المرأةُ في الغزل الصوفيِّ (3)
الباب الثاني :
نظرة السادة الصوفية إلى الكون
اِسْتَمَدَّ السادةُ الصوفيُّون نَظرتَهم إلى الكونِ من الشرعِ الحنيفِ، فهو (أَيْ الكون) ما خُلِقَ إلاّ لِتَظْهَرَ عَلَيْهِ تَجَلِّيَّاتُ الخالِقِ سَبْحانَه، ولِتَظهرَ فيهِ أَسرارُ حِكمَتِه وبَديعُ صَنْعَتِه، وإلاَّ فَليسَ لَهُ أَيَّةُ قِيمَةٍ بِذاتِهِ، فَظهورُ الحقِّ فيه عِلَّةُ وُجودِهِ، وهو قائمٌ بِقَيُّومِيَّتِهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، مُسْتَمِرٌّ بمَدَدِهِ.
يقولُ في كتابِهِ العزيز ـ جَلَّ مِنْ قائلٍ: {هوَ الأَوَّلُ والآخِرُ والظَاهِرُ والباطِنُ}. (1). فإذا كَانَ الحقُّ سُبْحانَه، هوَ "الظاهرُ" وهو "الباطنُ" وهو "الأَوَّلُ" وهو "الآخرُ"، فهل ثمَّةَ وُجودٌ ـ على الحَقيقَةِ، لِشَيْءٍ مَعَهُ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ بَعدَهُ؟ وهلْ قبلَ الأَوَّلِ شيءٌ؟ أوْ هل بعدَ الآخِرِ شيءٌ؟، وهلْ فوقَ الظاهرِ شيءٌ؟ وهلْ تحتَ الباطنِ شيءٍ؟ فهو الحقُّ ـ سبحانَهُ وتعالى، وماذا بَعْدَ الحَقِّ إلاَّ الضلالُ؟. إذاً فالكونُ، بما فيه، ومَنْ فيه مجَازِيُّ الوُجُودِ حادِثٌ زائلٌ، بِهِ تَعالى وُجِدَ وبه قامَ، ولولاهُ لما وُجِدَ ولا قامَ ولا كان لَهُ اسْتِمرارٌ لحظةً مِنَ الزمانِ، ولا أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ ولا أَكَثَرْ .
يَقولُ العارِفُ باللهِ أَحمدُ بْنُ عَجيبَةَ، شارِحُ الحِكَمِ العَطائيَّةِ لابْنِ عطاءِ اللهِ السَكَنْدَرِيِّ، في شَرْحِهِ لحِكْمَةِ ابْنِ عَطاءَ التي يَقولُ فيها: (الكونُ كُلُّهُ ظُلْمةٌ وإنَّما أَنارَهُ ظُهورُ الحَقِّ فيهِ): الكونُ مِنْ حَيْثُ كَوْنِيَّتِه وظًهورِ حِسِّهِ، كُلُّهُ ظُلْمَةٌ لأنّهُ حِجابٌ لمن وَقَفَ مَعَ ظاهِرِهِ عَنْ شُهُودِ رَبِّهِ) . (2)
ويَقولُ الشَيْخُ الجَليلُ السَّيِّدُ عَبْدُ الكريمِ الجِيلِيِّ، حَفيدُ الشَيْخِ السيِّدِ عَبْدِ القادِرِ الجَيْلانيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: الحمْدُ لمَنْ قامَ بِحَقِّ حمْدِهِ اسْمُ اللهِ، فتَجَلَّى في كُلِّ كَمالٍ اسْتَحَقَّهُ واسْتَوْفاهُ، حَقِيقَةِ الوُجُودِ المُطْلَقِ ... مَحْتِدِ العالَمِ الظاهرِ على صُورَةِ آدَمَ ... رُوحِ صُوَرِ المُخْتَرَعاتِ، المَوْجُودِ بِكَمالِهِ، مِنْ غَيْرِ حُلولٍ، في كُلِّ ذَرَّةٍ، اللائحِ جمالُ وجهِهِ في كُلِّ غُرَّةٍ، بِصِفاتِهِ جَمُلَ الجَمالُ وَعَمَّ، وبذاِتهِ كَمُلَ الكَمالُ فَتَمَّ، لاحَتْ محَاسِنُهُ على صَفَحاتِ خُدودِ الصِفاتِ واسْتَقامَتْ بِقَيُّوميَّةِ أحديَّتِهِ قُدودُ الذاتِ، كما يَشاءُ ظَهَرَ في كُلِّ ذَاتٍ بِكُلِّ خَلْقٍ. (3).
