بسم اللهِ الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاةُ والسلام على المبعوث رحمةً للعالمين وعلى آله وصحبِ أجمعين. وبعد.
ابتداءً من اليوم سأنشر إن شاء الله كتابي (المرأة في الغزلِ الصوفي) الكتاب الذي كان قد حصل على شهادة تقديرية من جامعة غازي عنتاب التركية نظراً لجدَّة الطرح وحداثة التحليل ولك بمعدل عشر صفحات في اليوم، وهو كتابٌ جديرٌ بالقراءة يحتاج كلُ إنسان أن يطلع عليه ليفهم الحياة، فأرجو المتابعة ممن كان مهتمّاً بهذا الموضوع. سائلاً المولى القدير أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علَّمنا إنه على ما يشاء قدير، وصلى الله على معلم الناس الخير وعلى آله وصحبه وسلم.
المرأة في الغزل الصوفي
للشاعر
عبد القادر الأسود
المقدمة:
بِسْمِ اللهِ الذي لا إلهَ سِواهُ، ولَهُ الحمْدُ حمْداً يُحِبُّه ويَرضاهُ، وأَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلاَّ اللهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنا محمَّداً رَسُولُ اللهِ وعَبْدُهُ وحَبيبُهُ وصَفِيُّهُ ومُصْطَفاهُ، وعَلى كُلِّ عَبْدٍ لَهُ مُنيبٌ وبِحُبِّهِ أَوَّاهُ. أَمَّا بَعْدُ.
لَطالمَا تَطَلَّعتُ إلى جَلاءِ حقيقةٍ مَنَّ اللهُ عَليَّ بِفَهْمِها عَنْ أَهْلِها الذينَ مَنَّ عَلَيَّ بِصُحْبَتِهم والانْتِظامِ في سِلْكِهم، وأَكْرَمَني بمَحَبَّتِهم وتَذَوُّقِ شَرابِهم، فعَرَفْتُ مُنْذُ عامِ /1964/ المُرَبيَ الكبيرَ الشيخَ عبدَ القادرِ عيسى ـ تَغَمَّدَهُ اللهُ بواسِعِ رَحمَتِهِ، وجَزاهُ عنّي خيرَ ما جازى شَيْخاً عَنْ مُريدِهِ، وكانَ الشيخُ عبدُ القادِرِ خَليفةَ الوَليِّ العارِفِ باللهِ السَيِّدِ محمَدٍ الهاشمِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في حَلَبَ، وكُنْتُ حِينَها في السادِسَةَ عَشْرةَ مِنْ عُمري، فتَرَبَّيْتُ على يديْه، ورَأَيْتُ الكَثيرَ مِنْ كراماتِهِ، على عادَةِ أَهْلِ اللهِ في تَثْبيتِ قَلْبِ المُريدِ لِيَثِقَ بهمْ، لأنَّ الثِقَةَ بالطَبيبِ لازِمَةٌ للانْتِفاعِ بِدوائِه .
ثمَّ أَنهيتُ دراسَتي، ودُعيتُ لأداءِ خِدمَةِ العَلَمِ، وشاءَتِ العِنايةُ
الإلهيّةُ أَنْ تَكونَ خِدمَتي في دِمَشْقَ، وأَنْ أَسْكُنَ في الَحيِّ الذي كانَ يَسْكُنُهُ السَيِّدُ الهاشميُّ (شَيْخُ شَيْخي) ـ رَحمَةُ اللهِ عَلَيْهِما، وكانَ يَسْكُنُ ذاكَ الحَيِّ (المهاجِرين) كَوْكَبَةٌ مِنْ محبيِّ الشَيْخِ ومَريديهِ الذين كانوا قدْ آثَروا جِوارَهُ، فانْتَفَعْتُ بهمْ، ولاسيَّما خَليفَتُهُ في دِمَشْقَ العارَفُ باللهِ المرشدُ الكَبيرُ المرحومُ الشيخُ عبدُ الرَحمنِ الشاغوريُ، الذي أَفَدْتُ الكَثيرَ مِنْ عُلومِهِ ومَعارِفِهِ، وعَلى يَدَيْهِ دَخَلْتُ الخُلْوَةَ، كُلُّ ذَلِكَ كانَ بَتَرْتيبِ الحَكيمِ العَليمِ وتَدْبيرِهِ، ولم يَكُنْ لي فِيهِ أَيَّةُ إِرادَةٍ أَوْ كَسْبٍ.
