المرأة في الغزل الصوفي (2)
الباب الأول:
لمحة عن التصوّف الإسلامي
التَصَوُّفُ هوَ الرُكْنُ الثالثُ مَنَ الدينِ الإسْلاميِّ الحَنيفِ ألا وهو (الإحسانُ) لأنَّ أَرْكانَ الدين الإسلاميِّ ثلاثةٌ، بإجماعِ الأُمَّةِ، لما وَرَدَ في الحديثِ الشريفِ الذي أخرجه الإمامانِ الجليلان البخارِيُّ ومُسْلِمٌ ـ رَحمَهُما اللهُ، في صَحيحَيْهِما، وهما أَصْدَقُ الكُتُبِ نَصّاً وأَصَحُّها رِوايةً بعدَ كَتابِ اللهِ ـ جَلَّ في عُلاهُ، كما أَخرَجهُ معظمُ أئمَّةِ الحديث عن غير واحدٍ من أصحابِ رَسولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عليه وسلَّم، ورَواهُ عَنْهمُ الجَمْعُ الغَفيرُ مِنَ الرُواةِ حتى بَلَغَ مَبْلَغَ التواتُرِ في بَعْضِ مراحلِ سَنَدِهِ، وهذه رِوايةُ الإمامُ مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنْ الإِسْلامِ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((الإِسْلامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتُقِيمَ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنْ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)). قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإِيمَانِ. قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلائِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)). قَالَ: صَدَقْتَ. قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ الإِحْسَانِ. قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)). قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ السَّاعَةِ. قَالَ: ((مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنْ السَّائِلِ)). قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَتِهَا. قَالَ أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ)). قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ مَلِيًّا ثُمَّ قَالَ لِي: ((يَا عُمَرُ أَتَدْرِي مَنْ السَّائِلُ))؟ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)). (1)
فالدين إذاً بِنَصِّ هذا الحديثِ الصَحيحِ، إيمانٌ وإسْلامٌ وإحْسانٌ، والإحسانُ مراقبةُ المرءِ للهِ ـ عَزَّ وجلَّ، في عاداتِه وعباداتِه وفي جميعِ أحوالِه، وتقديمُهُ الإخْلاصَ للهِ تعالى في أعمالِهِ، وفي جميع حَرَكاتِهِ وسَكناتِهِ .يقول العلاَّمةُ الحافظُ أبو عبدِ اللهِ محمَّدُ صِدّيقٍ الغِماريُّ ـ رحمه الله تعالى، وقد سُئلَ عن أَوَّلِ مَنْ أَسّسَ التصوُّفَ، وهلْ هو بوَحيٍ سماويٍّ؟ فَأَجاب :أَمَّا أَوَّلُ مَنْ أَسَّسَ الطريقةَ، فلْتَعلمْ أنَّ الطريقةَ أسّسها الوحيُ السَماويُّ، في جملةِ ما أَسّسَ منَ الدين المحمّديِّ، إذْ هوَ بِلا شَكٍّ مَقامُ الإحسانِ الذي هو أَحَدُ أَركانِ الدينِ الثلاثةِ التي جعلها النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلّم، بعد ما بَيَّنَها واحداً واحداً دِيناً بقولِه: ((هذا جبريلُ أَتاكم يُعَلِّمُكم دينَكم)) وهي الإسلامُ والإيمانُ والإحسانُ، فالإسلامُ طاعةٌ وعِبادةٌ، والإيمانُ نُورٌ وعقيدةٌ، والإحسانُ مَقامُ مُراقبةٍ ومُشاهدةٍ، إلى أَنْ يقولَ: فمَنْ أَخَلَّ بهذا المقامِ (الإحسانُ) الذي هوَ الطريقةُ، فدينُه ناقصٌ بلا شكٍّ، لِتَركِهِ رُكْناً من أركانِهِ. فغايةُ ما تدعوا إليهِ الطريقةُ وتُشيرُ إليْه هوَ مَقامُ الإحسانِ، بعد تَصحيحِ الإسلامِ والإيمانِ. (2) وقد جاءَ فيما روى الأئمَّةُ مِنْ حديث أَنسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، أَنَّ سيِّدَنا رَسولَ الله ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّم، سألَ الصحابيَّ الجَليلَ حارثَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْه، فقال: ((كيفَ أَصْبَحْتَ يا حارثةَ؟ فقالَ حارثةُ: أصبحتُ مؤمناً حقّاً يا رسولَ الله، قال رسولُ الله: اُنْظرْ ما تَقولُ فإنَّ لكلِّ أَمْرٍ حقيقةٌ ما حقيقةُ إيمانك؟ فقال حارثةُ: عَزَفَتْ نفسي عن الدنيا فأسهرتُ ليلي، وأظمأتُ نهاري، وكأنّي أَنظرُ إلى عرشِ ربّي بارزاً، وكأَنّي أَنظُرُ إلى أهلِ الجنَّةِ في الجنّةِ يَتزاوَرونَ، وإلى أهلِ النارِ في النارِ يَتعاوُون، فقال النبي ـ صلى اللهُ عَليه وسلَّم: ((عَرَفْتَ فالْزَمْ، عَرَفْتَ فالْزَم)). (3) وهذا هُوَ التَصُوُّفُ الحَقُّ، وهذِهِ غايتُهُ. وقد جاءَ في كِتابِ اللُّمَعِ لأَبي نَصْرٍ السَّراجِ بتحقيقِ إمامِ الأَزْهَرِ الشريفِ الشيخ الدكتور عبد الحليم محمود ـ رحمه الله، ما نَصُّه: (الصوفيّةُ أرْبابُ أَحوالٍ وسلوكٍ، منها الاعتراضُ لِسلوكِ سُبُلِ الأَولياء، والنزولُ في منازِلِ الأَصفياء. ويقول إِمامُ الطائفتين (أي أهل الحقيقة وأهل الشريعة) الجُنَيْدُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في حَدِّ التصوّفِ: أَنْ تَكونَ مَعَ اللهِ بِلا عَلاقةٍ. وقيل: التصوُّفُ (هوَ العِصْمَةُ عن رؤيةِ الكَوْن). (4)