وفي كتابِهِ المُسُمَّى (نَسيمُ السَحَرِ) يقولُ الجِيليُّ أيضاً ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَلا تَرى أَنَّ الحقَّ ـ سبحانَهُ وتَعالى، لمّا أَرادَ ظُهورَهُ مِن عِلْمِهِ بالعَيْنِ، خَلَقَ العالمَ َوصَوَّرَهُ على صُورَتِهِ في حَضْرَةِ الأَيْنِ، ثُمَّ تجلَّى عَلى العالمِ بِأَسمائِهِ وصِفاتِهِ، فَعَرَفَهُ كُلُّ ذِي سَمْعٍ وعَيْنٍ، فالمَعْرِفَةُ نَتيجَةُ التَناكُحِ المَعْنَوِيِّ، أَيْ دُخولُ حُكْم الأَسْماءِ الإلهيَّةِ والصِفاتِ الرَبّانيَّةِ في حقائقِ العالمَ، فكانَ العالَمُ مخلوقاً مِنْهُ كما خُلِقَتْ حَوَّاءُ مِنْ آدمَ. ثمَّ يَقولُ في ذاتِ الموضوعِ والمَعنى شِعْراً نَقْتَطٍفُ مِنْهُ هَذيْنِ البَيْتَيْنِ:
تَلوينُ هَذا الحُسْنِ في وَجَناتِهِ ............... أَبَداً ولا تَلوينَ في طَلَعاتِهِ
فإذا تَرَكَّبَ حُسْنُ طَلْعَةِ شادنٍ ........ مِنْ كلِّ حُسْنٍ فهو واحدُ ذاتِهِ
فالحُسْنُ إذاً ـ كما يَرَى السَيِّدُ الجِيليُّ، مَصْدَرُهُ واحدٌ وإنْ تَعَدَّدتْ مَظاهرُهُ، فالجَميلُ واحدٌ، وهو الحقُّ ـ جَلَّ شأْنُهُ، ولكنَّ تجليّاتِهُ متعدِّدةٌ، وكذلك مَظاهرُهُ، فلو أَمْكنَ لجميلٍ أنْ تجتَمعَ فيهِ كلُّ مَظاهرِ الحُسْنِ والجمالِ، لَكَانَ هذا الجميلُ اللهَ الواحِدَ ذَاتَهُ بِلا شَكٍّ ولا رَيْبٍ، لأَنّهُ سَيَكونُ عِنْدَها كامِلاً ولا كامِلَ سُوَى الحَقِّ ـ جَلَّ وعَلا. وكَما سَيَتَجَلَّى سُبْحانَهُ، عَلى عِبادِهِ في الآخِرَةِ بِصُورٍ مُخْتَلِفَةٍ كما وَرَدَ في صَحيحِ مُسْلِمٍ وغيرِهِ عَنْ سَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم، فإنَّه يَتَجَلَّى لِقُلوبِ عِبادِهِ المُؤمنينَ في الدُنْيا بِصُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، كَما يَنْبَغي لِذاتِهِ، مِنْ غَيْرِ تَشْبيهٍ ولا تَكَييفٍ. فقد أخرج منْ حديث أبي هُريرةَ ـ رضي اللهُ عنه، قوله ـ صلى الله عليه وسلم: (( ... يجْمَعُ اللهُ النَّاسَ يوْم القِيامةِ، فيقول: مَنْ كان يَعْبُدُ شيئاً فَلْيَتْبَعْهُ، فَيَتْبَعُ منْ كانَ يَعْبُدُ الشَّمْسَ الشَّمْسَ، وَيَتْبَعُ مَنْ كان يَعبُدُ القَمَرَ القَمَرَ، ويتْبَعُ مَنْ كانَ يَعْبُدُ الطَّواغيتَ الطَّواغيتَ، وتبقَى هذه الأمَّةُ فيها مُنافِقُوها، فيَأْتيهمُ اللهُ في غيرِ الصورةِ التي يعرفونَ، فيَقُولُ: أَنَا ربُّكُم، فيقُولونَ: نعوَذُ باللهِ مِنْكَ، هذا مكانُنا حَتَّى يأْتيَنا ربُّنا، فَإِذا جَاءَنا رَبُّنا عَرَفْناهُ، فيأْتيهمُ اللهُ في صُورَتِهِ التي يَعْرِفُونَ، فيقولُ: أَنَا ربُّكُمْ، فَيَقُولونَ: أنْتَ ربُّنا، فيَتْبَعُونَهُ، ..)). (4).