وكانَ الشَيْخُ عبدُ الرحمنِ شاعِراً ومُنْشِداً، إِضافَةً إلى عُلومِهِ الجَمَّةِ التي أَخَذَها عَنْ مَشايِخِهِ، وبخاصَّةٍ السَيِّدُ الهاشمِيُّ، وهذا ما جَعَلَني أُحِبُّهُ أَكْثَرَ، وجَعَلَني مِنْهُ أَقْرَبَ، وأَحَبَّني هو أَيْضاً لأنني أُشارِكُهُ مواهِبَهُ فَأََغْدَقَ عَلَيَّ ما قَسَمَهُ اللهُ تَعالى لي مِنْ عُلومِ القَوْمِ وأَذْواقِهم وأَحْوالهم .
ونَظَراً لِشَغَفي بالشِعْرِ والإنْشادِ، فقدْ كُنْتُ أَقْرَأَ أَشعارَ السادَةِ الصُوفِيَّةِ وغَزَلَهم، والشُروحَ لها والدِراساتِ عَلَيْها، فلا أَجِدُ فيها ما يَتَّفِقُ مَعَ ما أَخَذْتُهُ عِلْماً وذَوْقاً عَنْ العالِمِ العارِفِ الشاعِرِ الصُوفيِّ الشيخِ عَبْدِ الرَحمنِ ـ تَغَمَّدَهُ اللهُ بِرَحمتِهِ، وأَتَحَدَّثُ في ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ إخْواني وأَصْحابي.
ثمَّ عَزَمْتُ عَلى أَنْ أُحَرِّرَ هذا الفَهْمَ في رِسالَةٍ وَجيزَةٍ تَعْميماً للفائِدَةِ، وحَتَّى لا أَدخُلُ فِيمَنْ كَتَمَ عِلْماً عِنْدَهُ، ولمَّا شَرَعْتُ في ذَلِكَ وَجَدْتُ مِنَ الخَيْرِ أَنْ أَبْدَأَ بالحَديثِ عَنِ القَوْمِ وطَريقِهم في محَبَّةِ اللهِ، ثمَّ أتحدَّثُ عَنْ نَظَرِهم إلى خَلْقِ اللهِ، ولمَّا أَخَذْتُ أُقَلِّبُ صَفَحاتِ المَراجِعِ والمَصَادِرِ، وَقَفْتُ على الكَثيرِ ممَّا هوَ مُشَوِّقٌ ومُفيدٌ مِنْ قَصَصِ الُمُحِبِّينَ والعُشَّاقِ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَنقُلَ بَعْضَهُ إلى إِخْوَتي القُرَّاءِ وأَخَواتي، وما كانَ نَقْلي لهذِهِ القِصَصِ نَقْلاً حَرْفِيّاً، إِنَّما حَذَفْتُ مِنْها ما لا يَتَّفِقُ والغايَةِ المُتَوَخَّاةِ، وهَذَّبْتُ، وصَحَّحْتُ ما فِيها مِنْ أَخْطاءِ نحْوِيَّةٍ أَوْ إِمْلائيَّةٍ أَوْ لُغَويَّةٍ ما اسْتَطَعْتُ، وأَشَرْتُ إلى مَسائلَ في النَّحْوِ واللُّغَةِ ما قَدَّرْتُ نَفْعَهُ، لاسِيَّما قِصَّةُ عِشْقِ السيِّدَةِ زُلَيْخا لِسَيِّدِنا يُوسُفَ ـ عَلَيهِما السِّلامُ، ممّا اسْتَفَدْتُهُ مِنَ المراجِعِ التي أَشَرْتُ إِليْها.
ثمَّ بَدا لي أَنْ أُضِيفَ باباً أُضَمِّنُهُ مختاراتٍ شِعْريَّةٍ لِبَعْضٍ مِنْ كِبارِ رِجالِ التَصَوُّفِ مَعَ تَرْجمةٍ مُخْتَصَرَةٍ لَكُلٍّّ مِنْهُم تَعريفاً بِهِ وبِمَكانَتِهِ العِلْمِيَّةِ والأَدَبِيَّةِ، فَأَصْبَحَ الكِتابُ مُقَسَّماً عَلى سِتَّةِ أَبْوابٍ: بابٌ للتَعْريفِ بالتَصَوُّفِ، وبابٌ للاطِّلاعِ عَلى نَظْرَةِ الصُوفِيّينَ إلى الوُجُودِ، كُلِّ الوُجُودِ، وبابٌ للتَعَرُّفِ على نَظْرَةِ الصُوفِيّينَ إلى المَرْأَةِ كَواحِدٍ مِنْ مُكَوِّناتِ هذا الوُجودِ، وكيفَ نَظَرَ إِلَيْها الشَرْعُ الإسْلاميُّ، وما هيَ أَحْكامُ مُعامَلَتِها وعِشْقِها مِنْ قِبَلِ العامَّةِ ومِنْ قِبَلِ رِجالِ التَصَوُّفِ، وبابٌ لِباقَةٍ مِنَ الغَزَلِ الصُوفيِّ. وبِذَلِكَ أَصْبَحَ الكِتابُ ـ كَما أَراهُ، ماتِعاً مُفيداً وضَّحَ للنّاسِ الكَثيرَ ممّا جَهِلَهُ مِنْهُمُ الكَثيرُ .