وقال أَبو فيروزٍ الكَرْخِيُّ المتوفّى سنة: /200/ للهجرةِ النَبَوِيَّةِ، {وهو من الطبقة الأولى مِنْ رِجالِ التَصَوُّفِ}، في حَدِّ التَصَوِّفِ، بِأَنَّ التَصَوُّفَ هو الأخذُ بالحقائقِ واليأْسُ مما في يَدِ الخلائق. (5) كما قالَ رُوَيْمُ بْنُ أحمدٍ البَغْداديُّ المتوفّى سنة /303/ هجريَّة، {وهو من الطبقةِ الثانية}: (إنّه، أي التصوُّفُ، اسْتِرْسالُ النَفْسِ مَعَ اللهِ تعالى على ما يُريد). (6) أمّا أبو محمد الحريري المتوفّى سنةَ /311/ هجريَّة، {وهو مِنَ الطَبَقَةِ الثالثة} فقد عَرّفَ التصوُّفَ بقوله: (هو الدخولُ في كلِّ خُلُقٍ سَنيٍّ والخروجُ من كلِّ خُلُقٍ دَنيٍّ). (7). وقال بعضُهم: (التصوُّفُ كلُّه أخلاق، فمَنْ زادَ عليك بالأَخْلاقِ، زاد عليكَ بالتَصَوُّفِ). (
. وذلك لأنّ رسول الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، يَقول: ((إنَّما بُعِثْتُ لأتمِّمَ مَكارِمَ الأخلاقِ))، (9). والصُوفيُّ الحَقُّ هو مَن جعلَّ همَّه اتّباعَ رَسولَ الله ـ صَلَّى الله عليه وسلّم، في جميعِ أَقوالِهِ وأفعالِهِ وأَحوالِهِ، والتخلُّقَ بأخلاقه. ويقول أبو بكرٍ الشِبْليُّ {وهو مِنَ الطَبَقَةِ الرابعة} المُتَوَفَّى سنة: /334/ للهجرة: (التصوُّفُ هو الجلوسُ مع اللهِ بِلا هَمٍّ). (10) ويقولُ إمامُ الطريقةِ الشاذليّة الشيخُ أبو الحسن الشاذِليُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه: (التصوُّف تدريبُ النفسِ عَلى العبوديَّة ورَدُّها لأحكامِ الرُبوبيّة). (11). وقال الشِبْليُّ أَيٍضاً: (الصوفيُّ مُنْقَطِعٌ عن الخلقِ متَّصلٌ بالحقِّ، لقولِهِ تعالى: {واصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسي}. (12).
أَمَّا مَنْ هو الصوفيُّ، فقد قال أَبو تُرابٍ النَخْشَبيُّ /245/ للهجرة {وهو من الطبقة الأولى} في تعريفِهِ: (الصوفيُّ لا يكدٍّرُهُ شيءٌ ويَصفو به كلُّ شيءٍ). (13). ومنَ {الطبقة الثانيةِ} يقول أبو الحَسَنِ النُورِيُّ /295/ للهجرة. بأَنَّ مِن وَصْفِ الصوفيِّ: (السكونُ عندَ العَدَمِ والإيثارُ عند الوُجودِ). (14). ومِنَ {الطبقة الثالثة} يقولُ الحلاّجُ /309/ للهجرة: (الصوفي وَحْدانيُّ الذاتِ لا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ ولا يَقْبَلُ أَحَداً). (15). ومن {الطبقة الرابعة} يقولُ السَرّاجُ: /378/ للهجرة. في صِفةِ الصوفيَّةِ: (الصوفيّةُ همُ العلماءُ بأحكامِ اللهِ، العاملون بما علَّمَهُمُ اللهُ، المتحقّقون بما اسْتَعْمَلَهُمُ اللهُ، الواجدون بما تحقَّقوا، الفانون بما وَجَدوا) (16).
مما تَقَدَّمَ يَتَبَيَّنُ لنا أَنَّ التَصَوُّفَ هوَ لُبُّ الدين الإسلاميِّ الحنيفِ
ورُوحُهُ على مُقْتَضى الشريعةِ السَمْحَةِ والمِلَّةِ الحَنيفيّةِ، وأَنَّ المُتَصَوِّفينَ هُمُ العاملون بِظاهِرِ الشَريعَةِ المُتَحَقِّقونَ بِبَواطِنِها وغاياتها، وأَنَّهم في ذلك كُلِّهِ إنَما هم مُقْتَدونَ بمنْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ هذِهِ الشَريعَةِ سَيِّدِ الوُجودِ محمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ عليه الصلاة والسلام. ولذلك فقد عَدَّ الإمامُ الشعرانيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مُنكِرَ طريقِ القومِ كافراً مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُ، لأنّهُ إنَّما يَكْفُرُ بِشرْعِ رَبِّهِ الذي نَزَّلَ على عَبْدِهِ ـ عليه أَفْضَلُ الصَلاةِ وأَتمُّ السَّلامُ. يقولُ في كتابهِ (لواقِحُ لأَنْوارِ القُدْسِيَّةِ في بيانِ العُهودِ المُحَمَّديَّةِ) ما نصُّه: (وإيَّاك أنْ تَقولَ بِأَنَّ طريقَ الصُوفيَّةِ لم يَأْتِ بها كتابٌ ولا سُنَّةٌ فإنَّهُ كفرٌ، فإنَّها كلَّها أخلاقٌ محمّديّةٌ سَداها ولُحمتُها منها) (17).
