وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ
(86)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} في الآية التي سبقتها دعا أتباعُ ـ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، رَبَّهم أَنْ لا يَجْعَلَهمْ فِتْنَةً لقومِ فِرعَوْنَ الظَالمين، وهُنا يُتابِعونَ سُؤالَهم مَوْلاهم أَنْ يُنْقِذْنَهم بِرَحْمَتِهِ وَلُطْفِه وَإِحْسَانِكَ وفضلِهِ، مِنْ فِرْعونَ و قومِهِ الذِينَ كَفَرُوا بِالْحَقِّ وَجَحَدُوهُ، وَقد تقدَّمَ أنَّ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ كانوا يَسْتَعْبِدُونَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَيُكَلِّفُونَهُمْ بِأَشَقِّ الأَعْمَالِ وَأَحَطِّهَا وَأَقْذَرِهَا.
ويجوز أَنْ يكون المُرادُ مِنَ القومِ الظالمينَ الملأَ الذين تخوَّفوا منهم، ومِنَ القومِ الكافرينَ ما يَعمُّهم وغيرَهم، وفي تقديمِ التَوَكُّلِ على الدُعاءِ تلويحٌ بأَنَّ بناءَ الداعي دُعاءَهُ على التَوَكُّلِ على اللهِ تَعالى أَرْجى للإجابَةِ لأنَّهُ أَحَدُ الأَسبابِ لبلوغِ المقصودِ، إذِ التَوَكُّلُ قطْعُ الأَسبابِ وعدمُ الاعتمادِ عليها، وقصرُ الاعتمادِ على مُسَبِّبِها ـ عَزَّ وَجَلَّ، والاعتقادُ بأَنَّ الأمرَ مَرْبوطٌ بمَشئَتِهِ سُبْحانَهُ، فما شاءَ كانَ وما لم يَشَأْ لم يَكُنْ، وقدْ صَرَّحوا أَنَّ الشَخْصَ إذا تَعاطى الأسبابَ مُعتَقِداً الفعلَ لمُسبِّبِها وليس لها يُعَدُّ مُتَوَكِّلاً بل هذا هو المطلوبُ من المؤمن شرعاً، ومِثْلُ التَوَكُّلِ في عَدَمِ المُنافاةِ للدُعاءِ على ما تُشْعِرُ بِهِ الآيَةُ الاسْتِسْلامُ، الذي مِنْ صِفاتِ إبراهيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِين} سورةُ البقرةُ الآية: 131. وكانَ مِنْ آثارِهِ تَرْكُ الدُعاءِ حِينَ أُلقيَ في النارِ واكتِفاؤُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ بالعِلْمِ المُشارِ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (حَسْبي مِنْ سُؤالي عِلْمُهُ بحالي). وذلك حين سأله جبريلُ وهو في الهواء قبل أن يصل النارَ، أَلَكَ حاجة؟ فقال: أمَّا إِلَيكَ فلا. قال: فَسَلْ رَبَّك. فقال: حَسْبي مِنْ سؤالي عِلْمُهُ بحالي، فرَفَعَ همَّتَه عَنِ الخلقِ، واكْتَفى بالواحِدِ الحقِّ، فجَعَلَ اللهُ حظيرةَ النيران روضةً من رياضِ الجِنانِ. ومَنْ عَرَفَ المَقاماتِ، وأَمْعَنَ النَظَرَ هانَ عَلَيْهِ أَمْرُ الجَمْعِ بين التوكُّلِ على الله والأخذِ بالأسباب. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: إنَّما نَجا بِقولِهِ: حَسْبيَ اللهُ ونِعْمَ الوَكيلُ.
قولُهُ تعالى: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} وَنَجِّنَا": فِعْلٌ ومفعولٌ، وفاعلُهُ ضَميرٌ يَعودُ على "اللهِ"، والجملةُ مَعطوفةٌ على جملةِ: "لا تَجْعَلْنَا"، و "بِرَحْمَتِكَ" جارٌّ ومجرورٌ ومُضافٌ إِلَيْهِ مُتَعَلِّقٌ ب "نجَّنا" وكَذا يَتَعَلَّقُ بِهِ الجارُّ والمجرورُ في قولِهِ: "مِنَ الْقَوْمِ"، و "الْكَافِرِينَ" صِفَةٌ ل "الْقَوْمِ".