وقد بَدَأَتْ رِحْلَةُ هذا الكتابِ في رَبيعِ عامِ /2007/م عِنْدَما طَلَبَتْ مِنِّي جمعيَّةُ العادِيَّاتِ بإدْلِبَ محاضَرَةً، فَأَعْطَيْتُ هَذا العُنَوانَ (المرأةُ في الغَزَلِ الصُوفيِّ)، وأَعْدَدْتُ فيهِ بَحْثاً مُوجَزاً يَصْلُحُ للمُحاضَرَةِ، لَكِنَّ وعْكَةً صِحِيَّةً أَلَمَّتْ بي حِينَها، مَنَعَتْني من إلقائها فاعْتَذَرْتُ .
ثمَّ دُعِيتُ بُعَيْدَ ذَلِكَ إلى مَدينَةِ أَنْطاكِيَّةَ في إطار التعاون الثقافي والعلاقاتِ التي كُنْتُ بنيتُها مع الكُتَّابِ الأَتْراكِ وقْتَئِذٍ حيثُ كنتُ رَئيساً لِفَرْعِ اتِّحادِ الكُتَّابِ العَرَبِ بإدْلِبَ، فدُعيتُ للمُشارَكَةِ في مِهْرَجانٍ أَدَبيٍّ هناك، وكانت مشاركتي بهذه المحاضَرَةِ التي لَفَتَتْ نَظَرَ الشاعِرَةِ الدُكْتورةِ السَيِّدةِ: (بهيَّة كوسال)، عَميدِ كِلِّيَّةِ الآدابِ في جامِعَةِ غازي عِنْتابِ التركيَةِ، لما فيها من نقدٍ حديثٍ للفِكْرِ الصُوفيُّ، لم أسبقْ إليهِ حيث اعتبرت ذلك فتحاً جديداً في دراسةِ الغزلِ الصوفيِّ فدعتني لأكونَ ضيفاً على جامعتها حيثُ جرى حوارٌ ونقاشٌ لكتابي هذا ومنحتُ بعدَ لك شهادةً تقديريةً من جامعة غازي عنتاب وهكذا ظَهَرَ هذا الكِتابُ بهذه الحُلّةِ القَشِيبَةِ. وأَظُنُّ أَنَّ مَنْ يَتَصَفَّحُهُ سَوفَ يُحِبُّهُ ويتعلَّقُ به ولَنْ يَسْتَغْنيَ عَنْهُ أَبَداً.
راجياً جزيلَ ثوابِهِ سُبْحانَه، ودعوةً مخلصةً مِنْ أَخٍ كَريمٍ، بظَهْرِ الغيبِ، أَوْ أُختٍ كريمةٍ، عَسى أَنْ يَكون لي ذَلِكَ خَيراً جارياً وعَمَلاً مُسْتَمِرَّ الأَجْرِ والمَثوبة بِمَنِّهِ تَعالى وكَرَمِهِ وجُودِهِ.
ولا أَدّعي في ذلك عِصْمَةً ولا كَمالاً، فإنَّ العِصْمَةَ للأَنْبياءِ ـ عَلِيْهِمُ السَّلامُ، وإنَّ الكَمَالَ للهِ وحدَهُ ـ جَلَّ وعَلا، فما مِنْ عَمَلٍ لمَخْلوقٍ يَخْلو مِنْ نَقْصٍ أَوْ عَيْبٍ البتَّة، حيثُ لا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَصْدُرَ كَمالٌ عَنْ ناقِصٍ ولا نقصَ من كمالٍ, ورَحِمَ اللهُ المُتَنبي؛ حيثُ قالَ:
ولم أرَ في عيوب النَّاس عيباً .............. كَنَقْصِ القادرينَ عَلى التَّمامِ
وصلَى اللهُ عَلى سَيِدِ الأَوَلينَ والآخِرينَ، وعلى آلِهِ وأَصحابِهِ والتابِعينَ بإحْسانٍ إلى يَوْمِ الدينِ، وآخِرُ دَعْوانا أَنِ الحَمْدُ للهِ رَبِّ العالمين.
