والحُبُّ هذا الذي (يُعْمي ويُصمّ} كما قالَ النبيُّ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْه وسَلَّمَ: ((حُبُّكَ الشيءَ يُعمي ويُصِمُّ)) (24) والذي قيلَ فيه :
أَصَمَّني الحُبُّ إلاّ عَنْ تَسامُرِهِ ..... فمَنْ رَأى حُبَّ حِبٍّ يُورِثُ الصَمَما
وكفَّ طَرْفي إلاّ عَنْ رِعايَتِهِ ......... والحُبُّ يُعمي وفيه القتلُ إنْ كُتِما
(25)
والحُبُّ، بعد ذلك، هو هذه العلاقة "التجاذبيّةُ" التي تَسري في الوجودِ فتَبُثُّ فيه الحياةَ، وهذه العلاقةُ هي سببُ وجودِهِ واستمرارِهِ، من النجومِ والكواكبِ وبقيَّةِ الأجرامِ السماويَّةِ، إلى الذَرَّةِ ـ التي هي أصغرُ مَوجودٍ، مُروراً بالإنسانِ والحيَوانِ والنباتِ.
فمعلومٌ أنَّ الأجرامَ السمَاويَّةَ ثابتةٌ في مَداراتها بالقوّةِ الجاذبةِ التي تعادلُ القوَّة َالنابذةَ المتولِّدةَ عن سُرعةِ الجَرْيِ في الفضاء، ولولا هذه الجاذبيَّةُ لتناثرتْ واصطدمَ بعضُها بالآخرِ فاحترقتْ وتفتّتتْ.
ومعلومٌ أيضاً أنَّ في الذَرَّةِ شُحَناً سالبةً وأُخرى موجِبَةً، ولكلٍّ منها مَسارُهُ ودائرتُهُ، وإنَّ بقاءها قائمٌ على هذه المعادلةِ التي إذا اختلّتْ دُمِّرَتِ الذرّةُ ودَمَّرتْ ما حولهَا .
أمَّا الكائناتُ الحيَّةُ، من إنسانٍ وحَيَوانٍ ونَباتٍ، فإنّ وجودَها جميعاً، قائمٌ على تلك العلاقةِ الحُبِّيَّةِ التَجاذُبِيَّةِ بين طرفَيْها، المذكّرِ والمؤنّثِ، وهي إنْ لم تكن مضبوطةً بقواعدَ ونُظُمٍ أيضاً اختلّت، وإذا اختلت دَمَّرتِ المجتمعَ الإنسانيَّ، فأصبح أقرب إلى البهيميّة، ولذلك فإنّ الشرع الحنيف، وضع لها نظاماً ضابطاً فيه مصلحةُ المجتمع وخيره .
فالحُبُّ، إذاً، هو الذي يحافظُ على بقاءِ هذا الوجودِ، وعلى استمراريَّتِهِ ولنا في هذا المعنى :
فالحُبِّ بالكونِ قَوّامٌ وأنهُرُنا ................. بحارُهُ وبِنا الأكوانُ تحتفلُ
ما ضَرَّنا أنْ تَعامى عن شريعتِنا ...... قومٌ؟ فقد كُذِّبتْ من قبلِنا الرُسُلُ
(26)
والإنسان بلا حُبٍّ ليس بموجودٍ ذا قيمةٍ ، بالغاً ما بلغ ، ولا شأنَ لهُ ـ في نَظَرِ القدّيس بولس الرسول، يقول: (لو تكلّمتُ بلغات الناسِ والملائكةِ ولا مَحَبَّة عندي فما أنا إلاّ نُحاسٌ يَطِنُّ أو صنجٌ يَرِنّ، ولو وهَبَني الله النبوّةَ وكنتُ عارفاً كلَّ سِرٍّ وكلَّ عِلْمٍ ولي الإيمانُ الكاملُ أنقُلُ به الجبالَ، ولا مَحَبَّةَ عندي فما أنا بشيءٍ (27)، (والحبُّ عند الشيخ الشاذلي ـ رضي الله عنه، هو أنْ تحِبَّ اللهَ وأنْ تحبَّ مَن أحببتَه لوجْهِ اللهِ على أنَّه خَلقٌ من خلقِه، يقول: (مَن أحَبَّ اللهَ، وأَحَبَّ للهِ فقد تمَّتْ وِلايتُهُ بالحُبّ). (28)
يقول العلامة الألوسي في تفسيره: إن جميع الموجودات تشترك في نوع من الخير لا تكاد تفيء عنه وهو العشق فقد برهن ابن سينا على سريان قوة العشق في كلِّ واحدٍ من الهويات.