وقد فَصَّلَ في ذَلِكَ العَلاَّمَةُ العارِفُ الشَيْخُ عبدُ الغَنِيِّ النابُلسيُّ ـ طيَّبَ اللهُ ثَراهُ، في رسالةٍ لَهُ سمّاها (أَنْوارُ السُلوك) فقال: (اِعْلَم أَنَّ هذِهِ الشَريعةَ المحمّديَّةَ والمِلَّة الإسلاميّةَ لَيْسَتْ كَغَيرِها مِنَ الشَرائعِ المُتُقَدِّمَةِ المَنْسُوخَةِ الآن، والمِلَلِ المعهودةِ عند أَهْلِ الباطلِ، فإنَّ الشرائعَ المُتقدِّمةَ كانَتْ الأنبياءُ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، إذا جاؤوا بها إلى أُمَمِهم يَكونُ المُتَّبِعُ لها مِنْهم طوائفَ قَليلين وجماعاتٍ، بالنسبةِ إلى هذِهِ الأُمّةِ، لَيْسوا بالأَكْثرينَ الأَجَلِّينَ، فغايةُ ما يَتَقَرَّرُ عِنْدَهم، بعدَ الإيمانِ بِأَنْبِيائهم، أحكامُ الشرائعِ الظاهرةِ والأعمالِ المنوطةِ بالعوامِّ، مِنَ الاعْتِقاداتِ الإجماليَّةِ والأَعْمالِ البَدَنِيَّةِ، والحِكَمِ المُتَعَلِّقَةِ بالأَخْلاقِ والأَحْوالِ القَلْبِيَّةِ، وهذا غايَةُ ما يكونُ، دونَ الأَسْرارِ الرَبَّانيَّةِ، والحَقائقِ العِرْفانِيَّةِ التي اخْتُصَّ بحَوْزِها أَوْلياءُ هَذِهِ الأُمَّةِ، وتَوَجَّهَتْ إِلَيْها بَوَاطِنُ السَّالِكينَ بالنِيَّةِ الخالِصَةِ وصِدْقِ الهِمَّةِ، فيكونُ أَفْضَلُ الرِجالِ بَيْنَهم (أَيْ بينَ الأُمَمِ المُتَقَدِّمَةِ) مَنْ يَعْمَلُ بالظَواهِرِ مِنَ الطاعاتِ، ويَتَرَقّى إلى الاتِّصافِ بحُسْنِ الأَخْلاقِ القَلْبِيَّةِ. والنادرُ القليلُ جِدّاً مَنْ يَتَحَقَّقُ بِبَعْضِ الحَقائقِ الإلهيّةِ والتَجَلّيات الربّانيَّةِ، وأَمَّا هذِهِ الشَريعَةُ المحَمَّدِيَّةُ والمِلَّةُ الإسلاميَّةُ، فإنَّها ـ وللهِ الحمْدُ والمِنَّةُ، عَظيمَةُ المِقْدارِ، شَريفَةُ الآثارِ، ناسِخَةٌ لجَميعِ الشَرائعِ الماضِيَةِ، لِتَضَمُّنِها لها مَعَ زِياداتٍ كَثيرةٍ وفضائلَ جَمَّةٍ .. ، إلى أَنْ يَقولَ: وقد أَخَذَتِ الصُوفيَّةُ السالِكونَ عَلى مِنْهَجِ الأَعْمالِ الصالحَةِ والتَقْوى عُلومَ الطَريقَةِ المُحَمَّدِيَّةِ وقرَّروا الأَخْلاقَ القَلْبِيَّةَ، والأَحْوالَ الإنْسانِيَّةَ .. ثمّ يُتابِعُ: وأَخَذَ المحقِّقونَ العارِفونَ باللهِ تَعالى عَلى التَحْقيقِ والكَشْفِ والعِيانِ ـ بحَسَبِ الاسْتِعدادِ الوَهْبيِّ، عُلومَهم ومَعارفَهم وحقائقَهم مِنْ بَواطِنِ أَسْرارِ الشَريعَةِ المُحَمَّدِيَّةِ، وإشاراتِ الكتابِ والسُنّةِ، ونَشَروها في هذِهِ الأُمَّةِ) (18).
وقِيلَ بِأَنَّ التَصَوُّفَ مِنَ الصَفاءِ وتَزْكيَةِ النَفْسِ، وإفْرادِ القَلْبِ للهِ تعالى، يقولُ أَبو الفَتْحِ البَسْتِيُّ ـ رَحمَهُ اللهُ:
تَنَازَعَ النَّاسُ في الصُوفيِّ، واخْتَلَفوا ..... فيهِ وظَنُّوهُ مُشْتَقّاً مِنَ الصُوفِ
ولَسْتُ أَنْحَلُ هذا الاسْمَ غَيرَ فتًى .. صافَى فَصُوفِيَ حَتّى لُقِّبَ الصُوفي
(19). وجاءَ في كتابِ (البرهانِ المؤيَّدِ) أَنّ السَيِّدَ أَحمداً الرِفاعِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (التَصَوُّفُ الإعْراضُ عَنْ غيرِ اللهِ، وعَدَمُ شُغْلِ الفِكْرِ بِذاتِ اللهِ، والتَوَكُّلُ على اللهِ، وإلقاءُ زِمامِ الحالِ في بابِ التَفْويضِ، وانْتِظارُ فَتْحِ بابِ الكَرَمِ، والاعْتِمادُ على فَضْلِ اللهِ، والخوفُ مِنَ اللهِ في كُلِّ الأَوْقاتِ، وحُسْنُ الظَنِّ بِهِ في جميعِ الحالاتِ) (20).