زحلة: 25/ ربيع الثاني/1430هـ ، 21/نيسان/2009م
عبد القادر الأسود
تمهيد:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد الله الذي تجلّى على من أَحَبَّ من خلقِهِ بخاصَّة العبوديَّةِ له، وفتح لهم أبواب الفهمِ عنه والتلقّي منه، وسَلَكَ بهم سُبُلَ الهِداية إليه وأَكرمَهم بدِلالةِ خَلْقِه عليه، والنظرِ في عالمَيْ مَلكوتِه ومُلْكِه ليعرفوه في جميعِ تجليّاتِهِ بأسمائِه وصفاتِه، وقَدَّسَ قلوبَهم بأنوارِ ذاتِه.
والصلاةُ والسلامُ الأَتمّانِ الأَكْمَلان على أَكْمَلِ خَلقِهِ، وصَفْوَةِ أنبيائه ورُسُلِهِ، إمامِ المتّقين ووليِّ المؤمنين وحبيبِ رَبِّ العالمين، وعلى جميعِ إخوانِهِ النَبِيّينَ والمرسلين، وعلى آلِ كُلٍّ وصَحْبِ كُلٍّ أَجمعين، وبعد.
ثَمَّةَ طائفةٌ من المؤمنين، والعلماءِ العاملين، يُسَمَّوْنَ بالصُوفيّين اصْطَفَتْهُمُ الذاتُ العليّةُ إلى حضرةِ قدسِها، وأَسْبَلَتْ عليهم جَلابيبَ محبَّتِها وأَسْبَغَتْ عليهم رِداءَ مَعرِفتِها، وأَسَرَتْ قلوبَهم بجمالِها، ومَنَّتْهم بوِصالهِا, فتَعَلَّقتْ بها أفئدتُهم, وانْغمَستْ في بحارِ أنَوارِها أرواحُهم, وانْطَمَسَتْ في مجالي ظُهورِها ذَواتُهم، وماتتْ فيها نفوسُهم، وانْشَغَلتْ بدَقائق أَسرارِها أَفكارُهم، واشْتَعَلَتْ بالشوقِ إليها قلوبُهم، وسَكَنَتْ إليها جَوارِحُهم، وحارتْ في مَعْناها عُقولُهم. إنْ نَظَروا فإلَيْها، وإنْ سَكَتوا فبِها، وإنْ حَدَّثوا فعنْها، وقد تَرْجَمَتْ أحوالَهم أَلْسِنَتُهم وأَقلامُهم.
و نَظَر الناسُ في كلامِهم فقَصُرتْ عنْه أَفهامُهم، وعَجَزتْ عنَ بلوغ مرامَيهَ مَداركُهم لِبُعْدِهم عنهم، فكانَ الناسُ فيهم على طَريقَين: تَأَوَّلَ لهمُ الصالحون، واعْتَرَضَ عليهم المُرْتابون. وكنتُ فيمن أَكْرمَهُ اللهُ بمعَرفِتِهم وصُحبتِهم والأخذِ عنهم، وشُرْبِ فَضَلاتِ كُؤوسِهم، فسَكِرْتُ بِشَذا خمرَتِهم، وتَعلّقتْ روحي بهم، وتَشَوَّفَتْ نَفْسي إلى مغانيهِمُ، واسْتَشْرَفَ عَقلي ولُبّي مَعانيهِمُ. فإليكَ ـ عزيزي القارئ، الفَصْلَ في قَضِيَّةٍ شَغَلَتِ الكثيرين ممَّنْ قَرَؤوا أَشعارَهم، واسْتَمعَوا إلى غَزَلِهم. واللهُ الموفّقُ إلى صالحِ الأعمالِ فهو القصدُ وعليه التُكْلان.
ربّنا افتحْ بَيْنَنا وبين قومِنا بالحقِّ وأَنْتَ خيرُ الفاتحين. اللّهمَّ عَلِّمْنا ما يَنفَعُنا، وانْفَعْنا بما عَلَّمْتَنا إنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قديرٌ، وبالإجابةِ جَديرٌ، ربَّنا عَليك تَوَكَّلْنا وإَليكَ أَنَبْنا وإليكَ المصيرْ.
الثالث من ذي الحجة: 1429هـ
عبد القادر الأسود