وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} الحديثُ هُنَا عَنْ امْرَأَةِ سيِّدِنا إبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ابْنَةِ عَمِّهِ سارةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، التي كانتْ عاقِرًا وقدْ تَقَدَّمَتْ في السِّنِّ وشاختْ، وانْقَطَعَ الرَّجاءُ منها بِأَنْ تُخَلِّفَ فتَرى لها ولدًا بَعْد هذا العُمْرِ، وكانَتْ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْها، قائمةً في خِدْمَةِ الضُيوفِ تقدِّمُ لهمُ الطعامَ كما هِيَ عادةُ العَرَبِ مِنْ بَعْدِهم في ذلك أَنَّ رَبَّةَ الْمَنْزِلِ تَكُونُ خَادِمَةَ الْقَوْمِ. فقد رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ـ رضي اللهُ عنه، قَالَ: دَعَا أَبُو أُسَيْدٍ السَّاعِدِيُّ ـ رضي اللهُ عنه، رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي عُرْسِهِ، فَكَانَتِ امْرَأَتُهُ خادِمَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَهِيَ الْعَرُوسُ. قَالَ سَهْلٌ: أَتَدْرُونَ مَا سَقَتْ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَنْقَعَتْ لَهُ تَمَرَاتٍ مِنَ اللَّيْلِ فِي تَوْرٍ (إناءٌ يُشربُ منه ويُتَوَضَّأ منه)، فَلَمَّا أَكَلَ سَقَتْهُ إِيَّاهُ. وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَتَرْجَمَ لَهُ: "بَابُ قِيَامِ الْمَرْأَةِ عَلَى الرِّجَالِ فِي الْعُرْسِ وَخِدْمَتِهِمْ بِالنَّفْسِ". وقَالَ مُرَّةُ بْنُ مَحْكَانَ التَّمِيمِيُّ:
يَا رَبَّةَ الْبَيْتِ قُومِي غَيْرَ صَاغِرَةٍ ........ ضُمِّي إِلَيْكِ رِجَالِ الْقَوْمِ وَالْغُرَبَا
وقالَ مُحَمَّدُ بْنُ اسْحَق، "وامرأتُهُ قائمةٌ" أي: قَائِمَةٌ تُصَلِّي، واللهُ أعلمُ.
وَإِنَّمَا ضَحِكَتِ فرحًا وسرورًا وتَعَجُّبًا مِنْ تَبْشِيرِ الْمَلَائِكَةِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِغُلَامٍ مِنْها، فكيفَ تَلِدُ وقدْ شاخَتْ وشَاخَ زَوْجُها.
روى الطبريُّ في تفسيرِه (جامع البيانِ) عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: لمَّا أَتى الملائكةُ إبراهيمَ ـ عليهِ السَّلامُ، فرآهم، رَاعَهُ هَيْئَتُهم وجَمالُهم، فسَلَّموا علَيْه، وجَلَسوا إِلَيْهِ، فقامَ فأَمَرَ بِعِجْلٍ سَمينٍ، فحُنِذَ لَهُ، فقرَّبَ إِلَيْهمُ الطَعامَ، {فلمَّا رأى أَيديهم لا تَصِلُ إِليْهِ نَكِرَهم وأَوْجَسَ مِنهم خِيفَةً}، وسارةُ وراءَ البَيْتِ تَسمَعُ، قالوا: {لا تَخَفْ إنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ حَليمٍ} مُبارَكٍ! وبَشَّرَ بِهِ امْرَأَتَهُ سارةَ، فَضَحِكَتْ وعَجِبَتْ: كيفَ يَكونُ لي وَلدٌ وأَنَا عَجوزٌ، وهوَ شَيخٌ كبيرٌ! فقالوا: أَتَعْجَبينَ مِنْ أَمرِ اللهِ؟ فإنَّهُ قادرٌ على ما يَشاءُ! فقدْ وهبَهُ اللهُ لكم، فأَبْشِروا بِهِ.