يقول شيخُنا المُربي الكبيرُ والعارِفُ بالله الشيخُ عبدُ القادِرِ عِيسى ـ رَحمَهُ اللهُ تَعالى ورضيَ عنه، في كتابِهِ (حَقائق عن التصوّف) ما نَصُّه: (ونحن إذْ نَدْعو إلى التَصوُّفِ إنّما نَقصدُ به تَزْكيَةَ النُفوسِ، وصَفاءَ القُلوبِ وإِصْلاحَ الأَخْلاقِ، والوصولَ إلى مَرْتَبَةِ الإحْسانِ). (21).
ويقول الإمامُ الصاويُّ ـ رحمَهُ الله: (فَأَهْلُ الشُّكْرِ صَفْوَةُ اللهِ تَعَالَى، اصْطَفَاهُمْ وَخَلَّصَهُمْ مِنْ كَدَرِ الْقَلْبِ وَيُقَالُ لَهُمْ: صُوفِيَّةٌ: مِنْ صَفَا يَصْفُو إذَا خَلَصَ، أَوْ مِنْ صُوفِيَ إذَا صَافَاهُ غَيْرُهُ، أَوْ نِسْبَةً لِلُبْسِ الصُّوفِ؛ لأَنَّهُ شَأْنُهُمْ تَبَاعُدًا عَنْ التَّرَفُّهِ. (22) وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ الْمُرْسِيُّ: الصُّوفِيُّ مُرَكَّبٌ مِنْ حُرُوفٍ أَرْبَعَةٍ: فَالصَّادُ صَبْرُهُ وَصِدْقُهُ وَصَفَاؤُهُ، وَالْوَاوُ وَجْدُهُ وَوُدُّهُ وَوَفَاؤُهُ، وَالْفَاءُ فَقْدُهُ وَفَقْرُهُ وَفَنَاؤُهُ، وَالْيَاءُ لِلنِّسْبَةِ إذَا تَكَمَّلَ نُسِبَ إلَى حَضْرَةِ مَوْلاهُ. (23) وَقَالَ عَلِيٌّ أميرُ المؤمنين ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكرَّمَ وجهَهُ: (لَيْسَ مَعْنَى قَوْلِهِمْ لا يَكُونُ الصُّوفِيُّ صُوفِيًّا حَتَّى لا يَكْتُبَ عَلَيْهِ كَاتِبُ الشِّمَالِ شَيْئًا عِشْرِينَ سَنَةً أَنْ لا يَحْصُلَ مِنْهُ ذَنْبٌ، بَلْ كُلَّمَا أَذْنَبَ تَابَ قَبْلَ مُضِيِّ مُدَّةِ الإِمْهَالِ: أَيْ أَنَّهُ لا قَرَارَ لَهُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ). (24)
وقد ظهرتْ، فيما بعدِ عهدِ النبوَّةِ، تَسْمِياتٌ كثيرةٌ اقتضَتْها الحاجةُ وفَرَضَها التطوُّرُ والاختصاصُ، ولم يَعْتَرِضْ عَليها أحَدٌ، كالفُقَهاءِ: وهُمُ المُختَصُّونَ باسْتِنْباطِ أَحكامِ الشريعةِ مِنْ مَصَادِرِها المعروفة، والمُفَسِّرينَ: وَهُمُ الذينَ تَخَصَّصوا بِعِلْمِ تَفسيرِ القُرآنِ، والمحدِّثين: الذين تَفرَّغوا لجمْعِِ حَديثِ رَسُولِِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وتَصنيفِهِ وحِفْظِهِ بإسْنادِهِ، وتَدْوينِهِ، وبَيانِ صَحيحِهِ مِنْ ضَعيفِهِ، وما هو موضوعٌ كَذِباً وافْتِراءً على رَسُولِ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وصحْبِهِ وسَلَّمَ، وكَعِلْمِ النَّحْوِ، وعِلْمِ البَلاغَةِ، وعِلْمِ العَروضِ، وغيرِ ذلِكَ مِنْ عُلومٍ مُسْتَحْدَثَةِ الأَسماءِ، وكلُّها مِن أَصْلِ الشَريعةِ والدينِ، فهل يُعْقَلُ أَنْ نَقولَ بأنَّ عِلْمَ الحديثِ ، مثلاً، هو علمٌ دَخيلٌ على المِلَّةِ والدينِ؟. أوْ هَلْ يَجوزُ أَنْ نَقولَ: إنَّ الرسولَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَمَ، لم يكنْ فَصيحاً بَليغاً، وأَنَّ صَحَابَتَهُ ـ رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهم، لم يَكونوا على دِرايَةٍ بهذهِ العلومِ، لمِجَرَّدِ كَوْنِ هذِهِ الأَسماءِ مُسْتَحْدَثَةً؟. (25).
