فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ
(17)
قولُهُ ـ تعالى شأنُهُ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا} لاَ أَحَدَ أَكْثَرُ ظُلْماً، وَلاَ أَشَدُّ إِجْرَاماً مِنْ رَجُلٍ تَقَوَّلَ عَلَى اللهِ، وَكَذَبَ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ مِنَ اللهِ، وَلَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ، وإنْ كانَ سَبْكُ التَرْكيبِ مُفيداً لإنْكارِ أَنْ يَكونَ أَحَدٌ أَظْلَمُ مِنْهُ مِنْ غَيرِ تَعَرُّضٍ لإنْكارِ المُساواةِ ونَفْيِها، فإنَّهُ إذا قِيلَ: مَنْ أَفْضَلُ مِنْ فُلانٍ، أَوْ لا أَعْلَمَ مِنْهُ يُفْهَمُ مِنْهُ حَتْماً أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ كُلِّ فاضِلٍ وأَعْلَمُ مِنْ كُلِّ عالمٍ، وزِيادةُ قَوْلِهِ تعالى: "كَذِبًا" مَعَ أَنَّ الافْتِراءَ لا يَكونُ إلاَّ كَذلكَ للإيذانِ بِأَنَّ مَا أَضافوهُ إليْهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، ضِمْناً وحمَلوهُ عليْهِ صَريحاً مَعَ كونِهِ افْتِراءً عَلى اللهِ تَعالى، هو كَذِبٌ في نَفْسِهِ، فَرُبَّ افْتِراءٍ يَكونُ كَذِبُهُ في الإسْنَادِ فَقَط، كما إذا أُسْنِدَ ذَنْبُ زَيْدٍ إلى عَمْرٍو، وهذا للمُبالَغَةِ مِنْهُ ـ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، في التَفادي عمّا ذُكِرَ مِنَ الافْتِراءِ على اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى. وذلك أنَّه لما قامَتِ الحُجَّة على آيات اللهِ بما لا قِبَلَ لهم بالتَنَصُّلِ مِنْهُ أُعْقِبَتْ بالتَفْريعِ عَلى افْتِرائهِمُ الكَذِبَ، وذلك ممَّا عُرِفَ مِنْ أَحْوالهم، كاتخاذِهِمُ الشُرَكاءَ لَهُ ـ سبحانَه وتعالى، كما أَشارَ إلَيْهِ قولُهُ مِنْ قَبْلُ: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} الآية: 13. من هذه السورةِ، أَيْ: أَشْرَكوا.
قولُهُ: {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} وَلاَ أَظْلَمَ مِنْ رَجُلٍ كَفَرَ بِاللهِ، وَكَذَّبَ بِمَا يَرَاهُ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ، وَبِمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَى رُسُلِهِ، وهذا تَظْليمٌ للمُشْرِكينَ بِتَكْذيبِهم للقُرآنِ وحمْلِهم عَلى أَنَّهُ مِنْ جِهَتِهِ ـ عليْهِ الصَلاةُ والسَلامُ، فَلا مجالَ لحَمْلِ الافْتِراءِ باتخاذِ الوَلَدِ والشَريكِ، أَيْ: وإذا كانَ الأَمْرُ كَذلِكَ فَمَنِ افْتَرى عَليْهِ تَعالى بِأَنْ يَخْتَلِقَ كلاماً فَيَقول: هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ، أَوْ يُبَدِّلَ بَعْضَ آياتِهِ بِبَعْضٍ، كما تَجَوَّزونَ ذَلكَ في شَأْني، وكذلك مَنْ كَذَّبَ بآياتِهِ تَعالى، كما تَفْعلونَهُ فهو أَظْلَمُ مِنْ كُلِّ ظالمٍ.