ويتجلى ـ عزَّ وجلَّ، لأبي بكرٍ ـ رضيَ الله عنهُ بصورةٍ خاصٍَّ به لا يتجلى بها لغيرهِ فقد أخرج الحاكم من حديثِ جابرِ بْنِ عبدِ الله رضي الله عنهما: (( .. فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: يا أبا بكر أعطاك الله الراضون الأكبر فقال له بعض القوم و ما الرضوان الأكبر يا رسول الله قال: يتجلى الله لعباده في الآخر عامة و يتجلى لأبي بكرٍ خاصَّة)). (5)
والعارفون يَرَوْنَهُ في الدُنْيا في جميعِ الصُوَرِ والتجليّاتِ، في حين يُحْجَبُ عَنْها أَهْلُ الحجابِ، أَلمْ يَرَهُ سيّدُنا موسى ـ عَلَيْه السلامُ، في الجَبَلِ لمّا تَجَلَى لَهُ فيهِ فَصَعِقَ مُوسى لِعَظَمةِ تَجلّيه سبحانه؟ ولكنَّ المُؤمنين الذين سَيُنْعِمُ اللهُ عليهم بِرُؤْيَتِِه في الجنَّةِ سَوْفَ يُؤتَوْنَ في الآخِرَةِ طاقةَ احْتِمالِ مُشاهدةِ هَذِهِ العَظَمَةِ، مُتَجَلِّياً عَليهم بجَمَالِهِ ـ جَعَلَنا اللهُ منهم، أَمّا في الدُنيا فإنَّ الأَبْصارَ مُهَيَئَةٌ لمشاهدةِ المَخْلوقاتِ وحَسْبُ، ولذلك فلا سَبِيلَ إلى مُشاهَدَتِهِ إلاَّ في المَظاهِرِ الماديَّةِ لهذِهِ التَجَلّياتِ. يقولُ الشيخُ إبراهيمُ الدَسُوقيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنه:
سقانيَ محبوبي بكأسِ المحبَّةِ .......... فتِهتُ على العُشّاقِ سُكراً بخلوتي
ولاح لنا نورُ الجَلالةِ؛ لو أَضَا .......... لِشُمِّ الجبالِ الراسياتِ لَدُكَّتِ
وكنتُ أنا الساقي لمن كان حاضراً ....... أَطوفُ عليهم كرَّةً بعدَ كَرَّةِ
تجلّى ليَ المحبوبُ في كلِّ وُجْهَةٍ ......... فشاهدْتُهُ في كلِّ مَعنًى وصُورةِ
(6)
وكلُّ ما في الوجود هو مظاهرُ لتجلّياتِ الذاتِ الإلهيّةِ. يقولُ ربُّنا ـ جَلَّ في عُلاه: {وللهِ المَشْرِقُ والمغربُ فأَيْنَما تُولّوا فثَمَّ وَجْهُ اللهِ إِنَّ اللهََ واسِعٌ عَليمٌ}. (7). فمَنْ أَنْتَ أيُّها الإنسانُ لِتَغْتَرَّ بِنَفْسِكَ فَتَرى لَكَ، أَوْ لِغَيرِكَ مِنَ المَوْجُوداتِ، وُجُوداً مُسْتَقِلاًّ عَنْهُ؟ فاسْتِمِعْ إلى ربِّك: {الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فعَدَلَكَ، في أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ}, (
. واشْهَدْهُ في جميعِِ مَظَاهِرِهِ واحِداً أَحَداً لا نِدَّ لَهُ ولا شَريكَ لَهُ في وُجُودِهِ. يقولُ أَحَدُ العارفين :
إيّاكَ تَشْهَد غيرَهُ وَدَعِ العَنا ............ لا أَنْتَ في هذا الوُجودِ ولا أَنَا
إنَّ الوجودَ هو الحقيقيُّ الذي ............... كُنَّا بِهِ وبِهِ نَعُودُ إلى الفَنا