أوْ هل يَسوغُ لنا القولُ بأنَّ امْرُؤَ القَيْسِ، وسِواهُ مِنْ شُعَراءِ العربِيَّةِ في الجاهليَّةِ، لم يَكونوا على دِرايةٍ بالشِعْرِ لأَنَّ عِلْمَ العَروضِ لم يَكنْ مَعروفاً في عصرِهم، وهُمُ الذين اسْتُنبطَ عِلْمُ العَروضِ مِن أَشعارِهم؟ المُهمُّ هوَ المُسَمَّياتُ ولَيْسَتِ الأَسماءُ .
وإذا دقّقتَ في التاريخِ الإسلاميِّ، وجَدْتَ مُعْظَمَ أهلِهِ، مِنْ مَشاهيرِ الرِجالِ في كلِّ مجَالٍ هُمْ مِنَ المُتَصَوِّفَةِ، سَواءً أَكانَ ذَلِكَ في مَيادينَ العِلمِ والزُهدِ والتَقوى، أَمْ في مجالاتِ الجهادِ والتضحيةِ بالغالي النفيسِ في سَبيلِ اللهِ تعالى، ابْتِغاءً لمَرْضاتِهِ سبحانَه، سواءً بِقَولِ الحَقِّ والدَعْوَةِ إِلَيْهِ، أَوْ في مَيادينِ القِتالِ لإعلاءِ كَلِمةِ (لا إلهَ إلاَّ اللهُ محمَّدٌ رسولُ الله) والذَوْدِ عَنْ حِياضِ الدينِ والمقدّسات.
وتاريخُنا القديمُ الأَوْسَطُ والحديثُ حافلٌ بهؤلاءِ الأَبْطالِ، الذين جاهدوا في سبيلِ اللهِ لرفعِ رايةِ الإسلامِ، أو قارَعوا الغَزْوَ الاستعماريَّ لبلادِنا، مِنْ أَمْثالِ الأَميرِ شَكيب أَرْسْلان الدِمَشْقي، الذي قاومَ الغَزْوَ الصَليبِيَّ، والأَميرُ عَبْدُ القادِرِ الجَزائرِيِّ، الذي قاوَمَ الاسْتِعْمارَ الفَرَنْسِيَّ، وعُمَرُ المُخْتارُ، الذي قاوَمَ الاستعمارَ الإيطاليَّ، وصلاح الدين الأَيُّوبيِّ، الذي شَجَّعَ المَدارِسَ الصُوفيَّةَ لِيُعِدَّ الجيشَ الذي حَرّرَ بِهِ القدسَ الشريفَ، وقَضى على الحَمْلَةِ الصَليبِيَّةِ، وطَرَدَ الغُزاةَ مِنْ بِلادِنا. والشيخ سعيد البرهانيّ الذي كانَ في جَيْشِ البَطَلِ يُوسُف العَظَمَةِ، وشَيْخِنا الشَيْخُ عبدُ الرَحمنِ الشاغوريُّ، الذي شارك في الثَوْرَةِ السُوريَّةِ عَلى الاحْتِلالِ الفَرْنْسِيِ لِبِلادِنا العَزيزَةِ ـ رَحمةُ اللهِ عَلَيْهم جميعاً. ولو أَرَدْنا تَعْدادَ أَسماءِ الصُوفِيّينَ في مَيادِينِ الجِهادِ والبُطولَةِ وقولِ كلمةِ الحقِّ أمام سلطانٍ جائرٍ لَقَصُرَ القلمُ ولَضاقَتِ الصَفَحاتُ، فمشاركةُ شيخنا الأكبرِ أبي الحسنِ الشاذليِّ وهو كفيف البَصَرِ المجاهدين ضدَّ الغزاةِ لمصرَ الحبيبةِ، وإصرارُ العزِّ ابْنِ عَبْدِ السَّلامِ عَلى بيعِ المَمالِيكِ الذين كانوا يحكمونَ مِصْرَ كَشَرْطٍ مُسْبَقٍ لِلسماح لهم بتبوُّؤِ مناصب الحُكْمِ التزاماً بأحكامِ الشرع الحنيفِ كلُّ لك مدوَّنٌ في كتبِ التاريخِ ومعروفٌ من سيرِ هؤلاءِ الأبطالِ، وما ثورَةُ السادَةِ النَقْشَبَنْدِيَّةِ اليَوْمَ في العِراقِ، ضدَّ الأمركان إلاَّ صَفْحة بيضاء ناصِعَة البَياضِ في تاريخِ الحَرَكاتِ الصُوفيَّةِ في العصرِ الحديث .