وروى سَبَبًا آخرَ لضحكها عَنِ السُّدِّيِّ ـ رضيَ اللهُ عنه، قال: بَعَثَ اللهُ تعالى الملائكةَ لِتُهْلِكَ قومَ لُوطٍ، فأَقْبَلَتْ تَمْشِي في صُورَةِ رِجالٍ شَبابٍ، حَتَّى نَزَلوا عَلى إِبْراهيمَ فَتَضَيَّفُوهُ، فلمَّا رَآهم إبْراهيمُ أَجَلَّهُم، فراغَ إلى أَهْلِهِ، فجاءَ بِعِجْلٍ سَمينٍ، فذَبَحَهُ ثُمَّ شَواهُ في الرَّضْفِ، فهُوُ "الحنيذُ" حينَ شَواهُ. وأَتاهم فَقَعَدَ مَعَهم، وقامَتْ سَارَةُ تَخْدِمُهْم. فذَلِكَ حِينَ يقولُ: "وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ" في قراءَةِ ابْنِ مَسْعودٍ. فلمَّا قَرَّبَهُ إليْهِمْ قالَ أَلَا تَأْكُلونَ؟ قالوا: يا إِبْراهيمَ، إِنَّا لا نَأْكُلُ طَعامًا إِلَّا بِثَمَنِ. قالَ: فإنَّ لِهَذا ثَمَنًا! قالوا: وما ثَمَنُهُ؟ قالَ: تَذْكُرونَ اسْمَ اللهِ عَلَى أَوَّلِهِ، وتَحْمَدونَهُ على آخِرِهِ. فَنَظَرَ جِبْريلُ إلى مِيكائيلِ فقالَ: حُقَّ لِهَذا أَنْ يَتَّخِذَهُ رَبُّهُ خَليلًا! فلَمَّا رَأَى أَيْديهمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ، يقول: لا يَأْكُلونَ، فَزِعَ مِنْهم وأَوْجَسَ مِنْهم خِيفَةً، فلَمَّا نَظَرَتْ إِلَيْهِ سَارَةُ أَنَّهُ قَدْ أَكْرَمَهم وقامَتْ هِيَ تَخْدُمُهم، ضَحِكَتْ وقالت: عَجَبًا لأَضْيافِنَا هَؤلاءِ، إنَّا نَخْدِمُهم بِأَنْفُسِنَا تَكْرِمَةً لَهُمْ، وَهمْ لا يَأْكُلونَ طَعامَنَا!
وروى عَنْ قَتَادَةَ ـ رضي اللهُ عنه، سببًا آخرَ لضَحِكها ـ رضي اللهُ عنها، قالَ: لَمَّا أَوْجَسَ إبراهيمُ خِيفَةً في نَفْسِهِ حَدَّثوهُ عِنْدَ ذَلِكَ بِمَا جاءُوا فِيهِ، فَضَحِكَتِ امْرَأَتُهُ، وعَجِبَتْ مِنْ أَنَّ قومًا أَتَاهُمُ العَذابُ، وهُمْ في غَفْلَةٍ. فَضَحِكَتْ مِنْ ذَلِكَ وعَجِبَتْ "فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ".
وروى عنِ الكَلْبِيِّ ـ رضي اللهُ عنه: "فضحكت"، قالَ: ضَحِكَتْ حِينَ راعُوا إبراهيمَ ممَّا رأتْ مِنَ الرَّوْعِ، بإبْراهيمَ. ورويَ مثلُ ذلك عن مقاتلِ ابنِ سليمانَ ـ رضي اللهُ عنه. وقيل غيرُ ذلكَ، واللهُ أعلم.
وقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: حَاضَتْ، وَكَانَتْ آيِسَةٌ، تَحْقِيقًا لِلْبِشَارَةِ، وَأَنْشَدَ عَلَى ذَلِكَ اللُّغَوِيُّونَ:
وَإِنِّي لَآتِي الْعِرْسَ عِنْدَ طُهُورِهَا ......... وَأَهْجُرُهَا يَوْمًا إِذَا تَكُ ضَاحِكَا
وَقَالَ آخَرُ:
وَضِحْكُ الْأَرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا ............. كَمِثْلِ دَمِ الْجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا
وَالْعَرَبُ تَقُولُ: ضَحِكَتِ الْأَرْنَبُ إِذَا حَاضَتْ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وقد أُخِذَ مِنْ قَوْلِهِمْ: ضَحِكَتِ الْكَافُورَةُ ـ وَهِيَ قِشْرَةُ الطَّلْعَةِ، إِذَا انْشَقَّتْ. وَقَدْ أَنْكَرَ بَعْضُ اللُّغَوِيِّينَ أَنْ يَكُونَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ضَحِكَتْ بِمَعْنَى حَاضَتْ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هُوَ الضَّحِكُ الْمَعْرُوفُ، وقَالَ أَبُو ذؤيبٍ الهُذليُّ:
فجاء بمزج لم يرى النَّاسُ مِثْلَهُ ...... هُوَ الضَّحْكُ إِلَّا أَنَّهُ عَمَلُ النَّحْلِ
وفُسِّرَ الضَّحْكُ هُنا بالعَسَلِ أَوِ الشُهْدِ. وَضَحِكَ يَضْحَكُ ضَحْكًا وَضِحْكًا وَضِحِكًا وَضَحِكًا أَرْبَعُ لُغَاتٍ. وَالضَّحْكَةُ الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ، وَمِنْهُ قَوْلُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
غَمْرُ الرِّداءِ إذا تَبَسَّمَ ضاحِكًا ........... غَلِقَتْ لِضَحْكَتِهِ رِقَابُ الْمَالِ
وغَمْرُ الرِّداءِ الذي يَشْمَلُ النَّاسَ بالعَطاءِ.