واسْتَمِعْ إِلَيْه يُذَكِّرُكَ بمبدأِ خلقِكَ وحقيقةِ نَفْسِكَ، إذْ يقولُ في محكمِ كِتَابِهِ العزيزِ: {هَلْ أَتى على الإنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً * إِنَّا خَلَقْنا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ، أَمْشاجٍ نَبْتَليهِ فَجَعَلْناهُ سميعاً بَصيرا}، (9) ولم يَدَعْكَ ربُّك بَعْدَ أَنْ خَلقك هكذا، بَلْ إنَّهُ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، يُمِدُّكَ بالحياةِ في الأَنْفاسِ واللّحظات: {كُلاًّ نُمِدُّ هؤلاءِ وهؤلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ، وما كانَ عطاءُ ربِّكَ محظوراً}. (10). ولا أَنْتَ عنه بِبَعيدٍ، ولا هو عَنْك بِغافِلٍ: {ولَقَدْ خَلَقْنا الإنسانَ ونَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ونحنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوَريدِ}. (11). وهوَ مُعيدُكَ ومحاسِبُكَ يَوْمَ القيامَةِ، وقدْ أقامَ عَليكَ الحُجَّةَ والشُهُودً: {إِذْ يَتَلَقَّى المُتَلَقِّيانِ عَنِ اليَمينِ وعَنِ الشِمَالِ قَعيدٌ * ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلاَّ لَديْهِ رَقيبٌ عَتيدٌ * وجاءَتْ سَكْرَةُ الموتِ بالحقِّ، ذَلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تحَيد}. (12). إذاً أَيْنَ هوَ مِنْكَ وأَيْنَ أَنْتَ مِنْه، إذا كانَ أَقْرَبَ إِلَيْكَ مِنْ حَبْلِ وَريدِكِ، ذاكَ الشِرْيانِ الذي يخرُجُ مِنْ قَلْبِكَ لِيَتَفَرَّعَ في جِسْمِكَ، وهوَ سبْحانَه, يَعلَمُ ما تُحدِّثُكَ بِهِ نَفْسُكَ؟! فاحْذَرْ أَنْ تَغْتَرَّ بِنَفْسِكَ فتَعْصِيَهُ، وإنَّ مِنْ أَعْظَمِ الذَنْبِ، وأَفظَعِ المَعْصِيَةِ أَنْ تَرى لِنَفْسِكَ أَوْ لِغَيْرِكَ مِنَ المَخْلوقاتِ أَيَّ وُجُودٍ مُسْتَقِلٍّ عَنْهُ، وليس لَكَ مِنْ عَمَلِكَ إِلاَّ النِيَّةُ، أَوِ الاخْتِيارُ، أَوِ التَوَجُّهُ، الذي إنَّما عَلَيْه وحَسْبُ حِسابُك. يَقولُ الرَّسولُ الكريمُ ـ عليهِ أَفْضَلُ الصَلاةِ وَأَتمُّ التَسْليمِ: ((إنَّما الأَعْمالُ بالنِيَّاتِ، وإنَّما لِكُلِّ امْرِئٍ ما نَوى)) . (13). فأَنْتَ لَيْسَ لَكَ مِنْ العملِ إلاّ النيَّةُ فقط، لأنَّ العملَ مخلوقٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ، مثلُك: {واللهُ خَلَقكم وما تَعملون}. (14). وكلُّ ما في الكونَ مِن خلقِ اللهِ وتَدْبيرِهِ ـ جَلَّ شأنُهُ، فإيَّاكَ ثمَّ إيّاكَ أَنْ تَرى لَكَ، أَوْ لِغَيْرِكَ مِنَ الخَلْقِ، أَيَّ وُجُودٍ مَعَهُ، فهوَ مِنَ الشِرْكُ: {إنَّ اللهَ لا يَغفِرُ أنْ يُشرَكَ بِهِ ويَغفِرُ ما دُونَ ذَلِكَ لمنْ يَشاءُ}. (15).