يَقولُ الداعيةُ الإسْلامِيُّ المَعروفُ الحَبيبُ بْنُ عَلِيٍّ الجَفْرِيِّ: (وتَشْكِيكُ البعْضِ في الصوفيَّةِ لَنْ نَسْكُتَ عَنْه ... لأنَّ هذا يجني عَلى الأُمَّةِ بِأَكْمَلِها، فاليومَ تحويلُ صُورَةِ التَصَوُّفِ في أَذْهانِ النَّاسِ عَلى أَنَّهُ باطِلٌ وضَلالٌ وشِرْكٌ وكُفْرٌ، وخِطَّةٌ يَهودِيَّةٌ تُبَثُّ بَيْنَنا ..، لأنَّ هَذا الكلامَ مَعْناهُ عَدَمُ الثِقَةِ بالقُرْآنِ ولا السُنَّةِ, ولِمَ؟ لأنَّ جميعَ أَسانيدِنا نحنُ أهلَ الإسْلامِ في رِوَايَةِ الكَتابِ والسُنَّةِ مَليئَةٌ بِأَئِمَّةِ التَصَوُّفِ, لا يَسْتَطيعُ أَحَدٌ، بَلْ يَعْجِزُ، أَنْ يَرْوي سَنَداً صَحيحاً في إِجازَةِ قِراءَةٍ مِنَ القِراءاتِ السَبْعِ، أَوِ العَشْرِ للقُرآنِ الكَريمِ، إلاَّ وفي أَثْناءِ السَنَدِ إِمامٌ مِنْ أَئِمَّةِ التَصَوُّفِ .. فإنْ كانوا ضُلاّلاً مُشْرِكِينَ أَهْلَ سُوءٍ، إذاً رِواياتُنا للقُرآنِ مَشْكوكٌ فيها). (26)
وها هوَ حُجّةُ الإسلامِ الإمامُ أَبو حامِدٍ الغَزاليُّ ـ رَحمهُ اللهُ تَعالى ورضي عنه، يُبْدي رَأْيَهُ في السادةِ الصُوفيَّة ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهم، بعدَ أَنْ خَبِرَهم عَنْ قَرْبٍ، وعَرَفَهم عَنْ كَثَبٍ، وهو حُجَّةُ الإسْلامِ الذي ذادَ عَنْ حِياضِ الشَرِيعَةِ وبَيَّنَ خَطَلَ الفِرَقِ الضالَّةِ الكَثيرةِ التي ظَهَرَتْ في زَمانِهِ وحَذََّرَ مِنْ زَيْغِها وضَلالها، وهوَ إِمامُ المَدْرَسَةِ النِظامِيَّةِ التي كانت تُخَرِّجُ عُلَماءَ الأُمَّةِ وفُقَهاءَ الشَريعَةِ الإسْلامِيَّةِ، الدُعاةَ الذين يُبَيِّنُونَ للنَاسِ طَريقَ الحَقِّ، والذي كان إذا جَلَسَ للدَرْسِ حَضَرَ مَجْلِسَهُ أَرْبعُ مِئَةٍ كُلُّهم عُلَماءُ معمَّمون، بالإضافةِ إلى كِبار ِرِجالِ الحِكْم، يَقولُ: ( إنّي علِمتُ يَقيناً أَنَّ الصُوفيَّةَ هُمُ السالِكونَ لِطَريقِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، خاصَّةً .. وأَنَّ سيرتَهم أَحْسَنُ السِيَرِ، وأَنَّ طَريقَهم أَصْوبُ الطُرُقِ ... وأَنَّ أَخلاقَهم أَزْكى الأَخْلاقِ، بَلْ لو جُمِعَ عَقْلُ العُقَلاءِ وحِكمةُ الحُكَماءِ ... وعِلمُ الواقفين على أسرارِ الشَرْعِ مِن العلماءِ لِيُغَيِّروا شَيئاً مِن سِيرَتِهم وأخلاقِهم، ويُبَدِّلوه بما هو خَيرٌ منه ... لم يجدوا إليْهِ سَبيلاً، فإنَّ جميع حَرَكاتِهم وسَكناتِهم، في ظاهِرِهم وباطنِهم مُقْتَبَسةٌ مِن نُورِ مِشْكاةِ النُبوَّةِ .. وليس وراءَ نورِ النبوَّةِ على وَجْهِ الأَرْضِ نورٌ يُستضاءُ بِهِ.
وبالجُملةِ ماذا يَقولُ القائلونَ في طَريقَةٍ أَوَّلُ شُروطِها تَطهيرُ القلبِ بالكُلِّيَّة عَمّا سِوى اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعالى، ومِفْتاحُها الجَاري مِنْها مَجْرَى التحريمِ في الصلاة، اسْتِغْراقُ القَلْبِ بالكُلِّيَةِ بذكرِ اللهِ ـ سُبْحانَه وتَعالى، وآخرُها الفَناءُ بالكُلِّيَةِ التامَّةِ في اللهِ؟. (27)
ورَحِمَ اللهُ سَيِّدي الغَوْثَ أَبا مَدْيَنَ، ورَضِيَ عَنْه، لقد وَصَفَهم فقال:
قومٌ كرامُ السجايا حيث ما جلسوا .... يبقى المكانُ على آثارهم عَطِرا
يُهدي التصوفُ مِنْ أخلاقِهم طُرُقاً ..... حُسْنُ التآلُفِ مِنْهم راقني نَظَرا
(28).
ورَحِمَ اللهُ أبا عبدَ اللهِ محمَّدَ بْنَ أَبي عقامَةَ قاضي زُبَيْدٍ القائلَ:
لله قومٌ إذا حلّوا بمنزلةٍ ............ حلَّ السرورُ وسار الجودُ إنْ ساروا
تحيا بهم كلُّ أرضٍ ينزلون بها ........... كأنَّهم في بقاع الأرضِ أمطارُ
وتشتهي العينُ منهم منظراً حسناً ... كأنّهم في عيون الناس أقمارُ
لا غيّب الله عنّا وجهكم أبداً ..... يا من لكم في الحشا والقلب تَذكارُ
(29).
وهذه شهادةٌ قَيِّمَةٌ لِواحِدٍ مِنْ كِبارِ صحابَةِ سَيِدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صلى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وأَحَدِ كُتَّابِ الوَحِيِ الموثوقينَ عِنْدَ اللهِ ورسولِهِ، ألاَ وهوَ أميرُ المؤمنين مُعاوِيَةُ بْنُ أبي سفيانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، وعن أَصْحابِ رَسولِ اللهِ أَجمعين، وقد أَتَتْ في مَعْرِضِ تَأْنيبِهِ لابْنِ عَمّهِ، وأَحَدِ كِبارِ قادتِهِ وعُمَّالِهِ مروانَ بْنِ الحَكَمِ، على خَطَأٍ ارْتَكَبَهُ، يقولُ :
قد كُنتَ تُشْبِهُ صُوفيّاً لَهُ كُتبٌ .......... من الفَرائضِ أو آياتِ فُرْقانِ
(30).