فلمّا أقامَ الحُجَّةَ عليهم بأنَّ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وأَنَّهُ ما يَكونُ لَهُ أَنْ يَأتيَ بِهِ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِهِ، فَرَّعَ عَلَيْهِ أَنَّ المُفْتَري عَلى اللهِ كَذِباً والمُكَذَّبَ بآياتِهِ كلاهما أَظْلَمُ الناس.
قولُه: {إِنَّهُ لا يفلحُ المجرمون} وَلاَ يُفْلِحُ المُجْرِمُونَ الذِينَ يَلْقَوْنَ رَبَّهُمْ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا كَافِرِينَ. أيْ: لا يَنْجُونَ مِنْ محذورٍ، ولا يَظْفَرونَ بمرغوبٍ، والمُرادُ جِنْسُ المجرمينَ فيَنْدَرِجُ فيهِ المُفْتري والمُكَذِّبُ انْدِراجاً أَوَّلِيّاً.
والآيةُ مُرْتَبِطَةٌ بما قبلَها عَلى أَنَّ المَقصودَ مِنْها تَفاديهِ ـ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، ممّا لوَّحُوا بِهِ مِنْ نِسْبَةِ الافْتِراءِ على اللهِ سُبْحانَهُ، إليه ـ صلى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، وحاشاهُ. وفيها تَظْليمٌ للمُشرِكينَ بِتَكْذيبِهم للقُرآنِ وكُفْرِهم بِهِ.
ومما جاءَ في سَبَبِ نُزولِ هَذهِ الآيَةِ الكَريمَةِ، ما أخرجَ ابْنُ أَبي حاتمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: قَالَ النَّضْرُ وَهُوَ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ: "وَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ شَفَعَتْ لِيَ اللاَّتُ وَالْعُزَّى، فَأَنْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: "فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ".
وأَخرجَ أيضاً عَنْ مُعَاذِ بْنِ رِفَاعَةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا خَلَفٍ الأَعْمَى قَالَ: "كَانَ ابْنُ أَبِي سَرْحٍ يَكْتُبُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الْوَحْيَ فَأَتَى أَهْلُ مَكَّةَ، فَقَالُوا: يَا ابْنَ سَرْحٍ كَيْفَ كَتَبْتَ لابْنِ أَبِي كَبْشَةَ الْقُرْآنَ؟ قَالَ: كُنْتُ أَكْتُبُ كَيْفَ شِئْتُ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَمَنْ أَظْلِمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ .. ".
قولُهُ تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا} اسْتِفهامٌ إنكارِيٌّ مَعْناهُ الجَحْدُ أَيْ: لا أَحَدَ أَظْلَمُ مِنْه، على مَعْنى أَنَّهُ أَظْلَمُ مِنْ كُلِّ ظالم. والفاءُ للترتيب، رَتَّبَتِ الكلامَ عَلى ما سَبَقَ مِنْ بَيانِ كَوْنِ القرآنِ بمشيئتِهِ تَعالى وأَمْرِه.
قولُهُ: {أو كذَّب بآياته} أو: للتقسيم، فهو إمَّا يَقْسِمُ أَحوالاً، وإمَّا يَقْسِمُ أَنْواعاً.
قولُه: {إِنَّهُ لا يفلحُ المجرمون} الضَميرُ في "إنَّ" للشَأْنِ وَقَعَ اسماً ل "إن" والخبرُ ما يَعْقُبُهُ مِنَ الجُمْلَةِ، ومدارُ وَضْعِهِ مَوْضِعَهُ ادِّعاءُ شُهْرَتِهِ المُغْنِيَةِ عَنْ ذِكْرِهِ، وفائدةُ تَصديرِ هذه الجُملةِ بِضمير الشأنِ الإيذانُ بِفَخامَةِ مَضْمُونِها، وقد أُكِّدت الجملةُ بحرفِ التأكيدِ "إنَّ" لِشُمولِ عُمومِ المجرمين المخاطَبين لأنهم يُنْكرونَ أَنْ يَكونوا مِنَ المجرمين.