والحكماء المتألِّهون قد حكموا بسريان نور العشق في جميع الموجودات على تفاوت طبقاتها ولولا ذلك ما دار الفلك ولا استنار الحلك فسبحانه من إله قاهر وهو الأول والآخر .
والحُبُّ هو السببُ الذي من أجله كان هذا الوجودُ، يقول الشيخُ الجيلي: (الحُبُّ أوّلُ تَوَجُّهٍ مِنَ الحَقِّ لوُجودِ العالمَ). (29). وذلك لما جاء في الحديث القدسيِّ: كنتُ كنزاً مخفيّاً فأَحببتُ أنْ أُعرفَ..) (30) {الحديث} ويضيف الجيليُّ أيضاً، في كتابه المسمّى ب "نسيم السَحَر:
الحُبُّ أَوَّلُ ذا الوُجودِ المُطلَقِ ............ والحُبُّ أخرجكم لخلقٍ مُرْتَقِ
بالحُبِّ كان الاِبْتِدا لِوُجودِنا ............... وبهِ الخِتامُ لمن دَرى بتحقُّقِ
لولا مَقامُ الحُبِّ أَعلى رُتبةً ............ ما كان اِسْمُ حبيبِهِ العبدَ التقي
فالحُبُّ عِلّةُ كلِّ أمرٍ ظاهرٍ ............... والحُبُّ شيمَةُ كلِّ عبدٍ مُتّقي
ليت شعري: هل علمتَ لِمَ أَحَبَّ المعبودُ ظهورَ هذا الوجود؟ أحبَّهُ لأنَّهُ أوجدَهُ نُسخةَ جمالِه وجلالِه، فكان بوجودِ العالمَ ِظُهورُ كمالِه، فأراد شُهودَ باطنِ صورةِ نفسِهِ في ظاهر ِالحِسِّ المجعولِ مِرآةً لقدسِهِ، ومَظهراً لهيبَتِهِ وأُنْسِهِ، فنَفْسُهُ المحبوبَةُ المَشهودةُ، ومَلاحَتُهُ المطلوبَةُ الموجودةُ، وكذالك محبَّةُ آدم لحواءَ لكوِنها خُلقتْ من ضِلْعِهِ شخصاً مستوياً، فالمحبوبُله إذاً، نَفْسُهُ والمَرغوبُ إليه حُسنُه، والمُشاهِدُ له حِسُّهُ). (31)
يقول الأب جورج رحمة تعقيباً على الحديث السابق (كنتُ كنزاً مخفيّاً .. ) برواية قريبة وبنفس المعنى: (يا لَلْعَجَب !! اللهُ في حاجةٍ إلى الإنسان، لا كضرورةٍ داخليَّةٍ أو خارجيَّةٍ تَدْفعُهُ إلى خلقِهِ ، بل كرغبةٍ صافيةٍ وإرادةٍ رشيدةٍ ليُشرِكَ في غِبطَتِهِ الإنسانَ الذي خلقَهُ على صورتِهِ كمثالِهِ) . (32)
ولذلك فإنَّ الحبَّ إنّما يستغرق الوجودَ كلَّ بما فيه، ومن فيه، وهذا الحبُّ هو سببُ استمرار هذا الوجود، وهو سببُ ازدهارِهِ، كما كان سببَ وجودِه . وفي هذا المعنى أقول :
أنا روحٌ تضُمُّ الكونَ حبّاً .................... وتُطلِقُهُ فيزدهرُ الوجودُ
والمحبَّةُ عند الجُنَيْدِ ـ رضيَ الله عنه: (دخولُ صفاتِ المحبوبِ على البَدَلِ من صفاتِ المحبِّ). (33) وسُئل يوماً عن المحبَّةِ فأطرقَ رأسَهُ ودَمعتْ عيناهُ فأجاب: عبدٌ ذاهبٌ عن نفسِه، متَّصلٌ بذكرِ ربِّهِ، أحرقَ قلبَه أَنوارُ هَيبتِهِ، وصفاءُ شُرْبهِ من كأسِ وِدِّهِ، وانْكِشفَ لهُ الجبّارُ عن أَستارِ غيبِهِ ، فإنْ تكلّم فبالله، وإنْ نَطقَ فعن اللهِ، وإن تحرَّك فبأمرِ اللهِ، فهو باللهِ وللهِ ومع الله). (34) أمّا ذو النون المصريُّ ـ رحمه الله تعالى، فإنَّه يقول: إنّ للهِ عباداً مَلأَ قلوبَهم من فيضِ محضِ محبَّتِهِ، وفَسَح أَرواحَهم بالشوقِ إلى رؤيته (35).
