وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ
(97)
قولُهُ ـ تعالى شأنُه: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} حَتَّى وَلَوْ جِئْتَهُمْ بِجَمِيعِ الآيَاتِ الكَوْنِيَّةِ وَالمُعْجِزَاتِ الواضِحَةِ المَدْلولِ، المَقْبولَةِ لَدَى العُقولِ، وعايَنوها فَإِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ لأَنَّ السبَبَ الأَصْلِيَّ لإيمانِهم هُوَ تَعَلُّقُ إرادَتِهِ تَعالى، وقدْ أَرادَ خِلافَهُ. وقد ذَكَرَ هذا المعنى في آياتٍ كَثيرَةٍ، منها قولُهُ تَعالى بعد ذلك في هذه السورة المباركة: {وَمَا تُغْنِي الآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} الآية: 101. وقولُهُ في سورة القمر: {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا} الآية: 2، وقولُهُ: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} سورة الأنعام، الآية: 4. وقولُهُ في سورة يوسف: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} الآية: 105، وقولُهُ في سورة البقرة: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} الآية: 6.
قولُهُ: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} وَلن يُؤْمِنَ هَؤُلاَءِ الكَفَرَةُ حَتَّى يَرَوْا العَذَابَ الأَليمَ بِأَعْيُنِهِمْ، نازِلاً بهم وَيُحِسُّوا بِهِ، عِنْدَها يُصَدِّقونَ، أَنْ ما كانوا يُتَوَعَّدونَ بِهِ هوَ حقيقةٌ وليسَ مِنْ نَسْجِ الخَيالِ كَمَا كانَ مِنْ أَمْرِ فِرْعَوْنَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ كَلِمَةَ الإِيمَانِ حَتَى أَدْرَكَهُ الغَرَقُ. والمُرادُ أَنَّهم لا يُؤْمنونَ البتَّةَ، ولو جاءتهم الدَّلائلُ التي لا حَدَّ لها ولا عَدَّ، ذَلِكَ لأنَّ الدَليلَ لا يَهْدي إلاَّ بإِعانَةِ اللهِ تَعالى فإذا لم تَحْصَلْ تِلْكَ الإعانَةُ ضاعَتْ تَلْكَ الدَلائلُ.
قولُهُ تعالى: {وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} الواو: اعْتِراضِيَّةٌ. "لو" حَرْفُ شَرْطٍ، "جَاءَتْهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ والتاءُ للتأنيث، والهاءُ: مَفْعولُهُ، والميم لجمع المكَّر، و "كُلُّ " فاعلُهُ وهو مضافٌ، و "آيَةٍ" مضافٌ إليه، والجُمْلَةُ فعلُ شَرْطِ "لو" وجوابُها معلومٌ مما قَبْلَها، تقديرُهُ: لا يُؤْمنون بها، وجملةُ "لو" اعتراضيَّةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، لاعْتِراضِها بينَ الجارِّ ومُتَعَلَّقِهِ.
قولُهُ: {حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وغايَةٍ. و "يَرَوُا" فعلٌ مضارعٌ فاعِلُه واوُ الجماعةِ، و "الْعَذَابَ" مَفْعولُهُ مَنْصوبٌ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَ "حَتَّى". و "الأَلِيمَ" صِفَةٌ للعِذابِ، وأليم: بمعنى "مؤِلم" وهوَ المُوجِعُ، والعَرَبُ تَضَعُ "فَعيلَ" في مَوْضِعِ "مُفْعِل"، وقالَ: "سَمِيعٌ" أي سامع، وقال: "بَصِيرٌ" أي: مُبصِرٌ، وقالَ عَمْرُو بْنُ مَعْدِ يَكْرِبَ الزبيدي: (أَمِنْ رَيْحانَةَ الداعي السَميعُ) يُريدُ "المِسُمِع". وقدْ تَقَدّمَ.
والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مَعَ "أَنْ" المُضْْمَرَةِ، في تَأْويلِ مَصْدَرٍ مجْرورٍ بِ "حَتَّى" بمعنى: إلى، تَقْديرُهُ: إلى رُؤْيَتِهِمُ العذابَ الأَليمَ, الجارُّ والمجرورُ مُتَعَلِّقٌ بِ "يُؤْمِنُونَ".