ولنُقرِّبَ إلى أَفهامِنا هذِهِ المَسْأَلةَ، في تَعدُّدِ المَظاهِرِ لِذاتٍ واحِدَةٍ نَضَرِبُ المِثالَ الآتي، وللهِ المثلُ الأَعْلى: إذْ إنَّ التَيّارَ الكَهربائيَّ يَسْري في الأَسْلاكِ فيَظهرُ بمظاهرَ مختلفةٍ، مُتَنَوِّعَةٍ بِتَنَوُّعِ الأَجْسامِ التي يظهرُ فيها، فيَكون في المِصباحِ ضَوءً مُتَوَهِّجاً بِلَوْنٍ أَبيَضَ، أَوْ أَخْضَرَ، أَوْ أَحمرَ، أَوْ أَصْفَرَ، أَوْ أَزْرَقَ، أَوْ غَيرَ ذَلِكَ، بِحَسَبِ لَوْنِ الزُجاجِ الي يُظْهِرُهُ تجلِّيهِ فيه وإلاَّ فإنَّه لا لَونَ لَهُ، ويَسْرِي في التِلْفازِ، فيكونُ لَهُ مَظْهَرٌ مختلِفٌ آخَرُ, مِنْ صَوْتٍ وصورَةٍ، والتيَّارُ إنّما أَبْدَى هذِهِ المُظَاهِرَ حَينَ مَرَّ فيها وليستْ من طبيعتِهُ هوَ، أَمَّا في المِذْياعِ، فإنَّ هذه الطاقةَ تكونُ صَوْتاً وحسْب، فإذا سَرَى في آلةٍ أُخرى: مِكْنَسَةٍ، أَوْ غَسَّالَةٍ، أَوْ مِرْوَحَةٍ، أَوْ مِدْفَأَةٍ، أظْهَرَتِ الطاقةُ الكامنةُ في هذا التَيّارُ ما يُناسِبُ طبيعةَ الآلَةَ التي سَرَتْ فيها، حيثُ يَكُونُ هنا حَرَكَةً وهناك حَرارةً أَوْ حركةً وهَكَذا، والتَيَّارُ واحدٌ وتلك المظاهِرُ كلُّها إنَّما ظهرتْ بالطاقة التي أمَدَّها بها التيَّارُ الكهربائيُّ وليسَتْ من طبيعته. وكذلكَ الشَمْسُ تُرْسِلُ أَشِعَّتَها فتَرْفعُ مِنْ دَرَجَةِ حَرارَةِ الأَرْضِ باعِثَةً فِيها الدِفْءَ والخِصْبَ والحياةَ، فتُنْبِتُ الزُروعَ، وتُحَرِّكُ الهواءَ، وتُساهمُ في تَكوين غِذاءِ النَباتاتِ، وتَقْتُلُ الكَثيرَ مِنَ الجَراثيمِ والحشراتِ والبكترياتِ، وتَبُثُّ الحياةَ في مخلوقاتٍ أُخْرَى بِمَشِيَئَتِهِ وقُدْرَتِهِ، سبحانَه. وتَسْقُطُ أَشِعَّتُها على سَطْحِ الماءِ، في المحيطاتِ والبِحارِ، فتُبَخِّرُ مِنْهُ ما شاءَ رَبُّها لتَتَشَكَّلَ الغُيومُ التي تتساقطُ عَلى الأَرْضِ قَطراتٍ تُحْيي مَواتَها، وهي قبلَ هَذا وبَعْدَهُ مَصْدَرُ الضَوْءِ في النَّهارِ، وفي اللَّيْلِ حَيْثُ تَنْعَكِسُ أَشِعَّتُها عَلى سَطْحِ القَمَرِ فيكونُ لها ضَوءٌ آَخَرُ مخْتَلِفٌ عَنْ ضَوءِ النهارِ .وكلُّ هذهِ المظاهِرِ وغيرُها كَثيرٌ، يَصْعُبُ حَصْرُهُ، لِجُرْمٍ واحِدٍ هُوَ الشَمْسُ، مَظاهِرُ وفَوائِدُ لا يُحصيها إلاَّ خالِقُها ـ جَلَّ وعَلا. الذي خلَقَ الخلائقَ وقَدَّرَ الأقدارَ.
وهذه كلُّها أَمْثِلةٌ لِتَقْريبِ المَسْأَلَةِ للأذهان، وتَبْسيطِها للأفهام، ولكنْ شَتّانَ ما بَينَ الخَلْقِ والخالِقِ الذي ليسَ كَمِثلِهِ شَيْءٌ، إِنَّما هِيَ مِنْ المَلْموسِ المحسوسِ الذي يُمْكِنُ للعَقْلِ إِدْراكُهُ واسْتِيعابُهُ وفَهْمُهُ، فَنَحْنُ نُعايِنُ ذَلِكَ ونَلْمَسُهُ ونُحِسُّ بِهِ كُلَّ يَومِ. وهذه المظاهرُ هيَ في الخَلْقِ عارِيَةٌ مُسْتَرَدَّةٌ، لِيُعْرَفَ اللهُ، فالجَميلُ مِنْها لِيَدُلَّ على الجَميلِ، وما فيها مِنْ مَظاهِرِ القُوَّةِ لِيَدُلَّ على القَوِيِّ، وسمْعُها يَدُلُّ عَلى السَميعِ، وكذلكَ بَصَرُها، وقُدرَتُها، وعِلْمُها، وسائرُ صِفاتِها ومَظاهِرِها، فلولا الجمالُ الظاهرُ المجازيُّ ما عَرَفْنا الجَمالَ المُطْلَقَ الأَزَليَّ الأَبَدِيَّ، ولولا هذا البَصَرُ الحادِثُ ما عُرِفَ كَيْفَ يَكُونُ الإبْصارُ، وهكذا ...