ويقول الأستاذُ محمّدُ الراشد
إنّه الحبُّ ، فبِالحُبِّ الإلهيِّ وحدِهِ يحيا الصوفيُّ، لذلك كان هاجسَهُ الأبَديَّ السعيُ الحثيثُ إلى مَعرفةِ مَنْ يحبُّ). (36)
يقول السيد أحمد بن محمد ديركي الهاشمي في مَعْرِض شَرْحِهِ القصيدةَ العينيَّةَ للشيخ عبد الغني النابلسيِّ ـ رحمه الله: الحبُّ تفاعلٌ بين الأسماء الشريفةِ الحسنى والذات المقدَّسةِ عن الأفهام والتصاوير، وأصلُ الحبِّ إشعاعٌ مبثوثٌ من الذات وهي "الحبيب" فالحبيبُ هو الاسم الأعظم الذي يبحث عنه كلُّ العلماءِ والعُبّادِ .
وليس الاسمُ مجرَّدَ لفظٍ فقط، بل تفاعلٌ بين قطبين، والقطبان موجودان في كلِّ شيء، فما إنْ يتمُّ التفاعلُ حتّى يظهَرَ الحقُّ ويَبْطُلَ الفاني .
ولا يتمُّ التفاعلُ سوى بحبَّ النقيضين وإرجاعهما لأصلٍ واحدٍ انبعثا منه، وهو {الحبيب} فسِرُّه سارٍ في كلِّ الأجساد والأرواح والأشباح والأشياء من الذرَّة إلى المجرّة ، بل هو ذاته كلُّ هذا ، فلا موجودَ سواهُ ، ولا إله إلاّ الله .. وكلُّ شيءٍ قد أخذ من الحبيب ما قد أعطاه له الحبيب ، لذا تباينت أفهام كلٍّ من المخلوقات ، الواحد منهم عن الآخر ، ففهِمَ كلُّ مخلوقٍ الحُبَّ خلافَ الذي فهِمَهُ الآخرُ ، وتلك عموميَّةٌ على كلِّ الخلقِ والأشياءِ:
1- فالسالبُ يَطلُبُ الموجِبَ لاستكمال الدائرةِ الكاملة .
2- والذكرُ يطلُبُ الأنثى ليستكملَ نقصَهُ ونقصَها بكمالهما معاً.
3- والصانعُ يطلُبُ المصنوعَ لأنَّه جِزءٌ منهُ ، أو من فكرِه أو جُهْدِه .
4- والروحُ تطلُبُ النفسَ لتقومَ بها في عالم الظهور .
5- والنفسُ تطلُبُ الهوى لاستكمالِ صراعِ البقاءِ والظهورِ والنسلِ .
6- والهوى يطلُبُ الطيّباتِ يُزيِّنُ بها ذاته. (37).
ولا محبَّة بغيرِ معرفةٍ تامّةٍ بمن تُحبّ ، فكلَّمَا عَرَفَ المُحِبُّ محبوبَه كلَّما ازدادت محبَّتُه له، وإنّما تكونُ المحبَّةُ على قدَرِ المعرفةِ .يقول الإمام الغزاليُّ: (وأصل الحب لا ينفك عنه مؤمن لأنه لا ينفك عن أصل المعرفة اعلم أن المؤمنين مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبة ولكنهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا إذ الأشياء إنما تتفاوت بتفاوت أسبابها). (38) ثمَّ إنَّ هذه المحبَّةَ هي قَدّرٌ على العبدِ ، فالقلوبُ بين أُصبعين من أصابعِ الرحمنِ يُقَلِّبُها كيف يشاءُ ،كما نَصَّ الحديثُ الشريفُ: ((إنَّ القلوبَ بين أُصبعين من أصابع الرحمن يُقَلِّبُها كيف يَشاء)). (39) وفي هذا المعنى أقول:
فالحُسْنُ مًظْهَرُهُ والقلبُ في يَدِهِ ..... والحُبُّ قِسْمَتُهُ، مَنْ يَغْلِبُ القَدَرا؟
روحٌ تُحِبُّ، وروحٌ يُسْتَهامُ بها ...... والروحُ واحدةٌ، فاسْتعمِلِ النظَرا
(40)