قولُه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} والعجبُ الأكبرُ كانَ منْ سارةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْها، أَنَّ الملائكةَ الكرامَ ـ عليهمُ السلامُ، بَشَّروها بأَنَّها سَتَعيشُ حتَّى تزوِّجَ ابنَها اسْحاقَ ـ عليه السلامُ، الذي سَتَلِدُهُ وتَرى حَفيدًا لَها منه هو يعقوبُ ـ عليه السَّلامُ. وكانت لمَّا وُلِدَ لِإِبْرَاهِيمَ إِسْمَاعِيلُ مِنْ هَاجَرَ تَمَنَّتْ سَارَةُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ابْنٌ، وَأَيِسَتْ لِكِبَرِ سِنِّهَا، فَبُشِّرَتْ بِوَلَدٍ يَكُونُ نَبِيًّا وَيَلِدُ نَبِيًّا، فَكَانَ هَذَا بِشَارَةً لَهَا بِأَنْ تَرَى وَلَدَ وَلَدِهَا.
قولُهُ تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ} وَامْرَأَتُهُ: الواوُ: حاليّةٌ أو اسْتَئنَافيَّةٌ، و "امرأة" مبتدأٌ مرفوعٌ وهو مضافٌ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، و "قَائِمَةٌ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، أَوْ في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ فاعِلِ {قَالُوا لَا تَخَفْ} من الجملةِ التي قبلَها؛ أَيْ: قَالُوا لا تَخَفْ حَالَ قِيامِ امْرَأَتِهِ. وقيلَ: هي حالٌ من مرفوعِ "أرسلنا". و "فَضَحِكَتْ" الفاءُ: عاطِفَةٌ. و "ضحكتْ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتحِ الظاهرِ، والتاءُ الساكنةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ، والفاعِلُ ضَميرٌ مستترٌ فيه جوازًا تقديرُهُ "هو" يَعودُ عَلى امْرِأَتِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قولِهِ: {وَأَوْجَسَ}.
قولُه: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} فَبَشَّرْنَاهَا: الفاءُ: للعطفِ، و "بشَّرْنا" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السكونِ لاتِّصالِهِ بضمير رفعٍ متحرِّكٍ، وضميرِ المعظِّمِ نفسَهُ "نا" متَّصلٌ به مبنيٌّ على السكونِ في محلِّ رفعِ فاعِلِهِ، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ به في محلِّ نصبِ مفعولِهِ، وهذه الجملةُ معطوفةٌ على جملةِ "ضحكت". و "بِإِسْحَاقَ" جارٌّ ومجرورٌ متعلِّقٌ بِهِ على حَذْفِ مُضافٍ أَيْ بِوَلادَةِ إِسْحَاقَ، وعَلامَةُ جَرِّ الفتحةُ لأنَّهُ ممنوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعلَميَّةِ والعُجمَةِ. و "وَمِنْ وَرَاءِ" جَارٌّ وظرفُ مكانٍ مَجْرورٌ، متعلِّقٌ ب "فَبَشَّرْنَاهَا"، وقيلَ: متعلِّقٌ بِفِعْلٍ محذوفٍ تقديرُهُ وَهَبْنَا، و "اسحاقَ" مضافٌ إليه، مَجرورٌ وعلامة جرِّه الفتحةُ لأنَّه ممنوعٌ من الصرفِ، و "يعقوبُ" يُقْرَأُ بِالرَّفْعِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ: الأوَّلُ أنَّه مُبْتَدَأٌ، وَمَا قَبْلَهُ الْخَبَرُ. وَالثَّانِي: هُوَ مَرْفُوعٌ بِالظَّرْفِ. وَيُقْرَأُ بِفَتْحِ الْبَاءِ، وَفِيهِ أيضًا وَجْهَانِ: أَوَّلُهُمَا: أَنَّ الْفَتْحَةَ هُنَا لِلنَّصْبِ، وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى مَوْضِعِ "بِإِسْحَاقَ". وَالآخَرُ: هُوَ مَنْصُوبٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ تَقْدِيرُهُ: وَوَهَبَنَا لَهُ مِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ الْفَتْحَةَ لِلْجَرِّ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى لَفْظِ إِسْحَاقَ، أَيْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. وَفِي وَجْهَيِ الْعَطْفِ قَدْ فُصِلَ بَيْنَ يَعْقُوبَ وَبَيْنَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ بِالظَّرْفِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
قرأ العامَّةُ: {فَضَحِكَتْ} بكَسْرِ الحاءِ، وقَرَأَ مُحَمَّدُ بْنُ زِيادٍ بِفَتْحِها، وهما لُغَتَانِ، يُقالُ: ضَحِك وضَحَكَ.