وواضح أنّه كان ينظر إلى الصوفيّة بإجلال واحترام لأنهم أهل علم وقرآن، وواضحٌ أَنَّ التَصَوُّفَ كانَ مَوْجوداً زَمَنَ الصَحَابَةِ، وفي ذلك أَبْلَغُ رَدٍّ على مَنْ يُنْكِرُ وُجودَ التَصَوُّفِ زَمَنَ رَسُولِ اللهِ وأَصْحابِهِ وأَنَه بِدْعَةٌ مُسْتَهْجَنَةٌ لا صِلَةَ لها بالشَرْعِ الحَنيفِ وأَنَّ أَصْحابَهُ ضالُّونَ مُضِلُّونَ جَهَلَةٌ، وهو ما ادَّعَتْهُ الفِئَةُ الضَالَّةُ التي كانَ وما زَالَ همُّها فِرْقَةَ المُسلِمينَ وشَقَّ صُفوفِهم لِيَكونوا لُقْمَةً سائِغَةً لأَعْداءِ الإسْلامِ والمُسْلِمين، عَلِموا ذَلِكَ أَوْ جَهْلوهُ.
وهذِهِ شَهادةٌ لِواحِدٍ مِنْ كِبارِ مُثَقَّفيِّ هذا العَصْرِ، المُفَكِّرِ الإسْلاميِ النابِهِ، والصِحافيِّ اللاّمِعِ صَديقِنا الأسْتاذ محمَّدِ الراشِدِ ـ حَفِظَهُ الله، إذْ يَقولُ في كِتابِهِ {وَحْدَةُ الوُجودِ مِنَ الغَزاليِّ إلى ابْنِ عَرَبيّ} ما نَصُّهُ: (الصفاءُ مِنَ الإنسانِ كالشُعاعِ مِنَ الشَّمْسِ وكالأَريجِ مِنَ العِطْرِ، وكالبَراءةِ مِنَ الطُفولةِ، لِذا؛ كُنْتُ وما زِلْتُ أُصِرُّ، وبِضَرْبٍ مِنَ الحَزْمِ والتأْكيدِ، بِأَنَّ التَصَوُّفَ صَفاءٌ في القَلْبِ وسُمُوٌّ في الشُعورِ ... أَمَّا لُبْسُ الصُوفِ، وتَرْقيعُ الثِيابِ، والزُهْدُ المُتَعَسِّفُ، والرُكونُ والخُمولُ والكَسَلُ في الزَوايا .. ذَلِكَ كُلُّهُ لَيْسَ مِنَ الصُوفِيَّةِ في شيءٍ). (31).
ونحن نُثَنّي على قوْلِ الأُسْتاذِ الراشِدِ، ونقولُ بقولِهِ، ونَشُدُّ على يَدِهِ، فالتَصَوُّفُ ـ بِرأْيِنا، إيمانٌ وعِلْمٌ وعَمَلٌ وحَسْبُ.
ونختمُ بشهادةِ شيخ الإسلامِ بْنِ تَيْمِيَة ـ إذْ قالَ ـ رَحِمَهُ اللهُ، في مجموعِ فَتاواهُ الكُبرى: (وَالصُّوفِيَّةُ الْمَشْهُورُونَ عِنْدَ الأُمَّةِ الَّذِينَ لَهُمْ لِسَانُ صِدْقٍ فِي الأُمَّةِ لَمْ يَكُونُوا يَسْتَحِبُّونَ مِثْلَ هَذَا، بَلْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَلَهُمْ فِي الْكَلامِ فِي ذَمِّ صُحْبَةِ الأَحْدَاثِ ...). (32).
ويسمي هؤلاءِ الذينَ هُم في نَظَرِهِ مَشايِخُ الإسْلامِ وأَئِمَّةُ الهدى ويَشْهَدُ لهمْ بالتَوْحيدِ الخالِصِ وبمقاومتهم للبدعِ في الدينِ فيقولُ في مكانٍ آخَرَ مِنْ فَتَاواهُ: (.. وَيُوهِمُونَ الْجُهَّالَ أَنَّهُمْ مَشَايِخُ الإِسْلامِ، وَأَئِمَّةُ الْهُدَى الَّذِينَ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ فِي الأُمَّةِ مِثْلُ: سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ، وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالأَوْزَاعِي، وَإِبْرَاهِيمَ بْنِ أَدْهَمَ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، والْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ، وَمَعْرُوفٍ الْكَرْخِيِّ، وَالشَّافِعِيِّ، وَأَبِي سُلَيْمَانَ، وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَبِشْرٍ الْحَافِي، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ الْمُبَارَكِ، وَشَقِيقٍ البَلْخِيِّ، وَمَنْ لا يُحْصَى كَثْرَةٌ. إلَى مِثْلِ الْمُتَأَخِّرِينَ: مِثْلُ الْجُنَيْد بْنِ مُحَمَّدٍ القَواريري، وَسَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللهِ التَسْتُرِيِّ، وَعُمَرَ بْنِ عُثْمَانَ الْمَكِّيِّ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ ـ إلَى أَبِي طَالِبٍ الْمَكِّيِّ، إلَى مِثْلِ الشَّيْخِ عَبْدِ الْقَادِرِ الكيلاني، وَالشَّيْخِ عَدِيٍّ، وَالشَّيْخِ أَبِي الْبَيَانِ، وَالشَّيْخِ أَبِي مَدِينٍ، وَالشَّيْخِ عَقِيلٍ، وَالشَّيْخِ أَبِي الْوَفَاءِ، وَالشَّيْخِ رَسْلانَ، وَالشَّيْخِ عَبْدِ الرَّحِيمِ، وَالشَّيْخِ عَبْدِ اللهِ اليونيني، وَالشَّيْخِ الْقُرَشِيِّ، وَأَمْثَالِ هَؤُلاءِ الْمَشَايِخِ الَّذِينَ كَانُوا بِالْحِجَازِ، وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ، وَمِصْرَ، وَالْمَغْرِبِ، وَخُرَاسَانَ، مِنْ الأَوَّلِينَ والآخِرينَ. كُلُّ هَؤُلاءِ مُتَّفِقُونَ عَلَى تَكْفِيرِ هَؤُلاءِ وَمَنْ هُوَ أَرْجَحُ مِنْهُمْ وَإِنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لَيْسَ هُوَ خَلْقَهُ وَلا جُزْءً مِنْ خَلْقِهِ، وَلا صِفَةً لِخَلْقِهِ بَلْ هُوَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، مُتَمَيِّزٌ بِنَفْسِهِ الْمُقَدَّسَةِ بَائِنٌ بِذَاتِهِ الْمُعَظَّمَةِ عَنْ مَخْلُوقَاتِهِ وَبِذَلِكَ جَاءَتْ الْكُتُبُ الأَرْبَعَةُ الإِلَهِيَّةُ؛ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ وَالْقُرْآنِ وَعَلَيْهِ فَطَرَ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ وَعَلَى ذَلِكَ دَلَّتْ الْعُقُولُ .. ). (33)
مَصادِر ُالبابِ الأَوَّلِ
1 ـ صحيح مسلم: (1/87).
2 ـ حقائق عَنِ التَصَوُّفِ، ص: (22 ـ 23) الشيخ عبد القادر عيسى.
3 ـ الحديثُ مشهورٌ أَخْرَجَه: أَحمدُ في "الزُهْدِ": (248) مِنْ طَريقِ سَعيدِ بْنِ يَزيدٍ، مُرسلاً. وأَخْرَجَهُ: الطبرانيُّ في "الكبير" (3367)، والبيهقي في "شُعب الإيمان" (10591)، من حديث الحارث بن مالك، به مرفوعاً، وهو ضعيف. وأخرجه: البزّارُ (32)، والبيهقي في "شُعب الإيمان" (10590) مِنْ حَديث أَنسِ بْنِ مالكٍ، بِهِ مَرفوعاً. وهو ضعيف. وأخرجه أيضاً: الطَبراني في "الكبير" (7897) منْ حديثِ أَبي أُمامةَ بِهِ، وهو جزْءٌ مِنْ حديثٍ طويلٍ، وفيه عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جَدْْعانَ ضعيف.
4 ـ إيقاظُ الهِمم في شَرْحِ الحِكم لابْنِ عَجيبة ص: /4/.
5 ـ الرسالة القُشَيْرِيَّة ص: /126/ .
6 ـ المصدر السابق.
7 ـ المصدر السابق.
8 ـ حقائق عَنِ التَصَوُّفِ: ص/14/.
9 ـ وفي رواية أخرى: ((بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ صالحَ الأَخْلاقِ)) أَخْرَجَهُ الحاكم (2/670، رقم: 4221) وقال: صَحيحٌ على شَرْطِ مُسْلِم. وأخرجه البَيْهَقِيُّ: (10/192، برقم: 20572). والديْلَمِيُّ: (2/12، رقم 2098).
10 ـ حقائق عَنِ التَصَوُّفِ: ص/14/.
11 ـ المصدر السابق، نفس الصفحة.
12 ـ سورة طه، الآية: 41.
13 ـ إيقاظ الهمم، ص: /5/.
14ـ الرسالة القشيرية ص/128/.
15 ـ المصدرُ السابق .
16 ـ المصدر السابق .
17 ـ المصدر السابق .
18 ـ كتاب أشرف الوسائل في تحقيق أدقّ المسائل للسيد محمّد أبو الهدى الصيّادي ص: 259 .
19 ـ زَهْرُ الأدابِ وثَمَرُ الأَلبابِ، لأبي إسحاقٍ القيروانيِّ: (2/ 205).
20 ـ كتاب أشرف الوسائل في تحقيقِ أَدَقِّ المَسائلِ للسَّيِدِ محمّد أبو الهدى الصيّادي، ص: 260 ـ 262 .
21 ـ حقائق عن التصوّف، عبد القادر عيسى، ص: /16/.
22 ـ حاشية الصاوي على الشرح الصغير (11/ 231)
23 ـ نفس المرجع السابق.
24 ـ نفس المرجع السابق،
25 ـ حقائق عن التصوّف، ص: /18/ .
26 ـ معالم السلوك للمرأة المسلمة للشيخ الحبيب علي الجفري ص/69/.
27 ـ المضنونُ الصغيرُ، لحجَةِ الإسلام للإمام أبي حامد الغزالي، ص: 25 .
28 ـ البُرْهانُ المُؤَيَّدُ للإمامِ أحمد الرفاعي الحسيني: (ص: 219)
29 ـ النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة: (2/ 92).
30 ـ نهايةُ الأَرَبِ في فُنونِ الأَدَبِ: (ج: 2/، ص: 17/).
31 ـ وحدة الوجود من الغزالي إلى ابن عربي للأستاذ محمد الراشد: (ص: 23.(
32 ـ مجموعُ الفَتاوى: (21/ 258).
33 ـ مجموع الفَتاوى: (2/ 474).