويكونُ عِنْدَ ثَوْرَةِ الشَّهْوَاتِ، وعِنْدَ لِقاءِ العَدُوِّ، وغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَدائدِ الحَيَاةِ ونوائِبِها، حَيْثُ لا مَلْجَأَ للعَبْدِ إِلَّا إِلى مَوْلاهُ، ولا قُوَّةَ لَهُ إِلَّا بِهِ، ولِذلِكَ قالَ تَعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} سُورة البَقَرَةِ، الآية: 45، فإذا صَبَرَ المَرْءُ عِنْدَ الشِّدَّةِ، ولَجَأَ إلى الصَّلاةِ التي هيَ صِلَةٌ لَهُ بِمَولاهُ العظيمِ، مَنَحَهُ القوَّةَ لِمُواجَهَتِها، وتَجاوُزِ آثارِها، والتَّغَلُّبِ عَلَيْها. ومِنْ ثَمَّ أُجِرَ عَلَى تَحَمُّلِهِ وصبْرِهِ، فوَجَدَ أَثَرَ ذَلِكَ رَاحَةً في قَلْبِهِ، وطُمأْنينَةً في نَفْسِهِ، لأنَّهُ إنَّما يَلْتَجِئُ إلى القُوَّةِ الأَعْظَمِ، وكانَ عِنْدَ اللهِ مُحْسِنًا و "إنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين" أَيْ: يُوَفِّيهم ثَوابَ أَعْمالِهم مِنْ غَيْرِ بَخْسٍ أَصْلًا، وعَبَّرَ عن ذَلِكَ بِنَفْيِ الإضاعَةِ بَيانًا لِكَمَالِ نَزَاهَتِهِ تَعالى عَنْ حِرْمانِهم شَيْئًا مِنْ ثَوابِهم، وعَدَلَ عَنِ الضَّميرِ لِيَكونَ كالبُرْهانِ عَلَى المَقْصودِ مَعَ إِفادَةِ فائدَةٍ عامَّةٍ لِكُلِّ مَنْ يَتَّصِفُ بِذَلِكَ وهوَ تَعْليلٌ للأمْرِ بالصَّبْرِ، وفيهِ إِيماءٌ إِلى أَنَّ الصَّبْرَ على ما ذُكِرَ مِنْ بابِ الإحْسانِ، وعَنْ مُقاتِلٍ ـ رضي اللهُ عنهُ أَنَّهُ فَسَّرَ الإحْسانَ هُنَا بالإخْلاصِ. وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضي اللهُ عنهما، أَنَّهُ قال: المُحْسِنُونَ المُصَلُّونَ، وكأَنَّهُ نَظَرَ إِلى سِيَاقِ الكَلامِ. ثُمَّ يَجِدُ العبدُ أَجْرَ ذلك الصبرِ أوِ الإحسانِ عطاءً عظيمًا في الآخرةِ، فيكونُ قدْ رَبِحَ الدُنيا والآخرة، قالَ تعالى في سورة الزُمَرِ: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} الآية: 10، وهذا مصداقُ قولِهِ في هذه الآيةِ: "إِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ".
قولُهُ تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وَاصْبِرْ: الواوُ حرفُ عطفٍ، و "اصْبِرْ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على السكونِ الظاهرِ، معطوفٌ عَلى "أَقِمْ" وفاعِلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه وُجوبًا تقديرُهُ "أَنْتَ" يَعودُ عَلى سَيِّدِنا مَحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ويَجُوزُ أن تُعْطَفَ عَلَى جُمْلَةِ {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ} الآية: 109، من هذه السورةِ، لِأَنَّهَا سِيقَتْ مَسَاقَ التَّثْبِيتِ مِنْ جَرَّاءِ تَأْخِيرِ عِقَابِ الَّذِينَ كَذَّبُوا. و "فَإِنَّ" الفاءُ: تَعْليلِيَّةٌ. و "إنَّ" حرفٌ ناصِبٌ ناسخٌ مشبَّهٌ بالفعلِ للتأكيد، ولفظُ الجلالةِ "الله" اسْمُهُ منصوبٌ به. "لَا" نافيةٌ لا عملَ لها، و "يُضِيعُ" فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وفاعلُهُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ على الله تعالى، و "أَجْرَ" مَفْعولٌ به منصوبٌ وهو مضافٌ، و "الْمُحْسِنِينَ" مُضافٌ إِلَيْهِ مجرورٌ وعلامةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السالم، والنونُ عوَضٌ مِنَ التَنْوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذه في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِ "إنَّ"، وجُمْلَةُ "إنَّ" في مَحَلِّ الجَرِّ بِلامِ التَعْلِيلِ المُقَدَّرَةِ المَدْلولِ عَلَيْها بالفاءِ التَعْلِيلِيَّةِ؛ لأَنَّها مَسُوقَةٌ لِتَعْليلِ المَذْكورِ قَبْلَها.