قرأ العامَّةُ: {يَعْقُوبُ} بضمِّ الباءِ، وقَرَأَ ابْنُ عامِرٍ وحَمْزَةُ وحَفْص عنْ عاصم بفتحِها. واخْتَلَفوا فيها: هل الفتحةُ علامةُ نَصْبٍ أَوْ جَرٍّ؟ والقائلون بِأَنَّها علامة نَصْبٍ اخْتَلفوا أيضًا: فقيلَ: هو مَنصوبٌ عطفًا على قولِهِ: "بإسحاق" كأَنَّه قِيلَ: ووهَبْنا لَهُ إسْحاقَ، ومِنْ وراءِ إِسْحاقَ يَعقوبَ عَلى طَريقَةِ الفرزدقِ في قولِهِ:
مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ............. وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا
يَعْني أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى التَوَهُّمِ فَنَصَبَ، كما عَطَفَ الشَّاعِرُ عَلَى تَوَهُّمِ وُجودِ الباءِ في خَبَرِ "ليس" فجرَّ، ولكنَّه لا يَنْقاسُ. وقيل: هو منصوبٌ بفعلٍ مقدر تقديرُه: ووهبْنا يعقوب، وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة. ورجَّحَ الفارسيُّ هذا الوجه. وقيلَ: هو منصوبٌ عطفًا على محلِّ "بإسحاقَ" لأنَّ مَوْضِعَهُ نَصْبٌ كَقَوْلِهِ تعالى في سورةِ المائدةِ: {وَأَرْجُلَكُمْ} الآية: 6. بالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى "برؤوسكم". والفَرْقُ بَيْنَ هذا والوجْهِ الأَوَّلِ: أَنَّ الأَوَّلَ ضَمَّنَ الفِعْلَ مَعْنَى: "وَهَبْنا" توهُّمًا، وهُنا باقٍ على مدلولِهِ مِنْ غيرِ تَوَهُّمٍ.
ومَنْ قالَ بِأَنَّهُ مَجْرورٌ جَعَلَهْ عَطْفًا على "بإسحاقَ" والمَعْنَى: أَنَّها بُشِّرتْ بِهِما.
ونَسَبَ مَكِيّ الخَفْضَ للكِسائيِّ ثمَّ قالَ: وهوَ ضَعيفٌ إلَّا بإعادَةِ الخافِضِ، لأنَّك فَصَلْتَ بيْنَ الجارِّ والمَجْرورِ بالظَرْفِ. وقولُهُ: (بإعادة الخافض) لَيْسَ لازمًا، إذْ لَوْ قُدِّمَ، ولَمْ يُفْصَل لَمْ يُلْتَزَمِ الإِتيانُ بِهِ.
وأَمَّا قراءةُ الرَّفْعِ فَفيهَا أَوْجُهٌ، أَحَدُها: أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وخَبَرُهُ الظَرْفُ السابِقُ، أي: "مولودٌ أو "موجودٌ" أو "كائن". ولَمَّا حكى النحاس هذا قال: «والجُمْلَةُ حالٌ دَاخِلَةٌ في البِشَارَةِ، أَيْ: فَبَشَّرْناها بإسْحَاقَ مُتَّصلًا بِهِ يَعقوبُ". والثاني: أَنَّه مرفوعٌ عَلى الفاعليَّةِ بالجَارِّ قَبْلَهُ، وهذا رَأْيِ الأَخْفَشِ. والثالثُ: أَنْ يَرْتَفِعَ بإِضْمارِ فعلٍ أَيْ: ويَحْدُثُ مِنْ وَراءِ إسْحَاقَ يَعْقوبُ، ولا مَدْخَلَ له في البشارة. والرابعُ: أَنَّهُ مَرْفوعٌ على القطعِ يَعْنُونَ الاسْتِئْنَافَ، وهوَ راجِعٌ لأَحَدِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ كونِهِ مُبْتَدَأً وخَبَرًا، أَوْ فاعلًا بالجَارِّ بَعْدَهُ، أَوْ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ.